التلويح شرح الجامع الصحيح

باب بيع الزبيب بالزبيب والطعام بالطعام

          ░75▒ باب بَيْعِ الزَّبِيبِ بِالزَّبِيبِ وَالطَّعَامِ بِالطَّعَامِ
          ذكر فيه حديث ابن عمر: (نهى عَنِ المُزَابَنَةِ، وَالمُزَابَنَةُ: بيع الثَّمر بِكَيْل، إِنْ زَادَ فَلِي، وإِنْ نَقَصَ فَعَلَيَّ. قَالَ _يعني ابن عمر_: وَحَدَّثَنِي زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلعم رَخَّصَ فِي بيع العَرَايَا بِخَرْصِهَا) [خ¦2172] [خ¦2173].
          وعند مالك عن عبد الله بن يزيد أن زيدًا أبا عياش أخبره أنه سأل سعد بن أبي وقاص عن البيضاء بالسُّلْت فقال له سعد: أيهما أفضل؟ قال: البيضاء. فنهاه عن ذلك، وقال سمعت رسول الله صلعم يسأل عن اشتراء التمر بالرطب، فقال رسول الله صلعم: «أينقص الرطب إذا يبس؟» فقالوا: نعم. فنهى عن ذلك.
          ذكر الدارقطني في كتاب «الموطَّآت» في رواية عبد الله الحنفي: فقال النبي صلعم لمن حوله: «هل ينقص إذا يبس؟» قالوا: نعم. قال: «فلا إذن».
          وقال علي بن عبد الحميد: «لا خير فيه».
          في رواية ابن نمير: فقال صلعم: «أليس ينقص إذا يبس؟» قالوا: بلى. فكرهه / . ولما خرجه الطوسي والترمذي قالا: حسن صحيح.
          وقال الحاكم: تابعه يعني مالكًا إسماعيل بن أمية ويحيى بن أبي كثير، ولفظه: حدثنا عبد الله بن يزيد أن أبا عياش أخبره سمع سعدًا: «نهى رسول الله صلعم عن بيع الرطب بالتمر نسيئة»، ثم قال: صحيح لإجماع أئمة أهل النقل على إمامة مالك، وأنه محكَّم في كل ما يرويه من الحديث إذ لم يوجد في رواياته إلا الصحيح خصوصًا في حديث أهل المدينة لمتابعة هذين الإمامين له، والشيخان لم يخرجاه لما خشيا من جهالة زيد أبي عياش.
          وعند الطحاوي عن يونس عن ابن وهب عن عمرو بن الحارث عن بُكير بن عبد الله عن عمران بن أبي أنس أن مولى لبني مخزوم حدثه أنه سأل سعد بن أبي وقاص عن الرجل يُسلف الرجلَ الرطب بالتمر إلى أجل فقال سعد: نهانا رسول الله صلعم عن هذا.
          قال أبو جعفر: فهذا عمران وهو رجل متقدم معروف قد روى هذا الحديث كما رواه يحيى بن أبي كثير فكان ينبغي في تصحيح الآثار أن يرتفع حديث عبد الله بن يزيد لمكان الاختلاف فيه وثبت حديث عمران، فيكون النهي الذي جاء في حديث سعد هذا إنما هو لعلة النسيئة لا غير.
          ولما خرجه الحاكم من صحيحه من حديث مخرمة بن بُكَير عن أبيه عن عمران قال: سمعت أبا عياش قال: سألت سعدًا عن اشتراء السُّلت بالتمر، فقال سعد: أبينهما فضل؟ قالوا: نعم. قال: لا يصلح. سُئل رسول الله صلعم عن اشتراء الرطب بالتمر فقال: أبينهما فضل؟ فقالوا: نعم، الرطب ينقص. فقال صلعم: لا يصلح. وقال: صحيح الإسناد.
          ولما خرجه ابن حبان في «صحيحه» من حديث مالك عن ابن يزيد، قال أبو حاتم: البيضاء: الرطب من السُّلت باليابس من السُّلت.
          وخرجه أيضًا ابن خزيمة في «صحيحه» على ما ذكره [الصريفي].
          وفي / «الاستذكار» لابن عبد البر قيل: إن أبا عياش هذا هو أبو عياش الزرقي: حدَّثني عبد الوارث حدثنا قاسم حدثنا الخشني حدثنا ابن أبي عمر حدثنا ابن عيينة عن إسماعيل بن أمية عن عبد الله بن يزيد عن أبي عياش الزرقي أن رجلا سأل سعدًا.
