غاية المرام في رجال البخاري إلى سيد الأنام

سلمة بن دينار

          493 # سَلَمَةُ بنُ دِيْنَار أبو حازم الأعرجُ، الزاهدُ، القاصُّ، مولى الأَسْوَدِ بنِ سُفيان، التَّابعيُّ القرشيُّ، المخزوميُّ، المدنيُّ، التَّمَّار. قاله أبو نصر(1) ، وقيل: التَّمَّار غيره، واسمه دينار. قال(2) أبو عليٍّ: قال الواقديُّ: أبو حازم مولىً لبني أَشْجَع، من بني ليث.
          ثقة عالم عابد.
          سمع: سهل بن سعد، [وأبا هريرة،] وعبد الله بن أبي قَتَادة، ويزيد بن رُومان، والنُّعمان بن أبي عَيَّاش.
          روى عنه: مالك، والثَّوريُّ، وابن عيينة، وسليمان بن بلال، وفُليح، وابنه عبد العزيز، [ووهيب بن خالد] .
          نقل عنه البخاريُّ بالواسطة في مواضع، أوَّلها: في باب غَسْل المرأة أباها (من) الدَّم، من آخر كتاب الوضوء [خ¦243] .
          مات سنة ثلاث أو خمس وثلاثين ومئة، في خلافة المنصور.
          كان إماماً مطبقاً(3) . قال عبد الرَّحمن بن يزيد بن أسلم: ما رأيت أحداً الحكمة(4) إلى فيه أقرب من أبي حازم.
          قال أبو حازم: يَسِيْرُ الدنيا يَشغل عن كثير الآخرة؛ فإنَّك تجد الرَّجل يشغل نفسه بهمِّ غيره، حتَّى يهتمَّ(5) أشدَّ اهتماماً من صاحب الهمِّ بهمِّ نفسه، وعند تصحيح الضَّمائر تُغفر الكبائر، وإذا عزم العبد(6) على ترك الآثام أتته الفتوح، وكلُّ نعمة لا تقرِّب من الله فهي بليَّة، وينبغي للمؤمن أن يكون أشدَّ حفظاً للسانه منه لموضع قدميه، وقال: يا بني، لا تقتدِ بمن لا يخاف الله بظهر الغيب، ولا يعفو عن العيب، ولا يصلح عند(7) الشَّيب.
          وقال: لو نادى مناد من السَّماء أمن(8) أهل الأرض من دخول النَّار. لحقَّ عليهم الوَجَلُ من حضور ذلك الموقف ومعاينة ذلك اليوم.
          وكان يعاتب نفسه، ويقول: يا أعرج، ينادى يوم القيامة: يا أهل خطيئة كذا وكذا. فتقوم معهم، ثمَّ ينادى: يا أهل خطيئة أخرى. فتقوم معهم، فأراك يا أعرج(9) تريد أن تقوم مع أهل كلِّ خطيئة. وما من يوم تطلع فيه الشَّمس إلَّا ويعدو على ابن آدم فيه عمله وهواه، ثمَّ يتغالبان في صدره تغالب الدَّابَّتين، فيوم يغلب عِلْمُه هواه يوم غُنْمٍ غَنِمَه، ويوم يغلب هواه عِلْمَه يوم جُرم جَرمه، فقاتل هواك أشدَّ ممَّا تقاتل عدوَّك.
          وقيل لأبي حازم: إنَّك متشدِّد. فقال: مالي لا أتشدَّد! وقد يرصدني أربعة عشر عدوًّا، أمَّا أربعة، فشيطان يفتنني، ومؤمن / يحسدني(10) ، وكافر يقتلني، ومنافق يبغضني، وأمَّا العشرة منها، فالجوع، والعطش، والحرُّ، والبرد، والعري، والهرم، والمرض، والفقر، والموت، والنَّار، ولا أطيقهنَّ إلَّا بسلاح تامٍّ، ولا أجد لهم سلاحاً أفضل من التَّقوى.
