التلويح إلى معرفة ما في الجامع الصَّحيح

باب فضل الفقر

          ░16▒ (بَابُ فَضْلِ الفَقْرِ)
          ذهب قوم إلى تفضيله على الغنى وممَّن ألَّفَ في تفضيله ابنُ النَّجَّار، واحتَجَّ مَنْ فضَّلهُ بأحاديث الباب وبحديث أنس أنَّه ◙ كان يقول في دعائهِ: ((اللهُمَّ أَحْيِنِي مِسْكِينًا، وَأَمِتْنِي مِسْكِينًا وَاحْشُرْنِي فِي زُمْرَةِ الْمَسَاكِينِ)) رواه الترمذي وقال غريب، وأخرجه الحاكم في مُستدركه مِن حديث أبي سعيد ثمَّ قال: صحيح الإسناد، ومِمَّا استدلَّ به قوله ◙ : ((إِنَّ الْفُقَرَاءِ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ قَبْلَ الْأَغْنِيَاءِ بِخَمْسمِائَةِ عَامٍ وَأَهْلُ الْجَدِّ مَحْبُوسُونَ)) أخرجه الترمذي مِن حديث أبي هريرة ثمَّ قال: صحيح.
          ومنهم مَن فَضَّلَ الغِنى، ومِمَّن ألَّفَ في تفضيلهِ ابنُ قُتيبة، واحتجَّ مَن فَضَّلَهُ بقوله ◙ لِسعد: ((إِنَّكَ إِنْ تَذَرَ وَرَثَتَكَ أَغْنِيَاءَ، خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَذَرَهُمْ عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ)) وبقوله لكعب بن مالك: ((أَمْسِكْ عَلَيْكَ بَعْضَ مَالِكَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكَ)) حينَ قال له: إني نَذرْتُ أن أنخَلِعَ مِن مالي صدقة، وقال في معاوية: ((إِنَّهُ صُعْلُوكٌ لَا مَالَ لَهُ)) ولم يكن ◙ يَذُمُّ حَالَهُ فيما الفضلُ (1) فيه.
          قال ابن بطَّال: وأحسنُ ما رأيتُ في هذه المسألة ما قاله أحمد بن نصر الداودي: إنَّ الفقر والغنى مِحنَتَانِ وبَلِيَّتَانِ مِن الله يبلو بهما خِيَارَ عِبادِه ليرى صبرَ الصابرين وطُغيانَ البَطِرِين. وإنَّما أشكَلَ ذلك على غيرِ الرَّاسخينَ فوضعَ قومٌ الكتبَ في تفضيلِ الغنى على الفقر، وعكسَ آخرون وأغفلوا الوجهَ الذي يجب الحضُّ عليه والنَّدب إليه، وأرجو لمن صَحَّت لله نيته وخَلُصَت لهُ طريقُهُ وكانت لوجههِ مُقابلة أن يجازيِه الله على نيَّتِه ويُعلمُه مَا فيه هدايتُه، قال تعالى: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ}[الأنبياء:35] وقال: {وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ} الآية [الإسراء:83] وقال: {كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى. أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى}[العلق:6-7] وقال: {إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا} الآية [المعارج:19] وقال: {فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ} إلى قوله {أَهَانَنِ}[الفجر:15-16] وقال: {وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ} إلى آخره [الزخرف:33] وقال ◙ : ((مَا الفَقرَ أخشَى عَلَيكُم ولكِن أخافُ أنْ تُبسَطَ عليكُم / الدُّنيا فَتَنَافَسُوهَا كَما تَنافسُوها وَتُهلِكَكُم كَمَا أَهْلَكَتهُم)) وَكان يستعيذ مِن فتنة الفقر وفتنة الغنى، وهذا كلُّهُ يدلُّ على أنَّ ما فوقَ الغِنى مِحنَةٌ لا يَسلَمُ منها إلَّا مَن عُصِم، وقال ◙ : ((مَا قَلَّ وَكَفَى خَيْرٌ مِمَّا كَثُرَ وَأَلْهَى)) وهذا كلُّه يدلُّ على فضلِ الكَفاف لا فضل الفقر والغنى، بل الفقر والغنى بَلِيَّتَانِ كَان ◙ يستعيذُ مِن فِتنَتِهِمَا، فَلا يجوز أن يُقال: إنَّ إحدى هاتين الخِصْلَتين أفضلُ مِن الأخرى لأنَّهُما مِحنَتَانِ يبلو الله بهما عباده ليعلمَ الصابرين منهُم والشَّاكرين، قال تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ}[محمد:31].
