التلويح شرح الجامع الصحيح

باب: إذا بين البيعان ولم يكتما ونصحا

          ░19▒ بَابُ إِذَا بَيَّنَ البَيِّعَانِ وَلَمْ يَكْتُمَا وَنَصَحَا
          وَيُذْكَرُ عَنِ العَدَّاءِ بنِ خَالِدٍ قَالَ: «كَتَبَ لِي النَّبِيُّ صلعم: هَذَا مَا اشْتَرَى مُحَمَّدٌ رَسُولُ الله مِنَ العَدَّاءِ بْنِ خَالِدٍ، بَيْعَ المُسْلِمِ المُسْلِم، لَا دَاءَ وَلَا خِبْثَةَ وَلَا غَائِلَةَ».
          هذا التعليق خرَّجه أبو عيسى عن ابن بشار، عن عَبَّاد بن ليث صاحب الكرابيسي، عن عبد المجيد بن وهب، قال: قال لي العدَّاء بن خالد بن هَوذة: «ألا أقرئك كتابًا كَتَبَه لي رسول الله صلعم؟ قلت: بلى، فأخرج لي كتابًا: هذا ما اشترى العدَّاء بن خالد بن هَوذة من محمد رسول الله صلعم، اشترى منه عبدًا أو أمة» الحديث، وقال: حديث حسن غريب، لا نعرفه إلا من حديث عَبَّاد بن ليث.
          وقال الدارقطني: لم يروه غيره. انتهى كلامهما.
          وفيه نظر من حيث أن أبا عمر رواه من حديث عثمان الشَّحَّام عن أبي رجاء العُطارِدي قال: قال لي العدَّاء: «ألا أقرئك كتابًا كتبه / لي رسول الله صلعم فإذا فيه مكتوب: بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما اشترى العدَّاء بن خالد بن هَوذة من محمد رسول الله، اشترى منه عبدًا أو أمة _شكَّ عثمان_ بياعة المسلم، أو بيع المسلم المسلمَ، لا داءَ ولا غائلة ولا خِبْثة».
          قال ابن العربي: في حديث العداء ثمان فوائد:
          الأولى: البَداءة باسمِ الناقص قبل الكامل في الشروط، والأدنى قبل الأعلى، بمعنى: أنه الذي اشترى، فلما كان هو الذي طلب أخبر عن الحقيقة كما وقعت، وكتب حتى يوافق المكتوب المقولَ ويذكر على وجهه في المنقول. انتهى.
          يرد هذا القول ما ذكره البخاري في تعليقه من تقديم الأعلى على الأدنى.
          الثانية: في كتب سيدنا رسول الله صلعم ذلك له، وهو ممَّن يؤمن عهده ولا يجوز أبدًا عليه نقضه لتعليم الأمة؛ لأنه إذا كان هو يفعله فكيف غيره؟ انتهى.
          وهو لا يتأتى على ما ذكره البخاري.
          الثالثة: أن ذلك على الاستحباب؛ لأنه باع وابتاع من اليهود من غير إشهاد، ولو كان أمرًا مفروضًا لقام به قبل الخلق. انتهى.
          جماعة ذهبوا إلى وجوب الإشهاد، ورأوا أن الآية مجملة، وأيضًا فابتياعه من اليهود كان بِرَهنٍ، وقد قال جلَّ وعزَّ: {وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ}[البقرة:283].
          الرابعة: يكتب الرجل اسمه واسم أبيه وجده حتى ينتهي إلى جدٍّ يقع به التعريف ويرتفع الاشتراك الموجِب للإشكال عند الاحتياج إليه. انتهى.
          هذا يتأتَّى إذا كان الرجل غيرَ معروف، أما إذا كان معروفًا فلا يحتاج إلى ذكر أبيه، فإن لم يكن معروفًا وكان أبوه معروفًا لم يحتج إلى ذكر الجد، كما جاء في البخاري من غير ذكرِ جدِّ العدَّاء.