          وقال: تجد الرَّجل يعمل بالمعاصي، فإذا قيل له: تحبُّ الموت؟ قال: لا، وكيف؟ وعندي ما عندي. فيقال له: أفلا تترك ما تعمل من المعاصي؟ فيقول: ما أريد تركه، وما أحبُّ أن أموت حتَّى أتركه. قال: ونحن لا نريد أن نموت حتَّى نتوب، ولا نتوب حتَّى نموت، واعلم أنَّك إن متَّ لم تُرفع الأسواق لموتك، إنَّ شأنك صغير، فاعرف نفسك.
          ومرَّ بأبي جعفر المدينيِّ، وهو مكتئب حزين، فقال: ما لي أراك مهموماً؟ وإن شئت أخبرتك. قال: أخبرني. قال: ذكرتَ ولدك من بعدك. قال: نعم. قال: لا تفعل، فإن كانوا لله أولياء فلا تخف عليهم الضَّيعة، وإن كانوا لله أعداء فلا تبالِ ما لقوا(11) بعدك.
          ووعظ سليمانَ بن هشام، فقال في وعظه: ما رأيت يقيناً لا شكَّ فيه أشبه بشكٍّ لا يقين فيه من شيء نحن فيه، وإنَّ قليل الدُّنيا يشغل عن كثير الآخرة، وإنَّ كثيرها ينسيك قليلها، وإن كنت تطلب من الدُّنيا ما يكفيك فأدنى ما فيها يُجزيك، وإن كان لا يغنيك ما يكفيك فليس فيها شيء يغنيك.
          وقال: عيشنا عيش الملوك، وديننا دين الملائكة.
          وقال له محمَّد بن المنكدر: يا أبا حازم، ما أكثر من يلقاني، فيدعو(12) بالخير ما أعرفهم، وما صنعت إليهم خيراً قطُّ! قال له: لا تظنَّ أنَّ ذاك من عملك، ولكن انظر إلى الذي ذاك من قِبَله فاشكره. وقرأ { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا } [مريم:96] وقال: إنَّ نعمة الله عليَّ فيما زوى عنِّي من الدُّنيا أعظم عليَّ من نعمته عليَّ فيما أعطاني منها، إنِّي رأيته أعطاها قوماً فهلكوا.
          قال إبراهيم بن أدهم عن أبي حازم: أفضل خصلة ترجَّى للمؤمن(13) أن يكون أشدَّ النَّاس خوفاً على نفسه، وأرجاه لكلِّ مسلم.
          وقال للزُّهريِّ سليمانُ بنُ هشام: ألا تسأل أبا حازم ما قال في العلماء؟ قال: وما عسيت أن أقول في العلماء إلَّا خيراً، إنِّي أدركت العلماء وقد استغنوا بعلمهم عن أهل الدُّنيا، ولم يستغن(14) أهل الدُّنيا بدنياهم عن علمهم. فلمَّا رأى ذلك هذا _(يعني الزُّهريَّ)_ وأصحابه، تعلَّموا العلم ولم يستغنوا به، واستغنى أهل الدُّنيا بدنياهم عن علمهم، فلمَّا رأوا ذلك قذفوا / بعلمهم إلى أهل الدُّنيا، ولم يُنِلْهم أهل الدُّنيا من دنياهم شيئاً، إنَّ هذا _(يعني الزُّهريَّ)_ وأصحابَه ليسوا علماء، إنَّما هم رواة. فقال لسليمان: إنَّ أبا حازم لجاري، وما علمت أنَّ هذا لَعِنْدَه. فقال أبو حازم للزُّهريِّ: صدقت، أما إنِّي(15) لو كنت غنيًّا عرفتني. وقال له سليمان: ما المخرج ممَّا نحن فيه؟ قال: أن تمضي بما في يديك لما أمرت به، وتكفَّ عمَّا نهيت عنه. فقال: سبحان الله! من يطيق هذا؟ قال: (من) طلب الجنَّة، وفرَّ من النَّار، وما هذا فيما تطلب وتفرُّ منه.
