التلويح شرح الجامع الصحيح

باب آكل الربا وشاهده وكاتبه

          ░24▒ بَابُ آكِلِ الرِّبَا وَشَاهِدِهِ وَكَاتِبِهِ
          وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لاَ يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ المَسِّ...} ثم ذكر الآية إلى قوله: {خَالِدُونَ}[البقرة:275].
          قال الإمام أبو بكر محمد بن إبراهيم بن المنذر النيسابوري: حَدَّثنا أبو مَيْسَرة: حدَّثنا أبو بكر بن أبي شيبة: حدَّثنا جرير، عن أشعث، عن جعفر، عن سعيد بن جبير في قوله تعالى: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا} قال: «يُبعَثُ يوم القيامة مجنونًا يُخنَقُ».
          وحدثنا زكريا: حدَّثنا إسحاق، قال: وحُدِّثتُ عن أبي حيَّان: «آكل الربا يُعرَفُ يوم القيامة كما يُعرَفُ المجنون في الدنيا».
          وعن إسحاق، قال: حَدَّثنا عمرو، عن أسباط، عن السُّدِّي: «المسُّ: الجنون».
          وفي كتاب أبي الفضل الجوزي من حديث أبان عن أنس قال رسول الله صلعم: «يأتي آكل الربا يوم القيامة مُخبَّلًا يجر شِقَّه، ثم قرأ: {لَا يَقُوْمُوْنَ إِلَّا كَمَا يَقُوْمُ الَّذِيْ يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ}[البقرة:572]».
          وفي «الكشاف»: المعنى أنهم يقومون يومئذٍ مُخبَّلينَ كالمصروعين يُعرَفون بذلك عند أهل الموقف.
          وقيل: يخرج الناس من الأجداث يوفضون إلا أكلةَ الربا، فإنهم ينهضون ويسقطون كالمصروع؛ لأن أكل الربا رَبَا في بطونهم فأثقلهم، فعجزوا عن الإيفاض.
          قال ابن المنذر: حَدَّثنا علي بن عبد العزيز: حدَّثنا الأثرم، عن أبي عبيدة: «المسُّ من الشيطان والجن، وهو اللَّمَم».
          وفي كتاب «التفسير» لابن أبي حاتم عن سعيد عن ابن عباس: «آكل الربا يُبعَثُ / يوم القيامة مجنونًا يُخنَقُ».
          قال: وروي عن عوف بن مالك والربيع بن أنس ومقاتل نحو ذلك.
          وفي كتاب «الربا» لمحمد بن أسلم السمرقندي: حَدَّثنا علي بن إسحاق، عن يوسف بن عطية، عن ابن سمعان، عن مجاهد، عنه في قوله تعالى: {اتَّقُوا اللَّه وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا}[البقرة:872]. قال: «فمن كان من أهل الربا فقد حارَبَ اللهَ، ومن حارب الله فهو عدوٌّ لله ولرسوله».
          وحدثنا علي بن إسحاق: أخبرنا يحيى بن المتوكِّل: حدَّثنا أبو عبَّاد، عن أبيه، عن جدِّه، عن أبي هريرة يرفعه: «الرِّبا اثنان وسبعون حُوبًا، أدناها بابًا بمنزلةِ الناكح أمه».
          وقال الماوردي: أجمعَ المسلمون على تحريم الربا، وعلى أنه من الكبائر، وقيل: إنه كان محرمًا في جميع الشرائع.
          وعن الحوفي: لما سووا بين البيع والربا قال لهم: هذا لا يحل، ليست الزيادة في وجه البيع نظير الزيادة في وجه الربا؛ لأني أحللت البيع وحرمت الربا، والأمر أمري، والخلق خلقي، أقضي فيهم ما أشاء، وأتعبَّدهم بما أريد، ليس لأحد أن يفرِّق في حكمي، ولا أن يخالف أمري.
          وأيضًا إن ما ذكروا معارض للنص بالقياس، وهذا مدفوع؛ لأن النصَّ لا يُعارَضُ بالقياس.
