غاية المرام في رجال البخاري إلى سيد الأنام

سعد بن عبادة

          432 # سعد بن عبادة بن دُلَيْم _بضمِّ المهملة، وفتح اللَّام_ الأنصاريُّ، الخزرجيُّ، السَّاعديُّ(1) ، أبو ثابت، وقيل: أبو قيس.
          لم ينقل عنه البخاريُّ، ولكن له ذكر في الصَّحيح، في قصَّة عائشة [خ¦2661] ، وغيرها، فأحببت أن لا أخلي كتابي عنه، قال ابن الأثير(2) : هو نقيب بني ساعدة عند جميعهم. شهد بدراً عند بعضهم، وكان سيِّداً جواداً، وهو صاحب راية الأنصار في المشاهد كلِّها، وكان وجيهاً في الأنصار، ذا رياسة وسيادة، يعترف قومه بها، وكان يحمل إلى النَّبيِّ(3) صلعم كلَّ يوم جفنةً مملوءة ثريداً ولحماً، تدور معه حيثما(4) دار. يقال: لم يكن في الأوس، ولا في الخزرج أربعة مُطْعِمون(5) يتوالون في بيت واحد إلَّا قيس بن سعد بن عُبادة بن دُلَيْم، وله ولأهله في الجود أخبار حسنة.
          قال قيس بن سعد: زارنا / رسول الله صلعم في منزلنا، فقال: «السَّلام عليكم ورحمة الله» قال: فردَّ سعدٌ رداً خَفِيَّاً. قال قيس: فقلت له: ألا تأذن لرسول الله صلعم ؟ قال: دعه(6) يكثر علينا من السَّلام، فقال: «السَّلام عليكم». ثمَّ رجع، فاتَّبعه سعد، فقال: يا رسول الله! إنِّي كنت أسمع تسليمك، وأردُّ عليك ردّاً خفيّاً؛ لتكثر علينا [من] السَّلام، فانصرف معه رسول الله صلعم، فأمر له سعد بغُسل فاغتسل، ثمَّ ناوله مِلْحَفَةً مصبوغةً بزَعْفَرَان أو وَرْس، فاشتمل بها، ثمَّ رفع رسول الله صلعم يديه، وهو يقول: «اللَّهم اجعل صلواتِك ورحمتَك على آل سَعْدِ بنِ عُبَادة». وقد كان قيسُ بنُ سَعْدِ بنِ عُبَادَةَ من أعظم النَّاس جُوداً وكرماً، كما سيأتي في ترجمته، إن شاء الله تعالى.
          قال صلعم عن قيس بن سعد: «إنَّه من بيت جود». وفي سعد بن عبادة، وسعد بن معاذ الآتي، إن شاء الله تعالى، جاء الخبر أنَّ قريشاً سمعوا صائحاً يصيح ليلاً على جبل أبي قُبيس بمكَّة ببيت _من البحر الطَّويل_:
فإنْ يُسْلِمِ السَّعْدَانِ يصبحْ محمَّدٌ                     بمكَّةَ لا يَخْشَى خِلافَ مُخَالِفِ
          فظنَّت قريش أنَّه يعني سَعْدَ بنَ زَيْدِ بنِ مَنَاة، وسَعْدَ هُذَيْم من قُضَاعة، فسمعوا اللَّيلة الثَّانية قائلاً يقول:
أيا سَعْدُ سَعْد الأَوْسِ كُنْ أَنْتَ ناصِراً                     ويا سَعْدُ سَعْد الخَزْرَجَيْنِ الغَطَارِفِ
فإنَّ ثوابَ اللَّهِ للطَّالبِ الهُدَى                     جِنَانٌ من الفِرْدَوْسِ ذاتُ زَخَارِفِ
          فقالوا: هذا سعد بن معاذ، وسعد بن عبادة. وكان سعد من الكرماء، ويقول في دعائه: اللَّهم هَبْ لي حَمْداً، وهَبْ لي مَجْداً، لا مَجْدَ إلَّا بفِعَال، ولا فِعَالَ إلَّا بمال، اللَّهم لا يُصلحني القليل، ولا أصلح عليه. قال يحيى بن أبي كثير: كان سعد إذا انصرف من صلاة مكتوبة، قال: اللَّهم ارزقني مالاً أستعين به على أفعال الخير، فإنَّه لا يصلح الفعال إلَّا بمال. قاله الطَّبريُّ(7) ، ولمَّا كان غزوة الخندق بذل رسول الله صلعم لعُيينةَ(8) بنِ حِصْن ثلث ثمار المدينة؛ لينصرف بمن معه من غطفان، واستشار سعد بن معاذ، وسعد بن عبادة في ذلك دون سائر النَّاس، فقالا: يا رسول الله! إن كنتَ أُمِرْتَ بشيء فافعله، وإن كان غير ذلك، فوالله ما نعطيهم(9) إلَّا السي.، فقال: «لم أومر فيه بشيء من ذلك، وإنَّما هو رأي أعرضه عليكما». فقالا: يا رسول الله! ما طمعوا(10) منَّا بذلك في الجاهليَّة، فكيف اليوم، وقد هدانا الله بك؟ فَسُرَّ النَّبيُّ صلعم بقولهما، وكانت راية رسول الله صلعم بيد سعد بن عُبادة في الفتح، فمرَّ بها على أبي سفيان، فقال له سعد: اليومَ يومُ المَلْحَمَة، اليوم تُسْتَحَلُّ الحُرْمة، أذلَّ الله قريشاً، فلمَّا مرَّ رسول الله صلعم في كتيبة الأنصار، ناداه أبو سفيان: يا رسول الله! أمرت بقتل قومك؟ [قال:] يزعم(11) سعدٌ أنَّك قاتِلُنا. وقال عثمان وعبد الرَّحمن بن عوف: يا رسول الله! ما نأمن سَعْداً أن يكون منه في قريش صَوْلَة(12) ، فقال رسول الله صلعم: «يا أبا سفيان اليومَ / يومُ المَرْحَمَة، اليومَ [يوم] أعزَّ الله فيه قريشاً». فأخذ رسول الله صلعم اللِّواء من سعد، وأعطاه ابنه قيساً، وقيل: أعطى اللَّواء الزُّبير بن العوَّام. وقيل: أمر علياً فأخذ اللِّواء، ودخل به مكَّة. وكان غيوراً شديد الغيرة، وإيَّاه أراد رسول الله صلعم «إنَّ سَعْداً لَغَيُورٌ، وإنِّي لأَغْيَرُ من سعد، وإنَّ الله لأَغْيَرُ منَّا، وغَيْرَةُ الله أن تُؤتَى محارمُه». وفي رواية: «ومِنْ غَيْرَتِه حرَّم الفواحشَ ما ظهر منها وما بَطَن».(13) ولمَّا توفي (رسول الله) صلعم طمع سعد في الخلافة، وجلس في سَقِيْفَةِ بني سَاعدة ليبايع لنفسه، فجاء إليه أبو بكر وعمر، فبايع النَّاس أبا بكر، وعدلوا عن سعد، فلم يبايع أبا بكر ولا عمر، وسار إلى الشَّام، فأقام بحَوْرَانَ إلى أن مات بها، ووجدوه ميتاً على مُغْتَسَلِهِ، وقد اخضرَّ جسده، ولم يشعروا بموته بالمدينة؛ حتَّى سمعوا قائلاً يقول من بئر ولا يرون أحداً _من البحر الرمل، وقد وقع فيه الخَزْمُ بزيادة حرفين النُّون والحاء، إذا قرئ: فرميناه بالفاء، وإنْ قُرئ من غير فاء، كما هو في بعض النُّسخ، فمن بحر الهزج، والخَزْمُ حينئذ بثلاثة(14) أحرف، وهي [لفظة] نحن بتمامها، فتأمَّل_:
نحن قَتَلْنَا سَيِّدَ الخَزْ                     رَجِ سَعْدَ بنَ عُبَادَهْ
فَرَمَيْنَاهُ بِسَهْمَيْـ                     ـنِ وَلَمْ نُخْطِ فُؤَادَهْ
          فلمَّا سمع الغِلْمانُ ذلك ذُعِروا، فُحفِظَ ذلك اليوم، فوجدوه في اليوم الذي مات فيه سعد بالشَّام. قيل: إنَّ البئر التي سُمع منها الصَّوت بئر منبِّه(15) ، وقيل: بئر سكن. قال ابن سيرين: بينا سعد يبول قائماً في سُبَاطَةِ قوم، [إذ اتَّكأ] فمات، قتله الجنُّ، وقال: البيتين، وعن قَتَادَةَ قال: قام سعد بن عبادة ليبولَ، ثمَّ رجع، فقال: إنِّي أجد في ظهري شيئاً. فلم يلبث أن مات، فباحت الجنُّ بالبيت، وفي الشَّامل أنَّ سبب موته أنَّه بال في جُحْر. قيل: إنَّ قبره بالمَنِيْحَةِ(16) قرية من غوطة دمشق، وهو مشهور إلى اليوم.
          روى عنه ابن عبَّاس وغيره.
          وروى عن رسول الله صلعم أحداً(17) وعشرين حديثاً، ومن حديثه أنَّ النَّبيَّ صلعم قال: «ما من رجل تعلَّم القرآن ثمَّ نسيه إلَّا لقي الله وهو أجذم، وما من أميرِ عَشَرةٍ إلَّا أَتَى يوم القيامة مغلولاً لا يطلقه إلَّا العدل».(18)
          توفِّي سنة خمس عشرة، أو أربع عشرة(19) في خلافة عمر، وقيل: سنة إحدى عشرة(20) .