          ودخل سليمان بن عبد الملك المدينة حاجَّاً، فقال: هل بها رجل أدرك عدَّة من الصَّحابة؟ قالوا: نعم، أبو حازم. فأرسل إليه، فلمَّا أتاه قال: يا أبا حازم، ما هذا الجفاء؟ قال: وأيُّ جفاء [رأيت] منِّي يا أمير المؤمنين! قال: وجوه النَّاس أتوني، ولم تأتني. قال: والله ما عرفتني قبل هذا، ولا أنا رأيتك، فأيُّ جفاء رأيت منِّي؟ فالتفت سليمان إلى الزُّهري، وقال: صدق الشَّيخ، وأخطأت أنا. فقال: يا أبا حازم، ما لنا نكره الموت؟ قال: لأنَّكم عمَّرتم الدُّنيا وخرَّبتم الآخرة، فتكرهون الخروج من العمران إلى الخراب. قال: صدقت. قال: ليت شعري ما لنا عند الله غداً؟ قال: اعرض عملك على كتاب الله. قال: وأين أجده من كتاب الله؟ قال: قال الله تعالى: { إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ* وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ } [الانفطار:13-14] قال: وأين رحمة الله؟ قال: { قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ } [الأعراف:56] قال: ليت شعري، كيف العرض على الله غداً؟ قال: أمَّا المحسن كالغائب يقدم على أهله، وأمَّا المسيء(16) كالآبق يقدم به على مولاه. فبكى سليمان حتَّى علا نحيبه، واشتدَّ بكاؤه. فقال: يا أبا حازم، كيف لنا أن نصلح؟ قال: تَدَعون عنكم الصَلَف، وتمسكون بالمروءة، وتقسمون بالسَّويَّة، وتعدلون في القضيَّة. قال: وكيف المأخذ من ذلك؟ قال: تأخذ بحقِّه، وتضع بحقِّه في أهله. قال: من أفضل الخلائق؟ قال: أولو المروءة والنُّهَى. قال: فما أعدل العدل؟ قال: كلمة صدق (عند) من ترجوه أو تخافه. قال: فما أسرع الدُّعاء إجابة؟ قال: دعاء المحسن للمحسن. قال: فما أفضل الصَّدقة؟ قال: جهد المُقلِّ إلى البائس الفقير، لا يُتبعها مَنَّاً ولا أذًى. قال: فمن(17) أكيس النَّاس؟ قال: رجل ظفر بطاعة الله، فعمل بها، ثمَّ دلَّ النَّاس عليها. قال: فمن أحمق الخلق؟ قال: رجل اغتاظ(18) في هوى أخيه وهو ظالم، فباع آخرته بدنياه. قال: هل لك أن تصحبنا، وتصيبَ منَّا، ونصيبَ منك؟ قال: كلا. قال: ولم؟ قال: إنِّي أخاف أن أركن إليكم شيئاً قليلاً، فيذيقني الله ضِعْفَ الحياة وضِعْفَ الممات، ثمَّ لا يكون / لي منه نصيراً. قال: يا أبا حازم، ارفع إليَّ حاجتك. قال: نعم، تدخلني الجنَّة وتخرجني من النَّار. قال: ليس ذلك إليَّ. قال: فما لي حاجة سواها. قال: فادع الله لي. قال: اللهم إن كان سليمان من أوليائك، فيسِّره لخير الدُّنيا والآخرة، وإن كان من أعدائك، فخذ بناصيته إلى ما تحبُّ وترضى. قال سليمان: هذا فقط؟ قال: قد أكثرتُ وأطنبتُ إن كنتَ أهلَه، وإن لم تكن أهلَه، فما حاجتك أن ترمي عن قوس ليس لها وَتَر؟ قال سليمان: يا أبا حازم، ما تقول فيما نحن فيه؟ قال: أو تعفيني يا أمير المؤمنين. قال: بل نصيحة(19) تلقيها إليَّ. قال: إنَّ آباءك غصبوا النَّاس هذا الأمر، فأخذوه عنوة بالسَّيف عن غير مشورة، ولا اجتماع من النَّاس، وقد قتلوا مقتلة عظيمة وارتحلوا، فلو شعرت ما قالوا وقيل لهم. قال رجل من جلساء سليمان: بئس ما قلت. قال أبو حازم: كذبت، إنَّ الله أخذ على العلماء الميثاق ليبيِّننَّه للنَّاس ولا يكتمونه. قال: يا أبا حازم، أوصني. قال: سوف أوصيك وأوجز، نَزِّهِ الله [وعظِّمه] أن يراك حيث نهاك، أو يفقدك حيث أمرك. ثمَّ قام، فلمَّا ولَّى، قال: يا أبا حازم، هذه مئة دينار أنفقها، ولك عندي أمثالها كثير(20) . فرمى بها، وقال: والله ما أرضاها لك، فكيف أرضاها لنفسي، إنِّي أعيذك بالله أن يكون سؤالك إيَّاي هزلاً، وردِّي عليك بدلاً، إنَّ موسى بن عمران لمَّا ورد ماء مدين، قال: { رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ } [القصص:24](21) فسأل موسى ◙ ربَّه، ولم يسأل النَّاس، ففطنت الجاريتان، ولم يفطن الرِّعاء لما فطنتا له، فأتتا أباهما _وهو شعيب ◙_ فأخبرتاه خبره، قال شعيب: ينبغي أن يكون هذا جائعاً، ثمَّ قال لإحداهما: اذهبي وادعيه. فلمَّا أتته أعظمته وغطت وجهها، ثمَّ قالت: { إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا } [القصص:25] فلمَّا قالت: { أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا } كره موسى ذلك، وأراد أن لا يتبعها، ولم يجد بدًّا أن يتبعها؛ لأنَّه كان في أرض مَسْبَعَة وخوف، فخرج معها، وكانت امرأة ذات عَجُز، وكانت الرِّياح تضرب ثوبها، فتصف لموسى ◙ عجزها، فيغضُّ مرَّة، ويُعرض أخرى، فقال: يا أمة الله، كوني خلفي. فدخل إلى شعيب ◙ والعَشَاء مهيأ، فقال: كُلْ. فقال موسى ◙: لا. قال شعيب: ألست جائعاً؟ قال: بلى، ولكنِّي من أهل بيت لا نبيع شيئاً من عمل الآخرة بملء الدُّنيا ذهباً، وأخشى أن يكون هذا جزاء(22) ما سقيت لهما. قال شعيب: لا يا شابُّ، ولكن هذا عادتي وعادة آبائي، قرى الضَّيف، وإطعام الطَّعام. فجلس موسى فأكل، فإن كانت هذه المئة / دينار عوضاً ممَّا قد حدَّثتك فالميتة والدَّم ولحم الخنزير في حال الاضطرار أحلُّ منه، وإن كانت من مال المسلمين فلي فيها شركاء ونظراء إن وازتيهم(23) ، وإلَّا فلا حاجة لي فيها، إنَّ بني إسرائيل لم يزالوا على الهدى والتُّقى حيث (كان) أمراؤهم يأتون إلى علمائهم رغبة في علمهم، فلمَّا نكسوا وسقطوا من عين الله، وآمنوا بالجبت والطَّاغوت، كان علماؤهم يأتون إلى أمرائهم، ويشاركونهم في دنياهم، اشتركوا معهم في فتنتهم. قال الزُّهريُّ: يا أبا حازم، إيَّاي تعني، وبي تعرِّض. قال: (ما) إيَّاك اعتمد، ولكن هو ما تسمع. قال سليمان: يا زهريُّ، تعرفه؟ قال: نعم، جاري منذ ثلاثين سنة، ما كلَّمته كلمة قط. قال أبو حازم: إنَّك نسيت الله فنسيتني، ولو أحببت الله لأحببتني. قال الزُّهريُّ: يا أبا حازم، تشتمني؟ قال سليمان: ما شتمك، ولكن شتمت نفسك، أما علمت أن للجار على الجار حقًّا كحقِّ القرابة؟! فلمَّا ذهب أبو حازم قال رجل من جلساء سليمان: يا أمير المؤمنين، يجب(24) أن يكون النَّاس كلُّهم مثل أبي حازم؟ قال: لا. وكتب سليمان إلى أبي حازم: عزمت عليك إلا رفعت حوائجك إليَّ. فكتب إليه: أمَّا بعد، هيهات! رفعت حوائجي إلى من لا تختزن الحوائج دونه، فما أعطاني منها قبلت، وما أمسك عنِّي منها رضيت.
          وقال: وجدت الدُّنيا شيئين، شيئاً هو لي، وشيئاً هو لغيري؛ فأمَّا ما كان لغيري، فلو طلبته بحيلة السَّماء والأرض لم أصل (إليه)، فيمنع رزق غيري منِّي كما يمنع رزقي من غيري، ففي أيِّ هذين أفني عمري؟!
