التلويح شرح الجامع الصحيح

باب موكل الربا

          ░25▒ بَابُ مُوكِلِ الرِّبَا
          لِقَوْلِ الله جلَّ وعزَّ: {اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} إلى قوله: {وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ}[البقرة:278-281].
          قرأتُ على المسنِد أبي النون الجَودري، عن النهري، عن أبي الفضل المدني، عن أبي الحسن علي بن أحمد المفسِّر: أخبرنا محمد بن عبد الرحمن بن محمد بن جعفر: أخبرنا أبو عمرو بن حمدان: أخبرنا أبو يعلى: حدَّثنا أحمد بن الأخنس: حدَّثنا محمد بن فُضيل: حدَّثنا الكلبي، عن أبي صالح، عن ابن عباس قال: «بلغنا أن هذه الآية نزلت في بني عمرو بن عوف من ثَقيف، وفي بني المغيرة من بني مخزوم، كانت بنو المغيرة يُربون لثَقيف، فلما أظهر الله جلَّ وعزَّ رسولَه صلعم على مكة، وضعَ يومئذ الربا كلَّه، فأتى بنو عمرو وبنو المغيرة إلى عتَّاب بن أُسَيدٍ وهو على مكة، فقال بنو المغيرة: ما جعلنا أشقى الناس بالربا، وضع عن الناس غيرنا، فقال بنو عمرو: صولحنا على أن لنا ربانا، فكتب عَتَّابٌ في ذلك إلى رسول الله صلعم فنزلت هذه الآية والتي بعدها: {فَأْذَنُوْا بِحَرْبٍ مِنَ اللهِّ وَرَسُوْلِهِ}[البقرة:279]».
          وقالَ عطاء وعكرمة: «نزلت في العبَّاس بن عبد المطلب وعثمان بن عفَّان، وكانا قد أسلفا في التَّمر، فلما حضر الجذاذ قال لهما صاحب التمر: لا يبقى لي ما يكفي عيالي إن أنتما أخذتما حظَّكما كلَّه، فهل لكما أن تأخذا النِّصف، وتؤخِّرا النصفَ وأضعِّف لكما؟ ففعلا، فلما حلَّ الأجلُ طلبا الزيادة، فبلغَ ذلك النبيَّ صلعم، فنهاهما عن ذلك، وأنزل الله جلَّ وعزَّ هذه الآية، فسمعا وأطاعا وأخذا رؤوس أموالهما».
          وقال السُّدِّيُّ: نزلت في العباس وخالد بن الوليد، وكانا شريكين في الجاهلية يُسلِفان بالربا، فجاء الإسلام ولهما أموالٌ عظيمة في الربا، فأنزل الله جلَّ وعزَّ هذه الآية، فقال النبي صلعم: «ألا إن كل ربا من ربا الجاهلية موضوع، وأول ربا أضعه ربا العباس بن عبد المطلب».
          وفي «تفسير مقاتل»: «نزلت فِي أربعة / إخوة من ثَقيف: مسعود وحبيب وربيعة وعبد ياليل، كانوا يداينون بني المغيرة بن مخزوم».
          وفي «تفسير الطبري» عن السدي: «نزلت في العباس ورجل من بني المغيرةِ وكانا شريكين».
          وقال البخاري: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هَذِهِ آخِرُ آيَةٍ نَزَلَتْ عَلَى رسول الله صلعم.
          هذا التعليق رواه مسندًا في التفسير [خ¦4544] فقال: حَدَّثنا قبيصة: حدَّثنا سفيان، عن عاصم، عن الشعبي، عنه: «آخر آية نزلت آية الربا».
          قال ابن التين عن الداوودي: رُوِيَ عن ابن عباس: «آخر آية نزلت: {وَاتَّقُوْا يَوْمًا تُرْجَعُوْنَ فِيْهِ إِلَى اللهِّ}[البقرة:280]. قال: فإمَّا أن يكون وهم من الرواية لقربها منها، أو غير ذلك». انتهى.
          هاتان الآيتان نزلتا جملةً، فصحَّ أن يقال لكلٍّ منهما: آخر آية.
          وقال مقاتل: توفِّيَ النبي صلعم بعد نزولها بسبع ليال.
          وقال ابن جريج: بتسع.
          وعند ابن الجوزي عن ابن عباس: بأحد وثمانين يومًا.
          وروي عن البراء: أن آخر آية نزلت: {يَسْتَفْتُوْنَكَ قُلِ اللهُّ يُفْتِيْكُمْ فِي الْكَلَالَةِ}[النساء:672].
          وقال أبي بن كعب: آخر آية نزلت: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُوْلٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ}[التوبة:821].