          وقال الطحاوي في «المشكل»: هذا محال لأن أبا عياش الزرقي من جلة الصحابة لم يدركه ابن يزيد.
          وقد روي أيضًا عن ابن يزيد عن سعد بن مالك، وعياش هذا لا يعرف.
          قال أبو جعفر فيه: بأن فساد هذا الحديث في سنده وقفه.
          وقال ابن حزم: زيد أبو عياش لا يُدرى من هو. وعن أبي حنيفة مجهول.
          وقال ابن المواق: عينه معروفة، وحاله مجهولة.
          وقال الدارقطني: هو ثقة.
          وذكره فيهم ابن حبان وابن خلفون.
          وعند الدارقطني من حديث موسى بن عبيد الله _وفيه كلام_ عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر قال: «نهى رسول الله صلعم عن الرطب باليابس».
          وقال الإسماعيلي: ليس في الحديث الذي ذكره البخاري من جهة النص الزبيب بالزبيب، ولا الطعام بالطعام إلا من جهة المعنى.
          قال: والبخاري ينحو نحو أصحاب الظاهر فلو حقق الحديث بيع الثمر في رؤوس الشجر بمثله من جنسه يابسًا أو صحح الكلام على قدر ما ورد به لفظ الخبر كان أولى.
          المزابنة، مفاعلة، لا تكون إلا من اثنين، وأصلها الدفع الشديد.
          قال الداودي: كانوا قد كثر فيهم المدافعة بالخصام، فسمي مزابنة، ولما كان كل واحد من المتبايعين يدفع الآخر في هذه المبايعة عن حقه، سميت بذلك.
          قال ابن سيده: الزبن: دفع الشيء عن الشيء، زَبَن الشيء يَزْبِنه زَبْنا وزَبَن به، انتهى.
          هذا يرد قول من قال الدفع من....
          وفي «الجامع» للقزاز: المزابنة كل بيع فيه غرر، وهو بيع كل جزاف لا يعلم كيله ولا وزنه ولا عدده، وأصله أن المغبون يريد أن يفسخ البيع، ويريد الغابن ألا يفسخه فيتزابنان عليه، أي: يتدافعان.
          وقيل: هو بيع الثمر في / رؤوس النخل بالتمر كيلًا، وبيع العنب في الكرم بالزبيب. وأصله ما ذكرنا.
          وعند الشافعي: هو بيع مجهول بمجهول أو معلوم، من جنس تحريم الربا في نقده، وخالفه مالك في هذا القيد، فقال: سواء كان مما يحرم الربا في نقده أو لا، مطعومًا كان أو غير مطعوم.
          وقال ابن بطال: أجمع العلماء على أنه لا يجوز بيع الثمر في رؤوس النخل بالتمر، لأنه مزابنة، وقد نهي عنه.
          فأما بيع رطب ذلك بيابسه إذا كان مقطوعًا، وأمكن فيه المماثلة، فجمهور العلماء لا يجوزون بيع شيء من ذلك بجنسه لا مماثلًا ولا متفاضلًا، وبه قال أبو يوسف ومحمد.
          وقال أبو حنيفة: يجوز بيع الحنطة الرطبة باليابسة، والتمر بالرطب مثلًا بمثل، ولا يجيزه متفاضلًا. قال ابن المنذر: وأظن أبا ثور وافقه.
          وقال أبو عمر: لا خلاف بين العلماء أن تفسير المزابنة في هذا الحديث من قول ابن عمر أو مرفوعه، وأقل ذلك أن يكون من قوله، وهو راوي الحديث فسلم له، كيف ولا مخالف في ذلك.
          وأجمعوا على تحريم بيع العنب بالزبيب، وعلى تحريم بيع الحنطة في سنبلها بحنطة صافية، وهي المحاقلة، وسواء عند جمهورهم كان الرطب والعنب على الشجر أو مقطوعًا.
          وقال أبو حنيفة: وإن كان مقطوعًا جاز بيعه بمثله من اليابس.
          والعرية: النخلة المعرَّاة وهي التي وهب ثمرة عامها.
          والعرية أيضًا التي تعزل عن المساومة عند بيع النخل.