          وقال: اشتدَّت مؤنة الدِّنيا والدِّين. قالوا: هذا الدِّين، (فكيف الدُّنيا؟) قال: لأنَّك لا تمدُّ يديك إلى شيء إلَّا وجدت واحداً قد سبقك إليه.
          وبعث عبد الرَّحمن بن خالد _وكان أصلح من بقي_ إلى أبي حازم أن ائتنا حتَّى نسألك وتحدِّثنا. فقال: معاذ(25) الله! أدركت أهل العلم لا يحملون الدِّين إلى أهل الدُّنيا، فلن أكون أوَّل(26) من فعل ذلك، فإن كانت له حاجة فابلغنا. فتصدَّى له عبد الرَّحمن وسأله، وقال: قد ازددت علينا بهذا كرامة.
          وقال أبو حازم: انظر الذي تحبُّ أن يكون معك في الآخرة فقدِّمه اليوم، وانظر الذي تكره أن يكون معك ثَمَّ فاتركه اليوم، وما مضى من الدُّنيا(27) فحلم، وما بقي فأمانيٌّ، / وكلُّ عمل تكره الموت لأجله فاتركه، ثمَّ لا يضرُّك متى متَّ، ولا يحسن عبد فيما بينه وبين الله إلَّا أحسن الله ما بينه وبين العباد، ولا يفسد فيما بينه وبين الله إلَّا أفسد الله ما بينه وبين العباد، ولَمصانعةُ وجهٍ واحد أيسرُ من مصانعة الوجوه كلِّها، إنَّك إذا صانعت هذا مالت الوجوه كلُّها إليك، وإذا استفسدت بينه شانتك الوجوه كلُّها.
          وقيل لأبي حازم: أما ترى غلا السِّعر؟ فقال: ما لكم، وما يغمُّكم من ذلك؟ إنَّ الذي يرزقنا في الرُّخْص هو الذي يرزقنا في الغلاء، ومن عرف الدُّنيا لا(28) يفرح فيها برضا، ولم يحزن على بلوى، وما في الدُّنيا شيء يسرُّك إلَّا وقد أُلزق(29) به شيء يسوؤك، وقد رضيت من أحدكم أن يتَّقي على دينه كما يتَّقي على نعليه.
          وقال: اكتم حسناتك أشدَّ ما تكتم سيِّئاتك، يا ابن آدم بعد الموت يأتيك الخبر. وقال: السُّلطان سوق، فما نفق عنده أتى به، إن أنفق عنده الباطل جاءه الباطل، وإنْ أنفق عنده الحقَّ جاءه الحقُّ، رضي النَّاس من العمل بالعلم، ومن الفعل(30) بالقول، وإنِّي لأعظ، وما أرى للموعظة موضعاً، وما أريد بذلك إلَّا نفسي، وَلأَنَا من أن أُمنع الدُّعاء أخوف من أن أمنع الإجابة.
          وقال: شيئان إذا عملت بهما أصبت بهما خير الدُّنيا والآخرة، ولا أُطول عليك، تحمل ما تكره إذا أحبَّه الله، وتكره ما تحبُّ إذا كرهه(31) الله.
          ولمَّا حضرته(32) الوفاة، قيل له: كيف تجدك؟ قال: أجدني بخير، أجدني راجياً لله حسن الظَّنِّ به. ثمَّ قال: والله [لا] يستوي من غدا أو راح، يعمر أمور الآخرة لنفسه، فيقدِّمها أمامه قبل أن ينزل به الموت حتَّى يقدم عليها، فيقوم لها وتقوم له، ومن غدا وراح في (أمور) الدُّنيا يعمرها لغيره، ويرجع إلى الآخرة لا حظَّ له فيها ولا نصيب، ولو نجونا من شرِّ ما أصابنا من الدُّنيا ما يضرُّنا ما زوى عنَّا منها، ولئن كنَّا قد تورَّطنا فيها ما طلب ما بقي منها إلَّا أحمق، وإنَّ بضاعة الآخرة كاسدة، فاستكثروا منها في أوان كسادها، فإنَّه لو [قد] جاء يوم نَفَاقِها لم نصل منها إلى قليل ولا إلى كثير، وإنَّ الرَّجل ليعمل الحسنة تسرُّه(33) حين يعملها، وما خلق الله من سيِّئة أضرَّ له منها، وذلك أنَّه يتجبَّر(34) فيها، ويرى أنَّ له بها فضلاً على غيره، ولعلَّ الله أن يحبطها ويحبط معها عملاً كثيراً، وإنَّ العبد حين يعمل السَّيِّئة تسوؤه(35) حين يعملها، ولعلَّ الله يحدث له بها وجلاً، يلقى الله وإنَّ خوفها لفي جوفه باق.