          وقيل: إن قوله تعالى: {وَاتَّقُوْا يَوْمًا تُرْجَعُوْنَ فِيْهِ إِلَى اللهِّ} إنما نزلت يوم النحر بمنى في حجة الوداع.
          وقال الطبري في «تفسيره»: الإرباء الزيادة على الشيء، يقال منه: أربى فلان على فلان، إذا زادَ عليه، يُربي إرباءً، والزيادة هي الربا، وربا الشيء، إذا زاد عما كان عليه فعظُم، فهو يربو رَبْوًا، وإنما قيل للرابية رابيةً لزيادتها في العِظَمِ والإشراف على ما استوى من الأرض مما حولها، من قولهم: ربا يربو، ومن ذلك قيل: فلان في رباء قومه، يراد أنه في رِفعةٍ وشرف منهم.
          وأصل الربا، الإنافة والزيادة، ثم يقال: أربى فلان؛ أي: أناف غيرَه وصيَّره زائدًا، فإنما قيل للمُرْبي: مُرْبيًا؛ لتضعيفه المالَ الذي كان له على غريمه حالًا، أو لزيادته عليه فيه بسبب الأجل الذي يؤخره / إليه فيزيده إلى أجله الذي كان قبلَ حلِّ دينه عليه، ولذلك قال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً}[آل عمران:131].
          وبمثل الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل: مجاهد وقتادة وسعيد بن جبير والربيع والضحاك والسُّدِّي وغيرهم.
          وقال الزَّمَخْشري: كتب الربا بالواو على لغة مَن يفخم.
          وعن الثعلبي: كتبوه في المصحف بالواو؛ وأجاز الكوفيون كتبه وتثنيته بالياء، بكسر أوله، وغلطهم في ذلك البصريون.
          وقال الفراء: إنما كتبوه بالواو؛ لأنَّ أهلَ الحجاز تعلَّموا الخط من أهل الحيرة، ولغتهم الربو، مضموم، فصورةُ الخطِّ على لغتهم، وكذا قرأه أبو السمال العدوي.
          وزعم أبو الحسن طاهر ابن غلبون أن أبا السمال قرأ: «الرَّبُو»، بفتح الراء وضم الباء ويجعل معها واوًا.
          وقال ابن قتيبة: قراءة أبي السمال وأبي السوار بكسر الراء وضم الباء وواو ساكنة، وقرأه الحسن بالمد والهمز، وقرأه حمزةُ والكِسائي بالإمالة، وقرأه الباقون بالتفخيم.
          وفي «شرح المهذب»: أنت بالخيار في كتبه بالألف والواو والياء، والرماء: بالمد والميم، والرُّبْيَة: بالضم والتخفيف لغة فيه.
          وذكر أبو الحسن بن الحصار في كتابه «الناسخ والمنسوخ» قوله تعالى: {وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا} الذي يتعلق بهذه الآيات من النسخ حكمان:
          أحدهما: تحريم الربا، وذلك بأن نعلم تاريخَ نزول الآية، ونعلمَ ضرورة الخلق إلى المعاوضات، فهذه الآية مدنية، ويدل على تاريخها حديثُ عائشة، قالت: «لما نزلت الآيات من آخر سورة البقرة في الربا خرج صلعم إلى المسجد فحرَّمَ التجارة في الخمر».
          وهذه وصف حال شاهدتها عائشة، وإنما بنى بها رسول الله صلعم بعد مقدَمِه المدينة، ومما بيَّنَ ذلك أن الخمر إنما حُرِّمت في شهر ربيع الأول من السنة الرابعة في غزوة بني النضير، فحرم التجارة فيها، وذلك بعد الهجرة بأربعة أعوام وأربع عشرة سنة من أول / الإسلام، ولم ينقل عنه صلعم إنكار الربا ولا تحريمُه قبل نزول هذه الآيات في تحريم الربا، ناسخة لما كان عليه في الجاهلية، ومن أول الإسلام إلى هذه الغاية، ويدل عليه أن الربا غير معقول المعنى، وإنما يُعلَمُ ببيان الله سبحانه وبيانِ رسوله صلعم، وقد ردَّ الله جلَّ وعزَّ قولَ من قال: {إِنَّمَا البَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا} بأن قال: {وَأَحَلَّ اللهُّ البَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} فلا فرق في الصورة إلا ما يرجع إلى حلِّه سبحانه وتحريمه، وليس في ذلك شيءٌ يثبت إلا ما كان بالمدينة، وإقرار النبي صلعم إلى وقتِ نزولِ الآيات حكم ثابت وشرع متَّبَعٌ.