          وقيل: هي النخلة التي قد أكل ما عليها، واستعرى الناس في كل وجه أكلوا الرطب من ذلك.
          وفي «الجامع»: وأنت مُعْرٍ.
          وفي «الصحاح»: فيعروها الذي أعطيته؛ أي: يأتيها، وهي فعيلة بمعنى مفعولة، وإنما أدخلت فيها الهاء لأنها أفردت [فصارت في عداد الأسماء مثل النطيحة] والأكيلة، ولو جئت بها مع النخلة قلت: نخلة عَرِيٌّ.
          وعند القرطبي: وقيل: هي فعيلة بمعنى فاعلة؛ أي: عريت من ملك معريها، وقيل: عراه يعروه إذا أتاه يطلب منه عَرِيَّة / (فَأَعْرَاهُ) أي: أعطاه إياها، كما يقال: سألني فأسألته، فالعَرِيَّةُ: اسم للنخلة المعطى ثمرها، فهي اسم لعطية خاصة، وقد سَمَّتِ العربُ عطايا خاصة بأسماء خاصة، كالمنيحة لعطية الشاة للبن، والإفْقَار لما رُكِب فقارُه، فعلى هذا إنَّ العرية عطية لا بيع، ولما ثبت ذلك فسَّر مالك وأحمد وإسحاق والأوزاعي العرية المذكورة في الحديث بأنها إعطاء الرجل من جملة حائطه نخلة أو نخلتين عَامًا على ما تقتضيه اللغة، غير أنهم اختلفوا في شروط كثيرة، وأحكام متعددة، وحاصل مذهب مالك: أنها عطية ثمرة نخلة أو نخلات من حائط، فيجوز لمن أُعطيَها أن يبيعها إذا بَدَا صلاحها من كل أحد بالعين والعروض، ومن معطيها خاصة بخرصها تمرًا، وذلك بشروط:
          أحدها: أن تكون أقل من خمسة وُسْق، وفي الخمسة خلاف.
          وثانيها: أن تكون خرصها من نوعها ويابسها نخلًا وعنبًا، وفي غيرهما مما يُوْسَقُ ويُدْخَرُ للقوت خلاف.
          وثالثها: أن يقوم بالخرص عند الجُداد.
          ورابعها: أن يشتري جملتها لا بعضها.
          وخامسها: أن يكون بيعها عند طيبها، فلو باعها من المُعْرِي قبل ذلك على شرط القطع لم يجز، لتعدي محل الرخصة.
          وأما أبو حنيفة فإنه فَسَّرَ العرية بما إذا وهب رجل ثمر نخلة أو نخلات ولم يقبضها الموهوب له، فأراد الواهب أن يعطي الموهوب له تمرًا ويتمسك بالثمرة جاز له ذلك، إذ ليس من باب البيع، وإنما هو من باب الرجوع في الهبة التي لم تجب بناء على أصله: أن الهبة لا تجب إلا بالقبض، وهذا المذهبُ إبطالٌ لحديث العرية من أصله، وذلك أن حديث العرية تضمن أنه بيعٌ مُرَخَّصٌ فيه في مقدار مخصوص.
          وقال الطَّحَاويُّ: معناها عند أبي حنيفة: أن يعري الرجلُ الرجلَ ثمرةَ نخله من نخله فلم يُسْلِم ذلك إليه حتى يبدو له، فرخَّصَ له أن يحبس ذلك، ويعطيه مكانه خرصه تمرًا، وهذا التأويل كأنه أشبه، لأن العرية إنما هي العطية، ألا ترى إلى مدح الأنصار كيف مدحهم إذ يقول _يعني سويد بن أبي الصامت فيما / ذكره القرطبي، وقال ابن التين: هو لحسان بن ثابت_:
ليست بسنهاءٍ ولا رجبيَّةٍ                     ولكن عرايا في السنين الجوائح
          قال أبو جعفر: أي: أنهم كانوا يُعْرُونها في السنين الجوائح، فلو كانت العرية كما ذهب إليه مالك، لم يكونوا ممدوحين بها، إذ كانوا يُعْطُون كما يعطَون، ولكن العرية بخلاف ذلك.
