التلقيح لفهم قارئ الصحيح

باب الشهادة على الأنساب والرضاع المستفيض والموت القديم

          قوله: (بَابُ الشَّهَادَةِ عَلَى الأَنْسَابِ، وَالرَّضَاعِ الْمُسْتَفِيضِ، وَالْمَوْتِ الْقَدِيمِ): هذا الباب عقده الإمام البخاريُّ لشَّهادة الاستفاضة، والمُعتبَر في الاستفاضة: يشترط أنْ يسمعه مِن جمعٍ كَثِيرٍ يقع العلمُ أو الظَّنُّ القويُّ بخبرهم ويُؤمَن تواطؤُهم على الكذب، وهذا الَّذِي رجَّحه الماورديُّ، / وابنُ الصَّبَّاغ، والغزاليُّ، وهو أشبه بكلام الشَّافعيِّ، والثَّاني: يكفي عدلان، اختاره أبو حامد وأبو حاتم، ومال إليه الإمامُ، والثالث: يكفي خبر واحدٍ إذا سكن القلب إليه، حكاه السَّرخسيُّ وغيره؛ فعلى الأوَّل: ينبغي ألَّا تُشترَط العدالةُ ولا الحريَّة والذُّكورةُ.
          وفيما تُقبَل شهادة الاستفاضة: اختُلِف في عدده، وأجمعُ ما رأيتُ فيه كلامَ الإمام صلاح الدين العلائيِّ شيخ شيوخي في «قواعده» قال: (نقلت ممَّا انتُقِي من تعليق القاضي صدر الدين مَوهوبٍ الجزريِّ: يُشهَدُ بالسَّماع في اثنين وعشرين موضعًا؛ وهي النَّسبُ، والموتُ، والنِّكاح، والولاء، وولاية الوالي، وعزلُه، والرَّضاع، وتضرُّر الزَّوجة، والصَّدقات، والأشربة القديمة(1)، والأحباس، والتَّعديل، والتَّجريح لمَن لم يدركه الشَّاهدُ، والإسلام، والكفر، والرُّشد، والسَّفه، والحمل، والولادة، والحريَّة، والقسامة)، قال: (ولم أرها هكذا مجموعةً لغيره، فأمَّا النَّسب؛ فمُتَّفقٌ عليه، وفي النَّسب إلى الأمِّ وجهان؛ أصحُّهما(2): الجواز، وفي العتق والولاء والوقف والزَّوجيَّة خلافٌ، والأصحُّ: الجواز أيضًا، وفي الموت كذلك، والأظهر: القطع بالجواز فِيْهِ، وأمَّا المُلْك؛ ففي الشَّهادة بهِ بمجرَّد الاستفاضة وجهان؛ قال الرَّافعيُّ: أقربُهما إلى إطلاق الأكثرين: الجوازُ؛ كالنَّسب، والظاهر: أنَّه لا يجوز ما لم ينضمَّ إليه اليد أو التَّصرُّف، وبقيَّة الصُّور فيها الخلاف أيضًا؛ لأنَّها داخلةٌ فيما تتوفَّر الطِّباع على إشاعته، وقد حكى الغزاليُّ [في] جوازِ الشَّهادة بها بالتَّسامع(3) الخلافَ، ومنه أيضًا: الغصب، ذكر الماورديُّ في «الأحكام السُّلطانيَّة» أنَّه يثبت بالاستفاضة، والدَّين أيضًا، حكى الهرويُّ في «الإشراف» وجهًا أنَّه يثبت بها، وفي كلام ابن الصَّبَّاغ ما يقتضيه، ولم يُذكَر فيما تَقَدَّم هذان، والمراد بالقسامة: ثبوت اللَّوث، وليس فِيْهِ خلاف، فإنَّه يثبُت بقولِ عدلٍ واحدٍ، وبشهادة العبيد والنِّساء، وكذلك بقول الفسقة والصِّبيان الكفَّار على الأصحِّ، ويجوز أنْ يكون المراد بما تَقَدَّم: أنَّ مَن سمع مِن هؤلاء يجوز أنْ يشهد باللَّوث، والله أعلم)، انتهى، والذي ذكره إحدى وعشرون صورةً، ولعلَّه سقط له: الملك، ويدلُّ لذلك تفصيلُه له، والله أعلم.
          قوله: (وَأَبَا سَلَمَةَ ثُوَيْبَةُ): أمَّا (أبو سلمة)؛ فعبد الله بن عبد الأسد بن هلال المخزوميُّ، أحدُ السَّابقين، وأمُّه بَرَّةُ بنت عبد المطَّلب عمَّةُ النَّبيِّ صلعم، وهو أخوه من الرَّضاعة، هاجر الهجرتين، وشهد بدرًا، ثمَّ تُوُفِّيَ بعدها، روى عن رسول الله صلعم في الاسترجاع عند المصيبة، وعنه: أمُّ أولاده أمُّ سلمة أمُّ المؤمنين.