          وقال: إنِّي لأستحي من / ربِّي أن أسأله شيئاً، فأكون كالأجير السُّوء، إذا عمل طلب أجرة، ولكنِّي(36) أعمل تعظيماً له.
          وسئل ما شكر العينين؟ قال: إن رأيت بهما خيراً أعلنته(37) ، وإن رأيت شرًّا سترته. قال: فما شكر ا(لأذنين؟ قال: إن سمعت بهما خيراً وعيته، وإن سمعت بهما شرًّا دفنته. قال: فما شكر) اليدين؟ قال: لا تأخذ بهما ما ليس لهما، ولا تمنع حقًّا هو لله(38) فيهما. قال: ما شكر البطن؟ قال: أن يكون أسفله طعاماً، وأعلاه علماً. قال: ما شكر الفرج؟ قال: كما قال [الله] تعالى: { إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ } إلى قوله { فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ } [المعارج:30- 31] قال: فما شكر الرِّجلين؟ قال: إن رأيت ميِّتاً غبطته استعملت بهما عمله، وإن رأيت ميِّتاً مقتَّه (كففتهما عن عمله، وأنت شاكر لله،) وأمَّا من شكر بلسانه ولم يشكر بجميع أعضائه، فمثله كمثل رجل له كساء، فأخذه بطرفه، ولم يلبسه، فلم ينفعه ذلك من الحرِّ، ومن البرد والثَّلج والمطر.
          قال: ولا تكون عالماً حتَّى يكون فيك ثلاث خصال، لا تبغي على من فوقك، ولا تحقر من دونك، ولا تأخذ على علمك دنيا. وكان العلماء فيما مضى من الزَّمان إذا لقي العالم منهم من فوقه في العلم كان يوم غنيمة، وإذا لقي العالم منهم من هو دونه لم يُزْهَ عليه، حتَّى كان الزَّمان فهلك النَّاس.
          وبعث بعض الأمراء إلى أبي حازم، فأتاه وعنده الأفريقيُّ(39) والزُّهريُّ وغيرهما، فقال له: تكلَّم يا أبا حازم. فقال: إنَّ خير الأمراء من أحبَّ العلماء، وشرَّ العلماء من أحبَّ الأمراء، وإنَّ فيما مضى إذا بعث الأمير إلى العلماء (لم) يأتوهم، وإذا أعطوهم لم يقبلوا منهم، وإذا سألوهم أن يرخِّصوا لهم لم يفعلوا، وكان الأمراء يأتون العلماء في بيوتهم فيسألونهم، فكان في ذلك صلاح الأمراء، وصلاح العلماء، فلمَّا رأى ذلك ناس، قالوا: ما لنا لا نطلب العلم حتَّى نكون مثل هؤلاء؟ فطلبوا العلم، فأتوا الأمراء فحدَّثوهم، فرخَّصوا لهم، فأعطوهم، فقبلوا منهم، فخربت العلماء على الأمراء، وخربت الأمراء على العلماء.
          قال عبد الرَّحمن بن زيد بن أسلم: قلت لأبي حازم يوماً: إنِّي لأجد شيئاً يحزنني. قال: وما هو يا ابن أخي؟ قلت: حبِّي الدُّنيا. قال [لي] : اعلم يا ابن أخي أنَّ هذا لشيء(40) ما أعاتب نفسي على بغض شيء حبَّبه الله إليَّ؛ لأنَّ الله تعالى قد حبَّب هذه الدُّنيا إلينا، ولكن لتكن معاقبتنا أنفسنا في غير هذا، أن لا يدعونا حبُّها(41) إلى أن نأخذ شيئاً من شيء يكرهه الله، ولا نمنع شيئاً من شيء أحبَّه الله، فإذا نحن / فعلنا ذلك لم يضرنا حبُّنا إيَّاها(42) ، وإذا رأيت ربَّك يتابع نعمه عليك، وأنت تعصيه فاحذره.