          ولم يأتِ في حديثٍ _فيما علمناه_ أنَّه ◙ دعا بالفقر على نفسِهِ وَلا على أحدٍ يُريدُ به الخير بل لصلاحهِم مع الفَقر، أرأيتَ الفقيرَ إذا لم يكُن صالحًا فلا فضلَ لهُ في الفقرِ بل كان يدعو بالكفاف ويستعيذُ مِن فتنةِ الغنى والفقر، ولم يكن يدعو بالغنى إلَّا لشَرطَة يَذكرُها في دعائِه. وما رُوِيَ أنَّهُ كان يقول: ((اللهُمَّ أَحْيِنِي مِسْكِينًا.)) الحديثَ. إن ثبتَ جَمعْنا بِه أَن لا يُجَاوِزَ به الكَفاف أو أنَّه أراد به الاستِكَانة للهِ تعالى، ويُوَضِّحُهُ أنَّه تركَ أموالَ بني النَّضِير وسهمه مِن فَدَك وخيبر، وغَيرُ جائِزٍ أن يُظَنَّ بهِ أن يسأل الله أنْ لا يكون بيدِه شيءٌ وهو يقدر عَلى إزالته مِن يده، وما رُوِيَ أنَّه ◙ قال: ((اللهُمَّ مَن آمَن بي وَصَدَّقَ بِما جِئْتُ بِهِ فَأَقلِل لَهُ المالَ وَالوَلَد)) فلا يصحُّ في النَّقل ولا في الاعتبار، ولو كان إنَّما دعا بذلِك في المال وحدَه لكان مُحتمِلًا أن يدعو لهُم بالكفافِ، وأمَّا دعاؤُه بقلَّةِ الولَد فكيفَ يدعو أن يَقِلَّ (2) المسلمون وهو يرجو أن يكونَ أكثرَ الأنبياءِ تابِعًا وأنَّه مُكاثِر بأمَّتِهِ الأمَم بالعدد (3)، ودعا لخادمهِ أنسٍ بكثرةِ المال والولد حتَّى قالت له أم سليم: خُوَيْدِمُكَ أنسٌ فادعُ اللهَ له. وأحاديثه لا تتناقض، وَلم يدعُ لهُ بكثرة المال إلَّا وقد قَرَنَ ذلك بقوله: ((وَبَارِك لَهُ فِيمَا أَعطَيتَهُ))، وقوله: ((سَبَقَ أَهْلُ الدُّثُورِ بالأُجُورِ والدَّرَجَاتِ والنَّعِيمِ المقِيْم)).
          قال المهلَّب: وليس دخول الفقراء الجنَّة قبل الأغنياء بالمدَّة المذكورة لفضيلة الفقر؛ لأنَّ التقدُّم في دخولها لا تُستَحَقُّ فيهِ فضيلة، ألا ترى أنَّه ◙ أفضلُ البشر ويتأَخَّرُ دخولُه حتى يشفَع في أمَّتِه وكذلِك صالحُ المؤمنين يشفعونَ / فيمَن دونهُم في الدَّرجةِ وإنَّما يُنظَرُ يومَ القيامة بين النَّاس فيُقَدَّمُ الأَقلُّ حِسابًا فالأقَل، فلذلك تقدَّمتِ الفقراء لأنَّه لا علقة عليهم في حساب الأموال فيدخُلون الجنَّة قبلَ الأغنياء، قلت: ولذلك ورَدَ أنَّ عبد الرَّحمن بن عوف يتأخَّرُ دخوله مِن قِبَلِ مالِهِ، وسليمان ◙ مِن قبل مُلكِه. والله أعلم، ثم يُحاسب أهلُ الأموال ويدخلون الجنَّة وينالونَ فيها مِن الدَّرجاتِ ما قد لا يبلُغُ الفقراء.
          وقوله: (اِطَّلعتُ في الجَنَّةِ فَرَأَيْتُ أَكْثَرَ أَهْلِهَا الفُقَرَاء) لا يُوجِبُ فضلَ الفقرِ وإنَّما معناه أنَّ الفقراءَ في الدُّنيا أكثرُ مِن الأغنياءِ حتَّى فاخرَ عن ذلك، وليس دخول الفقراء الجنَّة لفقرِهِم بلْ لصلاحِهِم مع الفقرِ، أَرأيتَ الفَقيرَ إذا لم يَكُن صَالحًا فلا فضلَ له في الفقر.


[1] في الأصل:((انفصل)).
[2] في الأصل:((يدعو لمن قتل)).
[3] في الأصل:((بالعدد)) غير واضح.