التلويح شرح الجامع الصحيح

باب الكيل على البائع والمعطي

          ░51▒ باب الكَيْلِ عَلَى البَائِعِ وَالمُعْطِي
          لِقَوْلِ اللهِ تَعَالَى: {وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ} يَعْنِي: كَالُوا لَهُمْ وَوَزَنُوا لَهُمْ كَقَوْلِهِ: {يَسْمَعُونَكُم}: يَسْمَعُونَ لَكُمْ.
          روينا عن الفراء في كتاب «المعاني» أنه قال: الهاء في موضع نصب، تقول في الكلام: قد كلتك طعامًا كثيرًا، وكلتني مثله، وسمعت أعرابية تقول: إذا صدر الناس أتينا التاجر فيكيلنا المد والمدين إلى الموسم، فهذا شاهد وهو من كلام أهل الحجاز ومن جاورهم من قيس.
          وقوله: {اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ}[المطففين:2] يريد من الناس وهما يعتقبان _يعني: على ومَنْ_ في هذا الموضع؛ لأنه حق عليه فإذا قال: اكتلت عليك فكأنه قال: أخذتُ ما عليك، وإذا قال: اكتلت منك، فهو مثل قولك: استوفيت منك.
          وفي «مقامات التنزيل» لأبي العباس: هذِه السورة في رواية همام وقتادة ومحمد بن ثور عن معمر مكية.
          وقال السدي: إنها مدنية.
          وقال أبو بكر بن عياش عن الكلبي: نزلت على النبي صلعم في طريقه من مكة إلى المدينة.
          وقال السدي: استقبل بها رسول الله صلعم وهو داخل المدينة من مكة شرفها الله تعالى.
          قال أبو العباس: نظرت في اختلافهم فوجدت أول السورة مدنيًا كما قال السدي والكلبي، وآخرها مكيًا كما قال قتادة و....
          ثم إن الكلبي روى عن أبي صالح عن ابن عباس: كان يمر عليٌّ على الحارث بن قيس وناس معه فيسخرون من علي ويضحكون؛ ففيه نزلت: {إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُون}[المطففين:29] إلى آخر السورة.
          وفي «أسباب النزول» للواحدي عن السدي: قدم رسول الله صلعم المدينة وبها رجل يقال له: أبو جهينة ومعه صاعان / يكيل بأحدهما ويُكال بالآخر، فأنزل الله تعالى هذه الآية.
          وفي «تفسير الطبري»: كان عيسى بن عمر _فيما ذُكِرَ عنه_ يجعلهما حرفين، ويقف على كالوا، وعلى وزنوا، فيما ذكر، ثم يبتدئ فيقول: هم يخسرون، والصواب في ذلك عندنا الوقف على هم.
          قال البخاري: وَقَالَ النَّبِيُّ صلعم: «اكْتَالُوا حَتَّى تَسْتَوْفُوا».
          هذا التعليق ذكره ابن أبي شيبة من حديث طارق بن عبد الله المحاربي بسند صحيح.
          قال البخاري: وَيُذْكَرُ عَنْ عُثْمَانَ: أَنَّ النَّبِيَّ صلعم قَالَ لَهُ: «إِذَا بِعْتَ فَكِلْ، وَإِذَا ابْتَعْتَ فَاكْتَلْ».
          هذا التعليق رواه الدارقطني بسند فيه ضعف إلى منقذ مولى سراقة، وهو غير مشهور، عن عثمان، قال له النبي صلعم: «إذا ابتعت طعامًا فاكتل، وإذا بعت فكِل».
          ورواه أيضًا محمد بن حِمير _عند ابن أبي حاتم_ عن الأوزاعي: حدَّثني ثابت بن ثوبان: حدَّثني مكحول، عن أبي قتادة قال: كان عثمان يشتري الطعام ويبيعه قبل أن يقبضه، فقال له النبي صلعم: «إِذَا ابْتَعْتَ فَاكتَلْ وإِذَا بِعْتَ فَكِلْ» قال: وقال أبي: هذا حديث منكر بهذا الإسناد.
          ورواه ابن ماجه من حديث ابن لهيعة، عن موسى بن وردان، عن سعيد بن المسيب، عن عثمان.