          وقيل له: ما القرابة؟ قال: المودَّة. قيل: فما اللَّذة؟ قال: الموافقة.
          قال: ومثل العالم والجاهل مثل البَنَّاء والفاعل، تجد البَنَّاء على شاهق القصر بيده حديدته جالساً، والفاعل يحمل(43) اللَّبِنَ والطِّين على عاتقه على خشبة تحته مَهْواة، لو زَلَّ ذهبت نفسه، يتكلَّف الصعود بها على هول ما تحته(44) ؛ حتَّى يأتي بها إلى البَنَّاء، فلا يزيد البنَّاء على أن يعدلها بحديدته وبرأيه، فإذا سلما أخذ البَنَّاء تسعة أعشار الأجر، (وأخذ الفاعل عُشْرَهُ، وإن هلك ذهبت نفسه، فكذلك العالم يأخذ بأضعاف الأجر) لعلمه.
          وقال: لأن يبغضك عدوُّك المسلم خير لك من أن يحبَّك خليلك الفاجر.
          وقال: كنت ترى حامل القرآن في خمسين رجلاً، فتعرفه قد خضعه(45) القرآن، وأدركت القرَّاء الذين هم القرَّاء، فأمَّا اليوم فليسوا بقرَّاء، ولكنَّهم(46) خُرَّاء.
          وكان أبو حازم يمرُّ على الفاكهة في السُّوق فيشتهيها، فيقول: موعدك الجنَّة.
          وكتب إلى الزُّهريِّ: عافانا الله وإيَّاك (أبا بكر) من الفتن، ورحمك من النَّار، فقد أصبحت بحال ينبغي لمن عرفك بها أن يرحمك(47) ، إلى آخر ما كتب. كما سيأتي في ترجمة الزُّهريِّ، إن شاء الله تعالى.
          حدث أبو حازم بالواسطة عن رسول الله صلعم، فقال: قال رجل: يا رسول الله، دلَّني على عمل إذا عملته أحبَّني الله وأحبَّني النَّاس. قال: «ازهد في الدُّنيا أحبَّك الله، وازهد فيما عند النَّاس أحبَّك(48) النَّاس».
          وقال: قال: «أتاني جبريل، وقال: يا محمَّد، عش ما شئت فإنَّك ميِّت، وأحبب ما شئت(49) فإنَّك مفارقه، واعمل ما شئت فإنَّك مجزي به، ثمَّ قال: يا محمَّد، شرف المؤمن قيامه باللَّيل، وعزُّه استغناؤه عن النَّاس».
          وقال: قال صلعم: «من أحبَّ أن يسوِّر ولده سواراً من النَّار(50) فليسوِّره سواراً من ذهب، ولكن الفضَّة اعملوا بها ما شئتم».
          وقال: قال: «من اغتاب أخاه فاستغفر له فهو كفَّارته».
          وقال: قال: «اللهم اغفر للصَّحابة ولمن رأى». قال أبو حازم: قلت لسهل بن سعد: ما معنى قوله: «ولمن رأى» (قال: من رأى) الصَّحابة، ومن رأى من رآهم.
          وقال: (قال) صلعم: «ثلاثة يقضي الله عنهم يوم القيامة، رجل خاف العدوَّ على بيضة الإسلام، وليس عنده قوَّة، فأدان ديناً فابتاع به سلاحاً، وتقوَّى به في سبيل الله، فمات قبل أن يقضيه أو يقدر على قضائه، فهذا يُقضى [الله] عنه، ورجل مات عنده أخوه المسلم، فلم يجد ما يكفِّنه / فيه، فاستقرض فاشترى به كفناً فمات، وهو لا يقدر على قضائه، فهذا يقضي الله عنه، ورجل خاف على نفسه العنت، واشتدَّت به العزوبة، فاستقرض فتزوَّج، ولم يقدر على قضائه، فمات، فهذا يقضي الله عنه يوم القيامة».