          الخامسة: لا يحتاج إلى ذكر النسب إلا إذا أفاد تعريفًا أو رفع إشكال.
          السادسة: قوله: «هذا ما اشترى العدَّاء بن خالد من رسول الله صلعم اشترى منه» فكرر لفظ الشري، وقد كان الأول يكفي، ولكنه لما كانت الإشارة بهذا إلى المكتوب ذكر / الاشتراء في القول المنقول.
          السابعة: قوله: (عَبْد) ولم يصفه، ولا ذكر الثمن، ولا قبضه، ولا قبض المشتري، واقتصر على قوله: (لَا دَاءَ)، وهو ما كان في الجسد والخِلْقة، (وَلَا خِبْثَةَ)، وهو ما كان في الخلق، (وَلَا غَائِلَةَ)، وهو سكوت البائع على ما يعلم من مكروه في البيع، وهو الذي قصد النبي صلعم إلى كتبه ليبيِّنَ كيف يجب أن يكون على المسلم في بيعه، فأما تلك الزيادات فإنما أحدثها الشروطيون لما حدَثَ من الخيانة في العالم.
          قال: قوله: (بَيْعَ المُسْلِمِ المُسْلِمَ)، ليبيِّن أن الشراء والبيع واحد، قال: وقد فرق بينهما أبو حنيفة، وجعل لكل واحد حكمًا منفردًا.
          وقال غيره: فيه تولي الرجل البيع بنفسه، وكذا في حديث اليهودي، وكرهه بعضهم لئلا يسامح ذو المنزلة فيكون نقصًا من أجره، وجاز ذلك للنبي صلعم لعصمته في نفسه.
          قال البخاري: وَقَالَ قَتَادَةُ: الغَائِلَةُ: الزِّنَا، وَالسَّرِقَةُ، وَالإِبَاقُ.
          ذكر الأزهري وغيرُه: أن الغائلة هنا معناها لا حيلة على المشتري في هذا البيع، يقال: يغتال بها ماله، يقال: اغتالني فلان إذا احتال عليَّ بحيلة يتلف بها مالي، يقال: غالت فلا أغول، إذا أذهبته.
          ولما سأل الأصمعي سعيدَ بن أبي عروبة عن الغائلة أجاب كجواب قتادة سواء، ولما سأله عن الخِبْثة قال: بَيع عَهدِ المسلمين.
          وقال الخطابي: (خِبَثَةَ) على وزن خيرة، قيل: أراد بها الحرام كما عبَّر عن الحلال بالطيِّب، قال تعالى: {وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الخَبَائِثَ}[الأعراف:157]، والخبثة: نوع من أنواع الخبيث، أراد أنه عبد رقيق لا أنه من قوم لا يحل سبيهم.
          قال ابن التين: ضبطناه في أكثر الكتب بضم الخاء، وكذلك سمعناه، وضُبط في بعضها بالكسر.
          قال البخاري: وَقِيلَ لِإِبْرَاهِيمَ: إِنَّ بَعْضَ النَّخَّاسِينَ يُسَمِّي آرِيَّ خُرَاسَانَ وَسِجِسْتَانَ، فَيَقُولُ: جَاءَ أَمْسِ مِنْ خُرَاسَانَ، جَاءَ اليَوْمَ مِنْ سِجِسْتَانَ، فَكَرِهَهُ كَرَاهِيَةً / شَدِيدَةً.
          هذا التعليق رواه أبو بكر، عن هُشَيم، عن مغيرة، عنه بلفظ: «قيل: إن ناسًا من النَّخَّاسين أصحاب الدواب يسمي أحدهم إصطبل دوابِّه خراسان وسِجِستان، ثم يأتي السوق فيقول: جاءت من خراسان وسجستان، فكره ذلك إبراهيم».