          وعن جابر: «نهى رسول الله صلعم عن بيع الطعام حتى يجرى فيه الصاعان، صاع البائع وصاع المشتري» في إسناده ابن أبي ليلى.
          وقال السفاقسي: (إِذَا بِعْتَ فَكِلْ) أي: أوفِ، (وَإِذَا ابْتَعْتَ فَاكْتَلْ) أي: استوف بكيل لا لك ولا عليك.
          وقوله في حديث ابن عمر: «مَنِ ابْتَاعَ طَعَامًا، فَلَا يَبِعْهُ حَتَّى يَسْتَوْفِيَهُ» [خ¦2126].
          وعند مسلم: «حتى ينقله من مكانه».
          وعند أبي داود: «نهى أن يبيع أحد طعامًا اشتراه بكيل حتى يستوفيه».
          وعنده أيضًا عن ابن عباس: «من ابتاع طعامًا فلا يبعه حتى يقبضه».
          قال ابن عباس: وأحسب كل شيء بمنزلة الطعام.
          ولمسلم: «حتى يكتاله».
          وعن أبي / هريرة: «حتى يكتاله».
          وعن جابر: «إذا ابتعت طعاماً فلا تبعه حتى تستوفيه».
          وعند أبي داود عن زيد بن ثابت: «نهى أن تباع السلع حيث تُبْتاع حتى يحوزوها إلى رحالهم».
          وعند أحمد عن حكيم بن حزام: «إذا اشتريت بيعًا فلا تبعه حتى تقبضه».
          رواه من حديث يوسف بن مَاهَك عن حكيم، ورواه هشام الدستوائي عن يحيى بن أبي كثير عن يوسف عن عبد الله بن عصمة عن حكيم، وابن عصمة ضعيف ذكر هذا الدارقطني.
          وعند أبي داود بسند جيِّد عن زيد بن ثابت: «نهى النبي صلعم أن تباع السلع حيث تبتاع حتى يحوزها التجار إلى رحالهم».
          قال ابن المنذر: أجمع العلماء على أن مَن اشترى طعامًا فليس له بيعه حتى يقبضه.
          واختلفوا في بيع غير الطعام على أربعة مذاهب:
          أحدها: لا يجوز بيع شيء قبل قبضه سواء جميع المبيعات كما في الطعام، قاله الشافعي ومحمد بن الحسن، وهو قول ابن عباس.
          الثاني: يجوز بيع كل مبيع قبل قبضه إلا المكيل والموزون، قاله عثمان بن عفان وابن المسيب والحسن والحكم وحماد والأوزاعي وأحمد وإسحاق.
          الثالث: لا يجوز بيع مبيع قبل قبضه إلا الدور والأرض، قاله أبو حنيفة وأبو يوسف.
          الرابع: لا يجوز بيع مبيع قبل قبضه إلا المأكول والمشروب، قاله مالك وأبو ثور.
          وفي رواية ابن وهب عن مالك: في دون الخضروات.
          وقال عثمان البَتِّي: يجوز بيع كل شيءٍ قبل قبضه، وكأنه لم يبلغه الحديث.
          وفي حديث جابر: «كِلْ لِلْقَوْمِ» [خ¦2127] فلما كان هذا للوفاء الذي على أبيه لأنه الغارم عنه صار كأنه بائع واليهودي مشتري؛ لأنه أعطى الثمن قبل ذلك في مقابلة ما يأخذه من التمر، ولهذا أتى البخاري بهذا الحديث في هذا الباب.
          وفيه: أنَّ الكيل على البائع، والذي عليه الفقهاء أنَّ الكيل والوزن فيما يكال ويوزن من المبيعات على / البائع، ومن كانَ عليه الكيل والوزن فعليه أجرة ذلك.
          قال المهلب: وكتاب الله جلَّ وعزَّ يشهد أيضًا بذلك وهو قوله: {وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ}[المطففين:3] فدل هذا أن يكيل إذا اشترى، ويكتل لغيره إذا ابتاع.
          وفي قصة يوسف صلعم أن البائع عليه الكيل، قال تعالى: {أَلَا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ}[يوسف:59].
          والتعليقان اللذان إثر حديث جابر تقدم في الصلاة وصلهما، وسيأتي في الأطعمة له تكملة.