          وقال: قال: «نيَّة المؤمن خير من عمله، وعمل المنافق خير من نيَّته، وكلٌّ يعمل على نيَّته، فإذا عمل المؤمن عملاً ثار في قلبه نوره، والله كريم، يحبُّ الكرم ومعالي الأخلاق، ويبغض سفسافها». السَّفْسَافُ _بمهملتين وفاءين_ الرَّديء من كلِّ شيء.
          وقد ذكرنا وفاته في أوَّل ترجمته.


[1] الهداية والإرشاد:1/321.
[2] في (ن): (قاله).
[3] في غير (ن): و(د): (مطيقاً). وجاء في أصولنا كلها: (مولى لبني أشجع) قال المزي في تهذيب الكمال 11/272: وهو وهم، ليس في بني ليث أشجع، إنما فيهم (شجع)، قال ذلك أبو علي الغساني الحافظ.
[4] في (ن): (أحداً أخذ الحكمة).
[5] في غير (ن): (حتى لهو).
[6] في (ن) تصحيفاً: (العهد).
[7] في (ن) تصحيفاً: (عن).
[8] في غير (ن): (أين).
[9] في (ن): (يا عرج).
[10] في (ن) تصحيفاً: (يجدني).
[11] في (ن): (ما بقوا).
[12] في (ن): (فيدعوا).
[13] في غير (ن): (للمؤمنين).
[14] في (ن): (يستغنوا).
[15] في (ن) تصحيفاً: (ما إني).
[16] في (ن) تصحيفاً: (الموسيء).
[17] في (ن): (فما).
[18] في غير (ن): (اغتاص).
[19] في (ن): (نصحة).
[20] في (ن): (أمثالها كثرة).
[21] في (ن): سقطت (إني) من الآية.
[22] في غير (ن): (أجر).
[23] في (ن): (واسيتهم).
[24] في غير (ن): (تحب).
[25] في (ن) تصحيفاً: (ماعاذ).
[26] في غير (ن): (بأول).
[27] في (ن): (من اليوم).
[28] في غير (ن): (فلم).
[29] في غير (ن): (التزق).
[30] في (ن) تصحيفاً: (العقل).
[31] في (ن): (كره).
[32] في (ن): (حضره).
[33] في (ن) تصحيفاً: (كره).
[34] في (ن) تصحيفاً: (يتحسر).
[35] في (ن) تصحيفاً: (تسره).
[36] في غير (ن): (ولكن).
[37] في غير (ن)تصحيفاً: (وعيته).
[38] في (ن): (لله هو).
[39] الإفريقي هو أبو أيوب عبد الله بن علي الأزرق، الكوفي، صدوق يخطىء، وذكره ابن حبان في الثقات، وقال ابن معين: ليس به بأس. تهذيب التهذيب:5/285.
[40] في (ن): (الشيء) ولعل هنا سقطاً لأن الجملة ركيكة.
[41] في غير (ن): (حبنا).
[42] في (ن) تصحيفاً: (لم يضر فأحببنا).
[43] في (ن): الفاعل ويحمل).
[44] في (ن) تصحيفاً: (تخله).
[45] في الحلية:3/246: قد مَصَعَهُ القرآن قال صاحب القاموس: امتصع فؤاده: زال من فَرَق، والمَثُوع: الرجل الفَرِق، المنخوب الفؤاد. (مصع).
[46] في (ن) تصحيفاً: (ولكم).
[47] في غبر (ن): (عرفك أن يرحمك بنا) سوى (د): (بها).
[48] في النسخ كلها (أحبك) بصيغة الماضي، ولم أجد رواية للحديث توافق ما عندنا إذ كلها (يحبك) بصيغة المضارع، والحديث مشهور، وهو في سنن ابن ماجه، من طريق أبي حازم برقم (4102) إلا أن فيه خالد بن عمرو القرشي، قال الذهبي في التلخيص: وضاع. المستدرك للحاكم برقم (7873).
[49] كذا في كل النسخ (ما شئت) وهو حرف غير معروف في الحديث؛ إذ كل الروايات (من شئت) وأخرجه أبو نعيم في الحلية، وأبو الشيخ، والحاكم وصحح إسناده، وحسنه العراقي والسخاوي في المقاصد الحسنة، وانظر إن شئت كشف الخفا الحديث رقم (1731).
[50] في غير (ن): (نار).