          وذكر القفال الفرقَ بين الربا والبيع فقال: من باع ثوبًا يساوي عشرةً بعشرين يعني فالثوب مقابل العشرين، فلما حصل التراضي على هذا التقابل صار كلُّ واحد منهما مقابلًا للآخر في المالية، فلم يكن أخذًا من صاحبه بغير عوض، أما إذا باع العشرة بالعشرين فقد أخذ العشرة الزائدة من غير عوض، ولا يمكن أن يقال: إن عوضه هو الإمهال في مدة الأجل؛ لأن الإمهال ليس مالًا ولا شيئًا يشار إليه حتى يجعله عوضًا عن العشرة الزائدة، فظهر الفرق بين الصورتين.
          وفي «تفسير ابن النقيب»: اختلفوا في هذه الآية، فقيل: إنها من عموم القرآن العظيم الذي خُصَّ، وهو الصحيح، وقيل: إنها من المجمل، وقيل: إنها داخلة في العموم والمجمل، فيكون عمومًا دخلَه التخصيص، ومجملًا لحقَه التفسير؛ لاحتمال عمومهما وإجمالهما.
          واختُلِفَ في عقد الربا، هل هو مفسوخ لا يجوز بحال؟ أو بيع فاسد / إذا أزيل فساده صح بيعه؟
          فجمهور العلماء على أنه بيع مفسوخ، وقال أبو حنيفة: هو بيع فاسد، إذا أزيل عنه ما يفسده انقلب صحيحًا.
          ثم ذكر البخاري حديث عائشة المذكور قبل في كتاب الصلاة: «لَمَّا أنزلَتْ آخِرُ سورة البَقَرَةِ قَرَأَهُنَّ صلعم فِي المَسْجِدِ، ثُمَّ حَرَّمَ التِّجَارَةَ فِي الخَمْرِ» [خ¦2084].
          وقال ابن التين: قال أبو عبد الله: (بَابُ آكِلِ الرِّبَا وَكَاتِبِهِ وَشَاهِدِهِ) ولم يأت على الكاتب والشاهد بشيءٍ.
          وقال ابن بطال: أكل الربا من الكبائر، متوعد عليه، وأما شاهداه وكاتبه فإنما ذكروا مع آكله، لأن كلَّ من أعانَ على معصيةٍ فهو شريك في إثمها بقدر سعيه وعملِه إذا عملها، فكان يلزم الكاتب ألا يكتب ما لا يجوز، والشاهد أن لا يشهد إلا على جائز إذا علموا ذلك، فكل واحد له حظ من الإثم، ألا ترى أن النبي صلعم لم يشهد لبشير لما تبين له إيثاره للنعمان [خ¦2650].
          وقد روى معمر، عن الزهري، عن ابن المسيب: «أن النبي صلعم: لعن آكلَ الربا وموكله وشاهدَه [وكاتبه]» فسوَّى بينهم في الإثم، ولهذا ترجم البخاري بهذه الترجمة. انتهى كلامه.
          ولقائل أن يقول: كأنَّ البخاري أرادَ بالترجمة ما رواه الترمذي من حديث ابن مسعود: «لعنَ رسولُ الله صلعم آكلَ الرِّبا وموكلَه وشاهديه وكاتبَه» وقال: حسن صحيح، وخرَّجه ابن حبان في «صحيحه» بزيادة: «إذا علموا به».
          وفي مسلم عن جابر نحوه.
          ومن حديث الحارث بن سويد عن ابن مسعود يرفعه: «آكل الربا وموكله وشاهداه وكاتبُه إذا علموا ذلك ملعونون على لسانِ محمدٍ صلعم يومَ القيامة».
          وعند محمد بن أسلم السمرقندي في كتاب «الربا» من حديث أبي إسحاق، عن الحارث، عن عليٍّ قال: «لعن رسول الله صلعم صاحب الربا وآكلَه وكاتبَه وشاهدَه والمحلَّ والمحلل له».
          وهذه الأحاديث أشهر وأسند مما ذكره مرسلًا / . وحديث سمرة تقدم.