          قال: فإن قيل: فقد ذكر في حديث زيد بن ثابت: «نَهَى عَنْ بَيْعِ الثمْرِ بِالتَّمْرِ، وَرَخَّصَ فِي العَرَايَا». في هذا الحديث بيعُ ثمرٍ بتمرٍ، قيل له: ليس في الحديث من ذلك شيء، إنما فيه ذكر الرخصة في العرايا، مع ذكر النهي عن بيع الثمر بالتمر، وقد يُقرن الشيء بالشيء وحكمهما مختلف.
          فإن قال قائل: فقد ذكر التوقيف في حديث أبي هريرة على خمسة أوسق، وفي ذكر ذلك ما ينفي أن يكون حكم ما هو أكثر من ذلك كحكمه، قيل له: ما فيه ما ينفي شيئًا مما ذكرت، وإنما يكون ذلك كذلك لو قال: لا تكون العرية إلا في خمسة أوسق، فأما إذا كان الحديث إنما فيه: «رَخَّصَ فِي بَيْعِ العَرَايَا فِي خَمْسَةِ أَوْسُقٍ، أَوْ فيما دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ» [خ¦2190] فذلك يحتمل أن يكون النبي صلعم رخص فيه لقوم في عرية لهم هذا مقدارها، فنقل أبو هريرة ☺ ذلك، وأخبر بالرخصة فيما كانت.
          في «الاستذكار» عن محمود بن لبيد _بطريق منقطعة_ أنه قال لرجل من الصحابة _إما زيد بن ثابت وإما غيره_ ما عراياكم هذه، قال: فَسَمَّى رجالًا محتاجين من الأنصار شكوا إلى النبيِّ صلعم أن الرطب يأتي ولا بيدِنا ما نبتاعه به، فرخص لهم أن يبتاعوا العرايا بخرصها من التمر الذي بيدهم يأكلونها رطبًا.
          قال الطحاوي: ولا ينفي ذلك أن تكون تلك الرخصة جارية فيما هو أكثر من ذلك، فإن قلت: ففي حديث جابر وابن عمر «إلا أنه أرخص في العرايا» فصار ذلك مستثنى من بيع الثمر بالتمر، فثبت بذلك أنه بيع ثمر بتمر.
          قيل له: قد يجوز أن يكون قصد بذلك المعرى، ورخص له أن يأخذ تمرًا بدلًا من تمرٍ في رؤوس النخل، لأنه / يكون بذلك في معنى البائع، وذلك له حلال، فيكون الاستثناء لهذِه العلة، وفي حديث سهل بن أبي حَثْمَةَ: «إلَّا أنَّهُ رَخَّصَ فِي بَيْعِ العَرِيَّةِ بِخَرْصِهَا تَمْرًا يَأْكُلُهَا أهْلُهَا رَطْبًا» [خ¦2191] فقد ذكر للعرية أهلًا، وجعلهم يأكلونها رطبًا، ولا يكون ذلك إلا وملكها الذين عادت إليهم بالبدل الذي أُخذ منهم، وبذلك ثبت قول أبي حنيفة.
          قال: وحَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ دَاوُدَ: حَدَّثَنا مُحَمَّدُ بْنُ عَوْنٍ: حَدَّثَنا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ أَيُّوبَ، وَعُبَيْدِ اللهِ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابنِ عُمَرَ: «أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلعم نَهَى البَائِعَ وَالمُبْتَاعَ عَنِ المُزَابَنَةِ».
          قال: وقال زيدُ بنُ ثابت: «رَخَّصَ فِي العَرَايَا فِي النَّخْلَةِ وَالنَّخْلَتَيْنِ، تُوهَبَانِ لِلرَّجُلِ فَيَبِيعُهُمَا بِخَرْصِهِمَا تَمْرًا».
          قال أبو جعفر: فَهَذَا زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ ☺ وَهُوَ أَحَدُ مَنْ رَوَى عَنِ سَيِّدِنَا رسولِ الله صلعم الرُّخْصَةَ فِي العَرِيَّةِ، فقد أجراها مجرى الهبة.
          وعن مكحول أن النبيَّ صلعم قال: «خَفِّفُوا الصَّدَقَاتِ، فإنَّ في المالِ العَرِيةَ والوصيَّةَ».
          قال: فدلَّ أن العرية إنما هي ما يملكه أرباب الأموال قومًا في حياتهم كما يملكون الوصايا بعد مماتهم.