          وأمَّا (ثُوَيْبَة)؛ فهي بضَمِّ الثاء المثلَّثة، وفتح الواو، ثمَّ مثنَّاة تحت ساكنة، ثمَّ موحَّدة مفتوحة، ثمَّ تاء التأنيث، واختُلِف في إسلامها، كذا قال بعضُ الحُفَّاظ، وكذا ذكرها الذَّهبيُّ في «تجريده»، فقال: (ثُوَيْبَة مولاة أبي لهب، يقال: أسلمت، وقد أرضعتِ النَّبيَّ صلعم)، تُوُفِّيَت سنة سبع من الهجرة.
          فائدةٌ: المراضع اللَّاتي أرضعن رسول الله صلعم: ثُوَيْبَة هذه، وحليمة بنت(4) أبي ذُؤَيبٍ السَّعديَّة زوج الحارث بن عبد العُزَّى، وقد اختُلِف في إسلامها، فقال الحافظ عبد المؤمن بن خلف: إنَّها لم تُسلِم، وقال غيرُه: أسلمت، وقد أفرد إسلامَها بالتَّأليف شيخ شيوخنا الحافظُ علاءُ الدِّين مغلطاي، وسمَّاه «التُّحفة الجسيمة في إسلام حليمة»، وعندي مِنْهُ نسخة، وقد اختُلِف في إسلام الحارثِ والدِه مِن الرَّضاعة، قال ابن القيِّم في أوَّل «الهَدْي»: (وكان عمُّه صلعم حمزة مُسترضَعًا في بني سعد بن بكر، فأرضعت أمُّه لرسول الله صلعم يومًا وهو عند حليمة، فحمزة رضيعه من وجهين؛ من ثُوَيْبَة والسَّعديَّة).
          وقال ابن سيِّد النَّاس الشَّيخُ الحافظُ فتح الدِّين: (وذكر أبو إسحاق ابن الأمين في استدراكه على أبي عُمر: خولة بنت المنذر بن زيد بن لَبِيد بن خداش التي أرضعت النَّبيَّ صلعم، وذكر(5) غيرُه فيهنَّ أمَّ أيمن حاضنته ╕)، انتهى(6)، وقد سمَّى القاضي عياض أمَّ سيف مرضعةَ إبراهيم بن النَّبيِّ صلعم: (خولة بنت المنذر)، قال: (ويقال لها: أمُّ بُردةَ أيضًا)، فأخشى أنا أنْ يكون فيما قاله ابن الأمين شيءٌ، مع أنَّ لفظ الذَّهبيِّ مُحتمِلٌ المعنيين، لكنَّ كونَها أرضعتِ النَّبيَّ ╕ أرجحُ؛ فإنَّه قال في «تجريده»: (خولةُ بنت المنذر بن زيد مرضعةٌ للنَّبيِّ صلعم، ذكرها العدويُّ)، انتهى.
          وأرضعه ╕ أيضًا العواتكُ، قال السُّهيليُّ في «روضه» في عاتكة بنت هلال: (أمُّ عبد مناف، وأمُّ هاشم عاتكة بنت مُرَّةَ، والأُولى عمَّة الثَّانية، وأمُّ وهبٍ جدِّ النَّبيِّ صلعم(7) لأمِّه عاتكةُ بنت الأوقص بن مُرَّةَ بن هلال، فهنَّ عواتكُ ولدْنَ النَّبيَّ صلعم، ولذلك قال: «أنا ابن العواتك مِن سُلَيم»، وقد قيل في تأويل هذا الحديث: إنَّ ثلاثَ نسوةٍ مِن سُلَيم أرضعْنَه؛ كلُّهنَّ تُسمَّى عاتكةَ، والأوَّل أصحُّ)، انتهى، وقال ابن عبد البَرِّ في «استيعابه» في ترجمة سيابة بن(8) عاصم(9) ما لفظه: (والقول الثَّاني: أنَّ رسول الله صلعم مَرَّ بنسوة أبكار من بني سُلَيم، فأخرجن ثُديِّهِنَّ فوضعنها في في رسول الله صلعم، فدرَّت) انتهى.


[1] في (ب): (والأشربة، والبدعة).
[2] في (ب): (وجهان؛ أحدهما وهو الأصح).
[3] في النسختين: (بالتسايع)، وكُتِب فوقها في (أ): (كذا)، ولعله أراد: (التشايع)، يقال: تشايع الأمر؛ إذا شاع، ولعلَّ المثبت الموافق للمصادر هو الأولى.
[4] في (أ): (بن).
[5] في (أ) و(ب): (وذكره)، ولعلَّ المثبت هو الصَّواب.
[6] (انتهى): ليس في (ب)، «عيون الأثر» ░1/98▒.
[7] في (ب): (╕).
[8] في (أ): (بنت)، والمثبت من مصدره.
[9] (بن عاصم): سقط من (ب).