[1] في (ن) هنا زيادة: (الأنصاري).
[2] خبر سعد مع الأبيات في أسد الغابة:2/441، وتاريخ دمشق لابن عساكر:20/237.
[3] في غير (ن): (للنبي).
[4] في غير (ن): (حيث).
[5] في غير (ن): (يطعمون).
[6] في غير (ن): (دعوه).
[7] لم أجده عند الطبري وهو في مصنف ابن أبي شيبة:5/332.
[8] في (ن): (عليه لعيينة).
[9] في (ن): (ما نعطهم).
[10] في (ن) تصحيفاً: (ما طعموا) وجاء في غير (ن): (في ذلك) بدل (بذلك).
[11] في (ن) تصحيفاً: (ابن عم).
[12] في (ن) تصحيفاً: (خيوله).
[13] مسلم (1499).
[14] في غير (ن): (ثلاثة).
[15] في (ن): (مسته) وفي غيرها (ميتة) والمثبت من أسد الغابة.
[16] وتنطق الآن باللام، فيقال لها: (المَلِيْحة) وقد تتعاور الحروف، كما يقال في (عِرْبِين): عِرْبيل، والمنيحة على أربعة أميال شرقي دمشق، وقبره قائم إلى الآن.
[17] في غير (ن): (إحدى).
[18] مسند أحمد (21426)، وهو بلفظه في معرفة الصحابة لأبي نعيم الأصبهاني:8/465.
[19] في غير (ن): (أربع عشرة أو خمس عشرة).
[20] وقال الطبراني في المعجم الكبير برقم (5219): سنة ست عشرة، وساق طرفاً من خبره وشعره وما أسنده عن رسول الله صلعم.