          قال ابن رشد: وإلى كونها هبة قالَ مالكٌ، وأما الشافعي فالعرية عنده بيع الرطب في رؤوس النخل بتمر مُعَجَّل، قال القرطبي: فلم يعرج على اللغة المعروفة فيها، وكأنه اعتمد على تفسير يحيى بن سعيد راوي الحديث، فإنه قال: العرية أن يشتري الرجل ثمر النخلات لطعام أهله رطبًا بخرصها تمرًا، وهذا لا ينبغي أن يعول عليه، لأن يحيى بن سعيد ليس صحابيًا فيقال: فَهِمَه عن النبي صلعم، ولا رفعه إليه، ولا يثبت عنه عُرْفٌ غالبٌ شرعيٌّ حتى يرجحه على اللغة، وغايته أن يكون رأيًا ليحيى لا رواية له، ثم يعارضه تفسير ابن إسحاق، فإنه قال: العرايا: أن يهب الرجل للرجل النخلات، فيشقَّ عليه أن يقوم عليها، فيبيعها بمثل خرصها.
          م هو عين المزابنة المنهي عنها، ووضع رخصه في موضع لأنه ترهق إليها حاجة أكيدة، ولا تندفع بها مفسدة، فإن المشتري لها بالتمر متمكن من بيع / تمره بعين أو عروض، ويشتري بذلك رطبًا، فإن قيل: قد يتعذَّر هذا، قيل: يأخذ بيع الرُّطب بالتمر إذا كان الرطب لا على رؤوس النخل، إذ قد يتعذر بيع التمر على من هو عنده ممن يريد أن يشتري الرطب به، ولا يجوز ذلك.
          [شرح] الأبواب التي بعده تقدم.
          قال البخاري: في باب تفسير العرايا:
          (وَقَالَ مَالِكٌ: العَرِيَّةُ أَنْ يُعْرِيَ الرَّجُلُ الرَّجُلَ النَّخْلَةَ، ثُمَّ يَتَأَذَّى بِدُخُولِهِ عَلَيْهِ، فَرُخِّصَ لَهُ أَنْ يَشْتَرِيَهَا مِنْهُ بِتَمْر).
          ذكر أبو عمر عن ابن وهب أن مالكًا قال: العرية أن يعري الرجلُ الرجلَ النخلة والنخلتين أو أكثر من ذلك سنة أو سنتين أو ما عاش، فإذا طاب الثمر وأرطب قال صاحب النخل: أنا أكفيكم سقيها وضمانها، ولكم خرصها تمرًا عند الجذاذ، فكان ذلك منه معروفًا كله عند الجذاذ، ولا أحب أن يجاوز ذلك خمسة أوسق، قال: وتجوز العرية في كل ما يبس ويدخر نحو التين والزيتون، ولا أرى لصاحب العرية أن يبيعها إلا بتمر في الحائط ممن له تمر يخرصه.
          وقال ابنُ القاسمِ عنه: لا يجوزُ بيع العرية بخرصها حتى يحل بيعها، ولا يجوز بعد ما حلَّ بيعها أن يبيعها بخرصها تمرًا إلا إلى الجذاذ، وأما بالطعام فلا يصلح.
          وروى محمد بن شجاع البلخي عن عبد الله بن نافع عن مالك: أن العرية النخلة والنخلتان للرجل في حائط بعينه، والعادة بالمدينة أنهم يخرجون بأهليهم في وقت الثمار إلى حوائطهم، فيكره صاحب النخل الكثير دخول الآخر عليه فيقول: أنا أعطيك خرص نخلك تمرًا، فأرخص لهما في ذلك.
          قال أبو عمر: هذه الرواية مخالفة لأصل مالك في العرية.
          وروى ابن القاسم عنه وسُئل عن نخلة في حائط رجل لآخر له أصلها، فأراد صاحب الحائط أن يشتريها منه بعدما أزهت بخرصها تمرًا يدفعه إليه عند الجداد، فقال مالك: إن كان إنما يريد به الكفاية لصاحبه والرفق به فلا بأس، وإن كان إنما ذلك لدخوله وخروجه وضرر ذلك عليه فلا خير فيه.
          قال / ابن القاسم: وليس هذا مثل العرية.
