غاية المرام في رجال البخاري إلى سيد الأنام

سعيد بن زيد بن عمرو

          453 # سعيد بن زيد بن عَمْرو(1) بن نُفَيْل، الصَّحابيُّ، القرشيُّ، العَدَوِيُّ، المدنيُّ، أبو الأعور، وأبو ثور.
          أحد العشرة المبشَّرة، ابن عمِّ عمر بن الخطَّاب، وزوج أخته فاطمة، وأمُّه فاطمةُ بنتُ بَعْجَةَ، وكانت أخته عاتكة بنت زيد تحت عمر بن الخطَّاب، تزوَّجها بعد أن قُتل عنها عبد الله بن أبي بكر الصِّديق، وأسلم قديماً، قبل أن يدخل رسول الله صلعم دار الأرقم(2) ، وبعد إسلام ثلاثة عشر رجلاً، وكان آدم طويلاً أشعر، وأسلم قبل عمر بن الخطَّاب هو وامرأته فاطمة بنت الخطَّاب، وهي كانت سبب إسلام عمر، كما أشرنا إليه في خَبَّابِ بنِ الأَرَتِّ، وسيجيء مصرَّحاً في ترجمة عمر، إن شاء الله تعالى، وكان من المهاجرين الأوَّلين، وآخى رسول الله صلعم بينه وبين أُبيِّ بن كعب، ولم يشهد بدراً؛ لأنه كان غائباً بالشَّام، فقدم عقب بدر، فضرب رسول الله صلعم له بسهمه وأجره، وقال الواقدي(3) : سبب غيبته أنَّ رسول الله صلعم قد بعث _قبل أن يخرج إلى بدر_ سعيدَ بنَ زيد وطَلْحَةَ بنَ عُبيدِ الله إلى طريق الشَّام يتجسَّسان الأخبار، ثمَّ رجعا إلى المدينة، فقدماها يوم الوقعة ببدر، فضرب لهما بسهمهما وأَجْرَيهما(4) ، وهذا تأويل من قال: إنَّه شهد بدراً. وشهد ما بعدها من المشاهد. روى ثمانية وأربعين حديثاً.
          عن سعيد بن زيد أنَّ رسول الله صلعم قال: «من قتل دون ماله فهو شهيد». وكان مجاب الدَّعوة. فمن ذلك أنَّ أَرْوَى بنت أُويس(5) شكته(6) إلى مروان بن الحكم، وهو أمير المدينة لمعاوية، وقالت: إنَّه ظلمني أرضي. فأرسل إليه مروان، فقال سعيد: أترونها ظلمتها؟ وقد سمعت رسول الله صلعم / يقول: «من ظلم شبراً من أرض طوقَّه الله يوم القيامة من سبع أرضين».(7) اللَّهم إن كانت كاذبة فلا تمتها حتَّى يعمى بصرها، واجعل قبرها في بئرها، فلم تمت حتَّى ذهب بصرها، وجعلت تمشي في دارها، فوقعت في بئرها، فكانت قبرَها، فكان أهل المدينة يقولون: أعماك الله، كما أعمى أروى. ثمَّ صار الجهَّال يقولون: أعماك الله، كما أعمى الأروى. [يريدون الأروى] التي في الجبل، يعني الوعل، ويقولون: إنَّها عمياء. وهذا جهل منهم، قاله ابن الأثير(8) .
          وروي في «روض الأفكار» أنَّ أروى أتت مروان بن الحكم مستغيثة من سعيد بن زيد، فقالت: ظلمني أرضي، وغلبني حقِّي. وكان جارها بالعقيق، فقال سعيد: أنا أظلم أروى حقَّها! والله [لقد] ألقيت لها ستَّ مئة ذراع من أجل حديث سمعته من رسول الله صلعم يقول: «من ظلم شبراً من أرض طوَّقه الله تعالى يوم القيامة إلى سبع أرضين». قومي يا أروى، فخذي الذي تزعمين أنَّه حقَّك(9) . فقامت فتسحَّبت(10) في حقِّه، فقال: اللَّهم إن كانت ظالمة، فأعم بصرها، واقتلها في أرضها، واجعل قبرها في بئرها. قال: فلم تلبث إلَّا يسيراً حتَّى عميت، وذهب بصرها، وخرجت تمشي في أرضها وهي حذرة، فوقعت في بئر (في) أرضها فماتت، وكانت قبرها، [وجاء سيل فأظهر حدود أرضها، فلمَّا عميت كانت تتلمَّس الجدران، وتقول: أصابتني دعوة سعيد. وروي أنَّها سألت سعيداً أن يدعو لها فأبى،] وبعث معاوية إلى مروان بن الحكم ليبايع لابنه يزيد، فقال رجل من أهل الشَّام: ما يحبسك(11) ؟ قال: حتى يجيء سعيد بن زيد، فإنَّه أنبل أهل المدينة، فإذا بايع بايع النَّاس. وقال نافع: ذكر لابن عمر أن سعيد بن زيد مرض، وكان يوم الجمعة(12) ، فركب إليه بعد أن تعالى النَّهار، واقتربت الجمعة، وترك الجمعة(13) .
