غاية المرام في رجال البخاري إلى سيد الأنام

سراقة بن مالك

          424 # سُرَاقَةُ بنُ مالِك بن جُعْشُم _بضمِّ الجيم، وسكون المهملة، وضمِّ المعجمة_ الكِنَانِيُّ المُدْلِجِيُّ، يُكنَّى أبا سفيان، كان ينزل قُدَيْداً(1) ، ويُعَدُّ من أهل المدينة، ويقال: سكن مكَّة.
          روى عنه من الصَّحابة: جابر، وابن عباس، ومن التَّابعين: [سعيد بن المسيَّب،] ابنه محمَّد بن سُراقة.
          وسُرَاقَةُ هذا هو الذي أتى إبليسُ المشركينَ في صورته، وذلك أنَّهم لمَّا أرادوا الخروج يوم بدر، ونفروا عن آخرهم خافوا العرب أن تأتي أهلهم بمكَّة بعدهم، فأتاهم إبليسُ في صورة سُرَاقَةَ، وكان سيِّدَ قومه، وقال: اخرجوا إنِّي جارٌ لكم. قال أهل السِّيَر: ولم يزالوا يرونه معهم حتَّى انهزم المشركون، وانهزم فيمن هزم(2) وغُلِب، وبلغ الخبر إليه، فأنكر سراقة ذلك، وأنَّه لم يكن حضرهم، وشهد له قومه أن(3) لم يك غاب من بين أظهرهم، فعرفوا أنَّ ذلك كان تغريراً من إبليس، { لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ }(4) [الأنفال:42] .
          عن البراء بن عازب قال: اشترى أبو بكر الصِّديق سَرْجَاً بثلاثةَ عشرَ درهماً، فقال له أبو بكر: مُر البراء فليحمله إلى منزلي(5) ، فقال: لا، حتَّى تُحدِّثنا كيف صنعتَ لمَّا خرج رسول الله صلعم / وأنتَ معه؟ فقال أبو بكر: خرجنا فأَدْلَجْنا [فأحيينا] ليلتنا ويومنا. وذكر الحديث، إلى أن قال: فارتحلنا والقوم يطلبوننا، فلم يدركْنا إلا سُرَاقَةُ بنُ مالك على فرس له، فقلت: يا رسول الله! هذا الطَّلب قد لحقنا، قال: «لا تحزن إنَّ الله معنا». حتَّى إذا دنا منَّا قدر رمح أو رمحين أو ثلاث(6) ، قال: قلت: يا رسول الله! هذا الطَّلب قد لحقنا. وبكيت، قال: «لم تبكي»؟ (قال): قلت: والله ما أبكي على نفسي، ولكن أبكي عليك. قال: فدعا عليه، وقال: «اللَّهم اكْفِناه بما(7) شئت». فساخَتْ فرسه إلى بطنها في الأرض، فوثب عنها، وقال: يا محمَّد! قد علمتُ أنَّ هذا من عملك، فادع الله أن ينجيني ممَّا أنا فيه، فوالله لأُعمِّينَّ على من ورائي من الطَّلب، فدعا رسول الله صلعم، فأُطلِق، ورجع إلى أصحابه. الحديث. قال سُرَاقة: لمَّا خرج رسول الله صلعم من مكَّة إلى المدينة مهاجراً جعلت قريش فيه مئة ناقة لمن ردَّه عليهم، وذكر حديثَ طلبِه، وما أصاب فرسه، وأنَّه سقط منه ثلاث مرَّات. قال: فلمَّا رأيت ذلك علمت أنَّه ظاهر، فناديت: أنا سُراقة بنُ مالك، انظروني أكلِّمكم، فوالله لا أريبكم، ولا يأتيكم منِّي شيء تكرهونه. فقال رسول الله صلعم لأبي بكر: «قل له ما يبتغي [منَّا] »؟ فقال لي أبو بكر، فقلت: يكتب لي كتاباً، يكون آية بيني وبينه. فكتب له كتاباً في عَظْم، أو في رُقْعَة، أو في خِرْقَة، ثمَّ ألقاه، فأخذته، فجعلته في كِنانتي، ثمَّ رجعت، فلم أذكر شيئاً ممَّا كان؛ حتَّى إذا فتح الله على رسوله مكَّة، وفَرَغَ من حُنين والطَّائف(8) خرجت ومعي الكتاب لألقاه، فلقيته بالجعرانة، فدخلت في كتيبة من خيل الأنصار، فجعلوا يَقْرعونني(9) بالرِّماح، ويقولون: إليك إليك، ماذا تريد؟ حتَّى دنوت من رسول الله صلعم، وهو على ناقته، [والله] لكأنِّي أنظر إلى ساقه في غرزه، فرفعت يدي بالكتاب، ثمَّ قلت: هذا كتابك، وأنا سُراقة بن مالك. فقال رسول الله صلعم: «هذا يومُ وفاءٍ وبِرٍّ، أُدْنُهْ». فدنوت منه، فأسلمت.
          قلت: هذا يدلُّ على أنَّ إسلامه متأخِّر عن فتح مكَّة، وليس كذلك، وقد ذكر الدَّميريُّ أنَّه يوم فتح مكَّة حسر عن ذراعيه، فَحَجَل، أي رقص فرحاً بالنَّصر، فقال له رسول الله صلعم: «كأنِّي بك وقد أُلبست سِوَارَيْ كِسْرى». فهذا يدلُّ على أنَّه أسلم قبل الفتح، وعن الحسن أنَّ رسول الله صلعم قال لسراقة: «كيف بك إذا أُلبست سواري كسرى»؟ فلمَّا أتُى عمر سواري(10) كسرى ومِنْطَقَته وتاجه، دعا سُراقة، وألبسه إياهما. قال الدَّميريُّ: وإنَّما سُوِّغ لعمر أن يلبسهما إياه، وله أن يلبس؛ لأنَّ ذلك عَلَمٌ من أعلام النُّبوَّة.
          قال / ابن الأثير(11) : وكان سراقة رجلاً كثير شعر السَّاعدَين، فقال له: ارفع يديك، وقل: الله أكبر، الحمد لله الذي سلبهما كِسْرَى بنَ هُرْمُز الذي كان يقول: أنا ربُّ النَّاس. وألبسهما سُرَاقَةَ، رجلاً أعرابياً من بني مُدْلِج. ورفع عمر صوته بذلك(12) ، وكان سراقةُ شاعراً مجيداً، وهو القائل _من البحر الطَّويل_:
أَبَا حَكَمٍ واللَّهِ لو كنتَ شاهداً                     لأَمْر جَوَادِي إذ تَسُوْخُ قَوَائِمُهْ
علمتَ ولم تَشْكُكْ بأنَّ محمَّداً                     رسولٌ ببُرهانٍ فَمْن ذا يُقَاومُهْ
عليكَ بكَفِّ القومِ عنه فإنَّني                     أَرى أمره يوماً ستبدو مَعَالِمُهْ
بأَمْرٍ يَوَدُّ النَّاس فيه بأَسْرِهِمْ                     بأنَّ جميعَ النَّاسِ طُرَّاً يُسَالِمُهْ
          قال ابن حزم: روى سراقة تسعةَ عشرَ حديثاً.
          قال ابن الأثير: توفِّي سنة أربع وعشرين، في خلافة عثمان، وقيل: بعده.


[1] في (ن) تصحيفاً: (نزبل قديما المدينة).
[2] في غير (ن): (انهزم) وجاء في (ن): (وغيب) بدل (غلب).
[3] في غير (ن): (أنه).
[4] سقط من الآية في غير (ن): (عن بينة) الأولى دون الثانية.
[5] في (ن) تصحيفاً: (منزله) وفي غيرها: (فقيل لأبي بكر مر البراء فليحمله إلى منزلك) والمثبت من صحيح مسلم (2009).
[6] في (ن): (أو ثلاثة).
[7] في (ن) تصحيفاً: (بمن).
[8] في غير (ن): (بالطائف).
[9] في غير (ن): (يفرونني).
[10] في غير (ن): (بسواري).
[11] خبر سراقة مع الشعر سوى كلام الدَّميري في أسد الغابة:2/414 وما قبلها، وأخرج لسراقة البخاريُّ برقم (1782) و(3615) وغيرهما.
[12] في غير (ن): (لذلك).