          قال أبو عمر: هذه الرواية تضارع رواية ابن نافع، وذكر الأثرم في «سننه» عن أحمد: العرية أنا لا أقول فيها بقول مالك، أقول: هي أن يعري الرجل الجار أو القرابة للحاجة والمسكنة، فإذا أعراه إياها فَلِلْمُعْرَى أن يبيعها ممن شاء، ثم قال: مالك يقول ببيعها من الذي أعراها إياه، وليس هذا وجه الحديث عندي، بل يبيعها ممن شاء، كذا فسره ابن عيينة وغيره.
          قلت له: فإذا باعها، له أن يأخذ الثمن الساعة أو عند الجذاذ؟
          قال: يأخذ الساعة، قلت: إن مالكًا يقول: ليس له أن يأخذ الثمن الساعة حتى يجدَّ، قال: بلى يأخذه على ظاهر الحديث.
          قلت: كأنه إنما رخص له من أجل الحاجة، فله أن يأخذه الساعة، قال: نعم من أجل الحاجة يأكلها أهلها رطبًا، ثم قال: الذي يشتريها إنما له أن يأكلها رطبًا.
          حَدَّثَنَا الحكم بن موسى: حَدَّثَنا عيسى بن يونس: حَدَّثَنا عثمان بن حكيم عن عطاء بن أبي رباح عن ابن عباس أنه قال: «لا بأسَ أنْ يُبَاعَ مَا فِي رؤوسِ النَّخْلِ بِمَكِيْلِهِ منَ التَّمْرِ إذا كانَ بينهما فضل دينارٍ أو عشرةِ دَرَاهَمَ».
          قال الأثرم: فذكرت هذا لأبي عبد الله فقال: هذا حديث منكر.
          قال أبو عمر: ويجوز للرجل أن يعري الرجل حائطه ما شاء، ولكن البيع لا يكون إلا في خمسة أوسق فما دونها.
          وفي «شرح الموطأ» لابن حبيب: العرية في الثمار بمنزلة العمرى في الدار، وبمنزلة المنحة في الماشية.
          وقول البخاري: (وَقَالَ ابنُ إِدْرِيسَ: العَرِيَّةُ لَا تَكُونُ إِلَّا بِالكَيْلِ مِنَ التَّمْرِ يَدًا بِيَدٍ، لَا يَكُونُ بِالجِزَاف، وَمِمَّا يُقَوِّيهِ قَوْلُ سَهْلِ بْنِ أَبِي حَثْمَةَ: بِالأَوْسُقِ المُوَسَّقَة).
          ذكر الحافظ المِزِّيُّ: أن هذا الكلام كله قول الإمام محمد بن إدريس الشافعي ☺، وأن له هذا الموضع في «صحيح محمد بن إسماعيل البخاري» وموضع آخر في كتاب الزكاة.
          وقال ابن التين فيهما: قيل: (ابنُ إدريسَ) هو الشافعي، وقيل _هو الأكثر_: إنه عبد الله بن إدريس الأودي الفقيه الكوفي، وكلام ابن بطال يدل على أن البخاري هو القائل: (وممَّا يقوِّي ذلك...) إلى آخره لابن إدريس، قَالَ / ابنُ بَطَّالٍ: وهذا إجماع، فلا يحتاج إلى تقوية، ولم يأت ذكر الأوساق الموسقة إلا في حديث مالك عن داود بن الحصين، وفي حديث جابر من رواية ابن إسحاق، لا في رواية ابن أبي حثمة، وإنما يُرْوَى عن سهل من قوله من رواية الليث عن جعفر بن أبي ربيعة عن الأعرج، قال: سمعت سهل بن أبي حثمة قال: «لا يباعُ التمرُ في رؤوسِ النخلِ بالأَوْسَاقِ المُوَسَّقةِ إلا أوسق ثلاثة أو أربعة أو خمسة، فيأكلها الناس، وهي المزابنة» ففي قول سهل حجة لمالك في مشهور قوله: إنه تجوز العرايا في خمسة أوسق، وقد يجوز أن يكون الشك في دون خمسة أوسق، واليقين في خمسة أوسق، إذ الواو لا تعطي رتبة، فلذلك يترجح قول مالك في ذلك.
          الحديث الذي بعده تقدم.
          وقوله: (وَقَالَ يَزِيدُ: عَن سُفيَانَ بنِ حُسَينٍ) يزيد هذا هو ابن هارون، قاله الحافظ الدمياطي.