التلويح شرح الجامع الصحيح

باب من أجرى أمر الأمصار على ما يتعارفون بينهم في البيوع

          ░95▒ (بَابُ مَنْ أَجْرَى أَمْرَ الأَمْصَارِ عَلَى مَا يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ فِي البُيُوعِ وَالإِجَارَةِ وَالمِكْيَالِ وَالوَزْنِ، وَسُنَّنِهِم عَلَى نِيَّاتِهِمْ وَمَذَاهِبِهِمُ المَشْهُورَةِ)
          وَقَالَ النَّبِيُّ لِهِنْدٍ: «خُذِي مَا يَكْفِيكِ وَوَلَدَكِ بِالمَعْرُوفِ». وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ}[النساء:6].
          التعليق الأول رُوِيَ مسندًا عنده بعد، وتفسير الآية الكريمة يذكر في هذا الباب نصًّا.
          ثم ذكر حديث عائشة: قَالَتَ هِنْدٌ أُمُّ مُعَاوِيَةَ لرَسُولِ اللهِ صلعم: إِنَّ أَبَا سُفْيَانَ رَجُلٌ شَحِيحٌ، فَهَلْ عَلَيَّ جُنَاحٌ أَنْ آخُذَ مِنْ مَالِهِ سِرًّا؟ قَالَ: «خُذِي أَنْتِ وَبَنُوكِ مَا يَكْفِيكِ / بِالمَعْرُوفِ» [خ¦2211].
          وذكر حديث أبي طَيْبَةَ الحجَّام، وقال: (قالَ عَبدُ الوَهَّابِ عَن أَيُّوبَ عَن مُحَمَّدٍ: لَا بَأسَ العَشَرَةُ بِأَحَدَ عَشَرَ، وَيَأخُذُ لِلنَّفَقَةِ رِبحًا).
          قال ابن المنير: مقصود البخاري بهذه الترجمة إثبات الاعتماد على العرف، وأنه يقضي به على ظواهر الألفاظ، وترد إلى ما خالف الظواهر من العرف، ولهذا ساق: (لَا بَأسَ العَشَرَةُ بِأَحَدَ عَشَرَ) أي: لا بأس أن يبيعه سلعة مرابحة العشرة بأحد عشر، وظاهره: أن ربح العشرة أحد عشر، فتكون الجملة أحدًا وعشرين، ولكن العرف فيه أن للعشرة دينارًا ربحًا، فيقضى بالعرف على اللفظ، فإذا صحَّ الاعتماد على العرف معارضًا بالظاهر، فالاعتماد عليه مطلقًا أولى، ووجه دخول حديث أبي طيبة في الترجمة: أنه صلعم لم يعارضه اعتمادًا على العرف في مثله.
          قال ابن التين: وقوله: (وَيَأخُذُ لِلنَّفَقَةِ رِبحًا) إن أراد نفقة نفسه، فمذهب مالك أنها لا تحسب، ولا يحسب لها ربح، وإن أراد نفقة الرقيق فتجب عند مالك [ولا] يحسب لها ربح، فهو خلاف مالك على كل حال إلا أن يريد أنه بيَّن ذلك، أو كانت عندهم عادة، فتحتاج بيان هذه النفقة، لأنه يحتمل أن تكون كثيرة أو قليلة، وفي أكثر ما في الباب دليل بوب عليه أن العادة تقوم عند عدم الشرط مَقامَه، وهو مذهب مالك وغيره، وقال الشافعي: لا اعتبار بذلك.
          قَالَ ابنُ بَطَّالٍ: وقوله: (يَأْخُذُ للعَشَرَةِ بِأَحَدَ عَشَرَ) يعني: لكل عشرة من رأس المال دينار.
          وقد اختلف العلماء في ذلك، فأجازه قوم، وكرهه آخرون، وممن كرهه ابن عباس وابن عمر ومسروق والحسن، وبه قال أحمد وإسحاق، قال أحمد: البيع مردود.
          وأجازه سعيد ابن المسيَّب والنخعي، وهو قول مالك والثوري والكوفيين والأوزاعي.
          وحجة من كرهه: لأنه بيع مجهول، [إلا أن يعلم عدد العشرات، فيعلم عدد ربحها ويكون الثمن كله معلومًا] وحجة من أجازه: بأن الثمن معلوم، والربح معلوم.
          وأصل هذا الباب بيع الصبرة كل قفيز بدرهم، ولا يعلم مقدار ما في الصبرة من الطعام، فأجازه قوم وأباه آخرون، ومنهم من قال: لا يلزم إلا القفيز الواحد، وعن مالك: لا يحسب في المرابحة أجر السمسار ولا أجر الشدِّ والطَّي، ولا النفقة على الرقيق، ولا كراء البيت، وإنما يحسب هذا في أصل المال، ولا يحسب له ربح، وأما كراء البز فيحسب له الربح، لأنه لا بد منه، فإن أربحه المشتري على ما لا تأثير له جاز إذا رضي بذلك، وقال أبو حنيفة: يحسب في المرابحة أجرة القصارة، وكراء / البيت، و[أجر] السمسرة، ونفقة الرقيق وكسوتهم، ويقول: قام علي بكذا، واستدلَّ جماعة من أصحابه على جواز القضاء على الغائب في حقوق الآدميين لا حقوق رب العالمين، وكأنه غير جيد، لأنها كانت بمكة، وكان أبو سفيان حاضرًا بها، وشرط القضاء على الغائب أن يكون غائبًا عن البلد أو مستترًا لا يقدر على الخروج، وإنما هو إفتاء، فإنه إن صحَّ ما قُلتِ فخذي من ماله بالمعروف.
          وفيه دلالة أن المرأة لا تأخذ من مال زوجها شيئًا بغير إذنه قلَّ أو كثر، ألا ترى أنه لما سألته قال لها: لا، ثم استثنى فقال: إلا بالمعروف.
          وقولها في رواية أخرى: «مِسِّيكٌ» قال أبو موسى المديني: بكسر الميم وتشديد السين، وقال ابنُ قُرْقُولٍ: كذا ضبطه أكثر المحدثين، ورواه المتقنون بفتح الميم وتخفيف السين وكسرها، كذا عند المستملي وأبي بحر، وكذا ذكر أهل اللغة، لأن أمسك لا يبنى منه فِعِّيل، إنما يُبنى من الثلاثي، وذكر السُّهَيلي أن أبا سفيان كان حاضرًا عند سؤالها، فقال لها: أنت في حل مما أخذت، وهذا يوضح لك أنه ليس قضاء على غائب.