          تتمَّة:
          ممَّن(14) له ذكر في صحيح البخاريِّ(15) والد سعيد، وهو زيد بن عمرو، فأحببت أن أذكر أمره؛ لأنَّه كان مؤمناً _كما قال في «روض الأفكار»_ يستقبل القبلة، ويقول: إلهي إله إبراهيم، وديني دين إبراهيم، ويصلِّي، فسئل رسول الله صلعم عنه، فقال: «يحشر أمَّة وحده، بيني وبين عيسى بن مريم». قالوا: يا رسول الله! أرأيت ورقة بن نوفل؟ فإنَّه كان يستقبل الكعبة، ويقول: [اللهم] ديني دين زيد، وإلهي إله زيد(16) ، وقد كان يمدح زيد بن عمرو، فقال(17) _من البحر الطَّويل_:
رَشَدْتَ وأنعمتَ ابنَ عَمْرو وإنَّما                     تجنبتَ تَنُّوراً من النَّار حاميا
دعاؤُك ربًّا ليس ربٌّ كَمِثْلِهِ                     وتركُكَ جِنَّانَ(18) الجبالِ كما هيا
          فقال رسول الله صلعم: / «رأيته في بُطْنَانِ الجنَّة، عليه حُلَّة من سندس» انتهى(19) .
          الخبَّات _بتثليث المعجمة، وشدَّة الموحَّدة_: طرائق من رمل(20) أو سحاب.
          [وفي الطَّبرانيِّ(21) أنَّ سعيد بن زيد سأل النَّبيَّ صلعم عن أبيه فقال: «غفر الله له ورحمه، إنَّه مات على دين الله». وقال عامر بن ربيعة: قال لي زيد بن عمرو: إنِّي خالفت قومي، واتَّبعت ملَّة إبراهيم، وما كان يعبد، وأنا أنتظر نبيًّا من ولد إسماعيل، ولا أراني أدركه، وأنا أؤمن به، وأصدِّقه] .
          قال عروة بن الزُّبير: ذهب زيدُ بنُ عَمْرو وورقَةُ بنُ نَوْفَل نحو الشَّام في الجاهليَّة يلتمسان الدِّين(22) ، فأتيا على راهب، فسألاه عن الدِّين، فقال: إنَّ الذي تطلبان لم يجئ بعد، وهذا زمانه، وإنَّ هذا الدِّين يخرج من قبل تَيْماء. قال: فرجعنا، فقال ورقة: أمَّا أنا فأقيم على نصرانيَّتي حتَّى يبعث (الله) هذا الدِّين. وقال زيد: أمَّا أنا فأعبد ربَّ هذا البيت حتَّى يبعث هذا الدِّين. [قال:] ومات زيد، فقال رسول الله صلعم: «يبعث زيد يوم القيامة (أمَّة) وحده».(23) وكان زيد يأتي على الصَّبيَّة التي قد وُئدت، فيستخرجها، فيسترضع لها حتَّى تَشِبَّ.
          وروى البخاريُّ(24) عن عبد الله بن عمر أنَّ النَّبيَّ صلعم لقي زيد بن عَمْرو بأسفلِ بَلْدَح(25) قبل أن ينزل عليه الوحي، فقدِّمتْ إلى رسول الله صلعم سُفْرَة، فأبى أن يأكل منها، ثمَّ قال زيد: إنِّي لست آكل ممَّا تذبحون على أنصابكم، ولا آكل إلا ما ذُكر اسمُ الله عليه. وأنَّ زيدَ بنَ عَمْرو كان يَعيب على قريش ذبائحهم، ويقول: الشَّاة خلقها الله تعالى، وأنزل لها من السَّماء الماء، وأنبت لها من الأرض، ثمَّ تذبحونها على غير اسم الله!. إنكاراً لذلك وإعظاماً.
