التلويح شرح الجامع الصحيح

باب: لا يذاب شحم الميتة ولا يباع ودكه

          ░103▒ وذكر البخاريُّ في:(بَاب: لَا يُذَابُ شَحْمُ المَيْتَةِ وَلَا يُبَاعُ وَدَكُهُ)
          قَالَ البُخَارِيُّ: رواه جابر عن النبي صلعم.
          هذا التعليق ذكره البخاري في «صحيحه» مسندًا بعدُ، وقال في أخبار بني إسرائيل: رواه أبو هريرة عن النبي صلعم، كأنه يريد بما سنذكره هنا / : وذكر حديث ابنَ عباسٍ قالَ: بَلَغَ عُمَرَ أَنَّ فُلَانًا بَاعَ خَمْرًا، فَقَالَ: قَاتَلَ اللهُ فُلَانًا، أَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلعم قَالَ: «قَاتَلَ اللهُ اليَهُودَ؛ حُرِّمَتْ عَلَيْهِمُ الشُّحُومُ، فَجَمَلُوهَا فَبَاعُوهَا؟!» [خ¦2223].
          وعند أبي داود من حديث أبي الوليدِ بَرَكَةَ عن ابنِ عباسٍ قال: رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلعم جَالِسًا عِنْدَ الرُّكْنِ، قَالَ: فَرَفَعَ بَصَرَهُ إِلَى السَّمَاءِ وَضَحِكَ، وقَالَ: «لَعَنَ اللهُ اليَهُودَ _ثَلَاثًا_ وإِنَّ اللهَ إِذَا حَرَّمَ عَلَى قَوْمٍ أَكْلَ شَيْءٍ حَرَّمَ عَلَيْهِمْ ثَمَنَهُ».
          وعند البخاري عن أبي هريرة يرفعه: «إِنَّ اللهَ حَرَّمَ الخَمْرَ وَثَمَنَهَا، وَحَرَّمَ المَيْتَةَ وَثَمَنَهَا، وَحَرَّمَ الخِنْزِيرَ وَثَمَنَهُ».
          وعند مسلمٍ عن ابنِ عباسٍ: «إِنَّ رَجُلًا أَهْدَى لِرَسُولِ اللهِ صلعم رَاوِيَةَ خَمْرٍ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ صلعم: هَلْ عَلِمْتَ أَنَّ اللهَ حَرَّمَهَا؟ قَالَ: لَا، فَسَارَّ إِنْسَانًا، فَقَالَ لَهُ النبيُّ صلعم: بِمَ سَارَرْتَهُ؟، قَالَ: أَمَرْتُهُ بِبَيْعِهَا، قَالَ: إِنَّ الَّذِي حَرَّمَ شُرْبَهَا حَرَّمَ بَيْعَهَا، قَالَ: فَفَتَحَ المَزَادَةَ حَتَّى ذَهَبَ مَا فِيهَا».
          وفي «علل ابن أبي حاتم» عن عبد الحميد بن جعفر، عن يزيد بن أبي حبيب، عن عمرو بن الوليد، عن عبد الله بن عمرو يرفعه: «إنَّ اللهَ حَرَّمَ بَيْعَ الخنازيرِ والميتةِ والأصنامِ، فقالَ رجلٌ: مَا تَرَى في شُحُوْمِ الميتةِ [يدهن بها]؟ فقالَ: لَعَنَ اللهُ اليهودَ...» الحديثَ.
          قال: قال لي أبي: لا أعلم أحدًا من المصريين روى هذا الحديث عن يزيد عن عمرو بن الوليد، فإن كان عبد الحميد حفظه فإن محله الصدق، وذكر النسائي في «سننه» فلانًا هذا سمَّاه سَمُرَةَ بنَ جُنْدَبٍ.
          وعند البيهقي من حديث طاوس عن ابن عباس قال: قال عمر: أن سمرة باع خمرًا، قاتل الله سمرةَ الحديثَ.
          قَالَ الخَطَّابِيُّ: قيل: إن سمرة لم يبع الخمر بعينها، ولكن خللها ثم باعها، وإلا فكيف يجوز على مثل سمرة بيع عين الخمر، وقد شاع تحريمه، لكنه خلَّلها متأولًا، وكان سمرة واليًا لعمر على البصرة، ويحتمل أنه باع العصير ممن يتخذه خمرًا، والعصير قد يسمى خمرًا كما سُمِّي به العنب، قال جل وعز: {إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا}[يوسف:36] / . وقال ابن الجوزي: يحمل على أنه كان يأخذها من أهل الكتاب عن قيمة الجزية، فيبيعها منهم ظنًا منه أن ذلك جائز. وقال: قائله لنا ابن ناصر، وإنما كان ينبغي له أن يوليهم بيعها، قال ابن ناصر: هذا هو الصحيح.
          وذكر الحافظ أبو بكر الإسماعيلي فيما رويناه عنه في كتابه «المدخل»: يجوز أن سمرة علم بتحريم ثمنها ولم يعلم بتحريم بيعها، ولو لم يكن كذلك لما أقره عمر على عمله ولعزله لو فعله عن علم: أخبرنا بذلك الإمام علي بن أبي بكر عرف بابن الصلاح قراءة عليه وأنا أسمع عن سبط الشامي عنه: أخبرنا ثابت بن بندار: أخبرنا البرقاني عنه سماعًا.
          وقَالَ ابنُ بَطَّالٍ: أجمع العلماء على تحريم بيع الميتة بتحريم الله جل وعز لها، قال تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ والدَّمُ}[المائدة:3]، واعترض بعض الملاحدة بأن الابن إذا ورث من أبيه جارية كان الأب وطئها، فإنها تحرم على الابن، ويحل له بيعها بالإجماع وأكل ثمنها، قال القاضي: وهذا تمويه على من لا علم عنده، لأن جارية الأب لم يحرم على الابن منها غير الاستمتاع على هذا الولد دون غيره من الناس، ويحل لهذا الابن الانتفاع في جميع الأشياء سوى الاستمتاع، ويحل لغيره الاستمتاع وغيره بخلاف الشحوم فإنها محرمة المقصود منها، وهو الأكل منها على جميع اليهود، وكذلك شحوم الميتة محرمة الأكل على كل أحد، فكان ما عدا الأكل تابعًا له بخلاف موطوءة الأب، وقد قال العلماء في عموم تحريم الميتة إنه يحرم بيع جثة الكافر كأنهم لمحوا ما جاء أن نوفل بن عبد الله المخزومي قتله المسلمون يوم الخندق، فبذل الكفار في جسده للنبي صلعم عشرة آلاف درهم، فلم يأخذها ودفعها إليهم، وقال: لا حاجة لنا بجسده ولا بثمنه، ذكره ابن هشام، وله أصل في «كتاب الترمذي».
          و(جَملوها) أي: أذابوها، [واستدل به أصحاب مالك على سد الذرائع، لأن اليهود توجه عليهم اللوم بتحريم أكل الثمن من جهة تحريم أكل الأصل، وأكل الثمن ليس هو أكل الأصل بعينه، لكنه لما كان سببًا إلى أكل الأصل بطريق المعنى استحقوا اللوم ولهذا] / قَالَ الخَطَّابِيُّ: في هذا الحديث إبطال الحيل والوسائل التي يتوصل بها إلى المحظورات؛ ليعلم أن الشيء إذا حرم عينه حرم ثمنه.