          ورواه دِعْلِج، عن محمد بن علي بن زيد: حدَّثنا سعيد بن قيس: حدَّثنا هشيم، ولفظه: «إن بعض النَّخَّاسين يسمي آريه خراسان».
          وقال ابن قُرقُول: (آرِيَّ) كذا قيده جُلُّ الرواة، ووقع للمَروَزي: «أَرَى» بفتح الهمزة والراء، على مثال: دعا، وليس بشيء.
          ووقع لأبي ذر: «أُرى» بضم الهمزة، وهو أيضًا تصحيف.
          والآري: مربط الدابة، ويقال: معلفها، قاله الخليل، قال الأصمعي: هو حبل يدفن في الأرض، ويترك طرفه تُرتَبط به الدابة، وأصله من الحبسِ والإقامةِ، من قولهم: تأرى بالمكان إذا أقام به، قال الراعي:
وقد فخروا بحملِهم عليهِ                     بغير الخيل تغلب أو عدينا
لنا آثارهم على معد                     وخير فوارس للخير فينا
          وعند التاريخي عن الشعبي وزيد بن وهب وغيرهما: «أمر سعد بن أبي وقاص أبا الهيَّاج الأسدي والسائب بن الأقرع أن يقسما للناس _يعني الكوفة_ فاختطوا من وراء السهام، فكان المسلمون يعلفون إبلهم ودوابهم في ذلك الموضع حول المسجد فسموه الآري».
          ومعنى ما أراد البخاري: أن النخاسين كانوا يسمون مرابط دوابِّهم بهذه الأسماء ليدلِّسوا على المشتري بقولهم: كما جاء من خراسان أو سجستان يعنون مرابطها، فيحرض عليها المشتري، ويظن أنها طرية الجلب.
          وأرى أنه نَقَصَ في الأصل بعد لفظه: «آري» لفظة: «دوابهم».
          وقال ابن التين: ضُبِطَ في بعض الكتب بفتح الهمزة وسكون الراء، وفي بعضها بالمد وكسر الراء وتشديد الياء.
          قال:
          وَقَالَ عُقْبَةُ بْنُ عَامِرٍ: لَا يَحِلُّ لِامْرِئٍ يَبِيعُ سِلْعَةً يَعْلَمُ أَنَّ بِهَا دَاءً إِلَّا أَخْبَرَهُ.
          هذا التعليق الموقوف ذكره ابن ماجه مسندًا فقال: حَدَّثنا ابن بشار، قال: حَدَّثنا وهب بن جرير: حدَّثنا أبي، سمعت يحيى بن أيوب يُحدِّث عن يزيد بن أبي حبيب، عن عبد الرحمن بن شُماسة، عن عقبة بن عامر، سمعت رسول الله صلعم / يقول: «المسلم أخو المسلم، لا يحل لمسلم باع من أخيه بيعًا وبه عيب إلا بيَّنه له».
          وعنده أيضًا من حديث مكحول وسليمان بن موسى عن واثلة سمعت النبي صلعم يقول: «من باع بيعًا لم يبينه لم يزل في مقتِ الله، ولم تزل الملائكة تلعنه».
          وعند الحاكم صحيح الإسنادِ: «لا يحل لأحد أن يبيعَ شيئًا إلا بيَّن ما فيه، ولا يحل لمن علم ذلك إلا بينه».
          وفي لفظ صحيح الإسناد: «عهدة الرقيق أربع ليال».
          وفي لفظ: «لا عهدة فوق أربع».
          وفي كتاب «الربا» تصنيف محمد بن أسلم قاضي سمرقند قال: حَدَّثنا علي بن إسحاق: أخبرنا موسى بن عمير، عن مكحول، عن أبي أُمامة قال رسول الله صلعم: «أيُّما مسلمٍ استرسلَ إلى مسلم فغبنه، كان غبنُه ذاك ربًا».
          وحديث الباب يأتي في (باب كم يجوز الخيار).