          وروى أيضاً(26) أنَّ زيد بن عمرو خرج إلى الشَّام، يسأل عن الدِّين، ويتبعه(27) ، فلقي عالماً من اليهود، فسأله عن دينهم، (قال: أنبئني) لعلِّي أدين دينكم، فأخبرني، قال: لا تكون علي ديننا حتَّى تأخذ بنصيبك من غضب الله. قال زيد: ما أفرُّ إلَّا من غضب الله، ولا أحمل من غضب الله شيئاً أبداً وأنا أستطيعه، فهل تدلُّني على غيره؟ قال: ما أعلمه إلَّا أن يكون حنيفاً. قال زيد: وما الحنيف؟ قال: دين إبراهيم، فإنَّه لم يكن يهوديًّا، ولا نصرانيًّا، / ولا يعبد إلَّا الله. فخرج زيد، فلقي عالماً من النَّصارى، فذكر مثله، فقال: لن تكون على ديننا حتَّى تأخذ بنصيبك من لعنة الله. قال: ما أفرُّ إلَّا من لعنة الله، ولا أحمل من لعنة الله، ولا من غضبه شيئاً أبداً وأنا أستطيع، فهل تدلُّني على غيره؟ قال: ما أعلم إلَّا أن تكون حنيفا. قال: وما الحنيف؟ قال: دين إبراهيم، لم يكن يهوديًّا، ولا نصرانيًّا، ولا يعبد إلَّا الله. فلمَّا رأى زيد قولهما(28) في إبراهيم خرج، فلمَّا برز رفع يديه، وقال: اللَّهم اشهد أنِّي على دين إبراهيم.
          وروى أيضاً(29) عن أسماء بنت أبي بكر، قالت: رأيت زيد بن عمرو قائماً مسنداً(30) ظهره إلى الكعبة، يقول: يا معشر قريش! والله ما منكم على دين إبراهيم غيري، وكان يحيي الموؤدة، يقول للرَّجل إذا أراد أن يقتل ابنته: لا تقتلها، أنا أكفيكها مؤنتها. فيأخذها؛ فإذا ترعرعت قال لأبيها: إن شئت دفعتها إليك، وإن شئت كفيتك مؤنتها. انتهى.
          رجعنا إلى قصَّة سعيد بن زيد(31) . روى البخاري عن قيس، قال: سمعت سعيد بن زيد بن عمرو في مسجد الكوفة، يقول: والله لقد رأيتني، وإن عمر لموثقي على الإسلام قبل أن يسلم عمر، ولو أنَّ أُحُداً انقضَّ(32) للذي صنعتم بعثمان ( لكان، ولم يفت سعيدُ بنُ زيد، ☺ مشهدٌ مع رسول الله صلعم كما ذكرنا(33) سوى بدر، وشهد اليرموك، وحصار دمشق.
          قال سعيد بن جبير: كان مقام أبي بكر، وعمر، وعثمان، وطلحة، والزُّبير، وسعد، وسعيد، وعبد الرَّحمن بن عوف أمام رسول الله صلعم [في القتال] ، ووراءه في الصَّلاة.
          قال أبو نصر(34) : روى عنه: عَمْرو بن حُريث، وقيس بن أبي حازم، وعروة، وعبد الرَّحمن بن عمرو(35) ، نقل عنه البخاريُّ بالواسطة في التَّفسير [خ¦4478] ، وغيره.
          توفِّي بالعقيق من نواحي المدينة _وقيل: بالمدينة_ سنة إحدى، أو خمس، أو ثمان وخمسين، وهو ابن بضع وسبعين سنة، وخرج إليه عبد الله بن عمر، فغسَّله، وحنَّطه، وصلَّى عليه، وقيل: غسَّله سعد بن أبي وقَّاص، وحنَّطه، ثمَّ أتى البيت فاغتسل، فلمَّا خرج قال: أما إنِّي لم أغتسل من غَسْلي إياه، ولكن اغتسلت من الحرِّ، ونزل في قبره سعد بن أبي وقَّاص، وابن عمر، وصلى عليه ابن عمر. قاله ابن الأثير(36) ، وهو الأصحُّ، ونقل أبو نصر عن الهيثم بن عَدِيٍّ أنَّه مات بالكوفة زمن معاوية، وصلَّى عليه المغيرة بن شعبة، وهو يومئذ والي الكوفة.


