التلويح إلى معرفة ما في الجامع الصَّحيح

باب كيف كان عيش النبي وأصحابه وتخليهم من الدنيا؟

          ░17▒ (بَابٌ كَيْفَ كَانَ عَيْشُ النَّبِيِّ صلعم وَأَصْحَابِهِ، وَتَخَلِّيهِمْ عَنَ الدُّنْيَا)
          اِعلَمْ أنَّ طائفة مِن الأمَّة قالوا: الغني الشَّاكر أفضل مِن الفقير الصَّابر، وقالت طائفة بالعكس، فالطائفة الأولى قالوا: ليس في الأحاديث ما يُوجِبُ فضيلة الفقراء إذ حديث سهل، أي وهو قوله صلعم : (هَذَا خَيْرٌ مِنْ مِلْءِ الأَرْضِ مِثْلَ هَذَا) يحتمل أن تكون خيريته لفضيلةٍ أخرى فيه كالإسْلام، وحديث خبَّاب ليس فيه ما يدلُّ على فضله، فضلًا عَن أفضليته؛ إذ المقصود منه أنَّ فقراءَ منهُم حيث فتحوا البلاد ونالوا مِن الطِّيبات خَشُوا أن يكون قد عَجَّلَ لهم أجر طاعتهِم بما نالوا منها؛ إذ كانوا على نعيم الآخرة أَحْرَص.
          وحديث عمران وهو قوله صلعم : (اِطَّلَعْتُ فِي الجَنَّةِ فَإِذَا / أَكْثَرَ أَهْلِهَا الفُقَرَاء) يحتمل أن يكون إخبارًا عَن الواقِع، كما تقول: أكثر أهل الدُّنيا الفقراء، وأمَّا تركُهُ الأَكلَ على الخِوَاِن وأكلِ المُرَقَّقِ فلأَنَّهُ لم يرضَ أن يستعجِل مِن الطَّيِّبات وكذلك حديثُ عائِشة، ثمَّ إنِّه معارَضٌ باستعاذَتِه مِن الفقرِ وبقوله تعالى: {إِنْ تَرَكَ خَيْرًا}[البقرة:180]. أي مالًا، وبقوله: {وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى}[الضحى:8] وبأنَّ رسولَ اللهِ صلعم تُوفِّيَ في أجمَلِ حَالاتِه وهو مُوسِرٌ بِما أفاءَ اللهُ عليهِ، وبأنَّ الغنى وصفٌ للحقِّ تعالى والفقرُ وصفٌ للخلقِ.
          وأجابت الطائفة العاكِسة بأنَّ السيَاق يدلُّ على أنَّ الترجيحَ للفقراءِ، إذِ التَّرجيحُ بالإسلام ونحوِهِ لا حاجة إلى البيانِ وبأنَّ مَن لم يَنقُص مِن أجرِه شيءٌ مِن الدنيا يكونُ أفضلُ وأكثرُ ثوابًا عندَ الله يومَ القيامة، وبأنَّ الإيماءَ إلى أنَّ عِلِّيَةَ دخولِ الجنَّة الفَقْرَ يُشعِرُ بأفضليتِه، وأمَّا حكاية تركِ النبيِّ صلعم فهيَ دليلٌ لنا لا علينا إذ معناهُ أنَّهُ اختارَ الفقرَ ليكونَ يومَ القيامة ثوابُهُ أكثر، وحديثُ الاستعاذةِ مِن الفقرِ مُعَارَضٌ بحديثِ الاسْتعاذةِ من الغِنى، وأمَّا الإتيان فنحن فَلا نُنكرُ أنَّ المالَ خيرٌ إنَّما النِّزاعُ في الأفضليَّةِ لا فِي الفَضْلِ، أو المراد بالأغنياء في الآية الثَّانية غنى النَّفس، وأمَّا قصَّة وفاته صلعم فلا نُسَلِّمُ الإيسار، إذ كان مَا أفاء الله تعالى عليه صدقة وكان دِرعُه رهنًا عند يهودي على شعيرٍ لأهلِه، وأمَّا غنى الله تعالى فليس بعينِ الغنى الَّذي نحنُ فيه؛ فليس مِن هذا البحث.