[1] في (ن) تصحيفاً: (عمر).
[2] في (ن): (دار أرقم).
[3] في المغازي 1/19، في بدر القتال.
[4] في (ن) تصحيفاً: (سهمهما وأخرهما).
[5] في غير (ن): (أوس) والقصة والحديث في صحيح مسلم برقم (3022)، وفي المسند برقم (1628) وإسناده صحيح.
[6] في غير (ن): (شكت).
[7] البخاري (2452).
[8] أسد الغابة:2/477.
[9] في غير (ن): (أرضك).
[10] في (س): (فسبحت)، وهو تصحيف، قال في اللسان: وفي حديث سعيد وأروى، فقامت فتسحبت في حقه، أي اغتصبته وأضافته إلى حقها وأرضها.
[11] في (ن) تصحيفاً: (ما يجيبك).
[12] في غير (ن): (يوم جمعة).
[13] أخرجه البخاري في صحيحه برقم (3990).
[14] في (ن): (مما).
[15] برقم (3198)، ثم أفرد له باباً، فقال: باب حديث زيد بن عمرو بن نفيل.
[16] في غير (ن): (إلهي إله زيد وديني دين زيد).
[17] الأبيات مع الخبر في تاريخ دمشق:63/21، وفي دلائل النبوة للبيهقي:2/144 والأبيات عنده أربعة مع اختلاف في الرواية، وفي سير أعلام النبلاء:1/111، وزاد عليها خامساً، والبيتان ينسبان أيضاً لأمية بن أبي الصلت، كما في الروض الأنف:1/389، والجِنَّان هي الجن، والأبيات عند ابن هشام في السيرة ستة أبيات 2/62، وتمت سبعة عند ابن كثير في البداية والنهاية:2/243.
[18] في الأصول كلها (خبات)، وهو سبق وهم من المصنف حيث جعل (الجِنَّان) في البيت (خبات) فصحف، ولم أر أحداً أورد رواية البيت كما هو عند المصنف، والخَبْتُ: هو ما اتسع من بطون الأرض، وما اطمأن منها، وفيه رحل، ويجمع على أخبات وخبوت، ولا يقال: خَبَّات، وبالفاء (الخفت) هو (الخبت) الباء بدل عن الفاء، والخافت (السحاب) لا ماء فيه، فتأمل. (خبت: اللسان).
[19] الحديث أخرجه أبو يعلى في مسنده 45/41، وهو في حقِّ ورقة بن نوفل، لا في زيد بن عمرو.
[20] في (ن): (الرمل).
[21] لم اره في مصنفات الطبراني ورأيته في أنساب الأشراف للبلاذري:10/468.
[22] في (ن) تصحيفاً: (الدنيا).
[23] تاريخ مدينة دمشق:19/498.
[24] برقم (3826).
[25] وبلدح: مكان في طريق التنعيم، ويقال: هو واد، غربي مكة لبني فزارة. انظر مقدمة فتح الباري: ص19.
[26] البخاري (3827).
[27] في (ن) تصحيفاً: (وتبعه).
[28] في غير (ن): (قولهم).
[29] البخاري (2828).
[30] في (ه): (مستنداً ظهره).
[31] في (س): (سعيد بن زيد بن يزيد)، وقد صحف في يزيد وهو عمرو.
[32] في صحيح البخاري برقم (3862): (ارفضَّ)، وبرقم (3867): انقض، وكلها معان متقاربة، ومعناها: سقط وزال.
[33] في غير (ن) تصحيفاً: (ذكر).
[34] الهداية والإرشاد:1/279.
[35] في (ن) تصحيفاً: (عبد الرحمن بن عمر).
[36] أسد الغابة:2/478، وفيه: سنة خمسين أو إحدى وخمسين، وما بين حاصرتين منه، وأخباره فيه.