التلقيح لفهم قارئ الصحيح

باب السحر، وقول الله تعالى {ولكن الشياطين كفروا}

          قوله: (بَابُ السِّحْرِ وَقَوْلِ اللهِ ╡(1): {وَلَـكِنَّ الشَّيْاطِينَ كَفَرُواْ}[البقرة:102]): اعلم أنَّ المازريَّ قال: (مذهب أهل السُّنَّة وجمهور علماء الأمَّة على إثبات السِّحر، وأنَّ له حقيقةً؛ كحقيقة غيره مِن الأشياء الثابتة خلافًا لمَن أنكر ذلك، ونفى حقيقته، وأضاف ما يقع منه إلى خيالات باطلة لا حقيقة لها) انتهى، وقد رأيتُ بعض الشَّارحين نقل أنَّ الشَّاشيَّ مِن الشَّافِعيَّة نقل عن أبي جعفر الاستراباذيِّ: (أنَّ السِّحر لا حقيقة له) انتهى، قال المازَريُّ: (وقد ذكره الله تعالى في كتابه، وذكر أنَّه ممَّا يُتعلَّم، وذكر ما فيه إشارة إلى أنَّه ممَّا يُكفَر به، وأنَّه يُفرِّق بين المرء وزوجه، وهذا كلُّه لا يمكن فيما لا حقيقة له) انتهى، والسحر قد يكون كفرًا، وقد لا يكون كفرًا، بل معصيته كبيرة، فإنْ كان فيه قول، أو فعل يقتضي الكفر؛ فهو كفر، وإلَّا فلا، وأمَّا تعليمه وتعلُّمه؛ فحرام، واعلم أنَّه وقع في «الكفاية» للفقيه العلَّامة نجم الدين ابن الرِّفعة المصريِّ الشَّافِعيِّ: أنَّ الغزاليَّ قال في «وسيطه»: (لا يُكرَه تعلُّم السحر)، والذي في «الوسيط»: لا يُكرَه الجوازُ فقط مع أنَّه قد جزم بتحريم تعلُّمه في (كتاب الإجارة) عند(2) الكلام على ركن المنفعة، والمذهب أنَّ تعليمه وتعلُّمه حرامٌ على الأصحِّ، وفي «المستدرك» في (الزَّكاة) في كتاب عمرو بن حزم قال: (وكان في الكتاب أنَّ أكبر الكبائر عند الله يوم القيامة إشراكٌ بالله، وكذا، وكذا...) إلى أن قال: (وتعلُّم السِّحر...)؛ الحديث، وقد سكت عليه الذَّهَبيُّ في «تلخيصه»، ورجَّح في «الميزان» أنَّ سلمان في سنده ابنُ أرقم، لا ابن داود، قال: (فإذن الحديث ضعيف)، انتهى، وإن كان السِّحر يتضمَّن الكفر؛ كَفَرَ، وإلَّا فلا، وإذا لم يكن فيه ما يقتضي الكفر؛ عُزِّر واستُتِيب، ولا يُقتَل عند الشَّافِعيَّة، فإن تاب؛ قُبِلت توبتُه، وقال مالك: (السَّاحر كافر يُقتَل بالسحر، ولا يُستَتاب، ولا تُقبَل توبتُه، بل يتحتَّم قتلُه)، والمسألة مبنيَّة على الخلاف في قبول توبة الزِّنديق؛ لأنَّ السَّاحر عنده كما ذكر، وليس عند الشَّافِعيَّة كذلك، وعندهم تُقبَل توبة المنافق والزِّنديق، قال عياض: (وبقول مالك قال أحمد ابن حنبل، وهو مَرويٌّ عن جماعة مِن الصَّحابة والتَّابعين)، ومسألة ما إذا قَتَل الساحر بسحره، واعترف بذلك، وأنَّ سحره ممَّا يقتُل غالبًا معروفةٌ، وكذا مسألة العائن، ومسألة ما إذا قَتَل بالحال؛ كلُّها معروفة، فلا نطوِّل بها الكتاب، ومحلُّها كتب الفروع.
          قوله: ({وَمِن شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ}[الفلق:4]: وَالنَّفَّاثَاتُ: السَّوَاحِرُ): اعلم أنَّ عُقَد السِّحر التي سُحِر فيها ◙ كانت إحدى عشرة عقدةً، / فأنزل الله تعالى المُعوِّذتَين إحدى عشرة آيةً، فانحلَّت بكلِّ آية عقدةٌ، وقوله تعالى: {وَمِن شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ}، ولم يقل: النَّفاثِّين، وإنَّما الذي سحره كان رجلًا، والجواب: أنَّ الحديث قد رواه إسماعيل القاضي، وزاد في روايته أنَّ زينب اليهوديَّة أعانت لبيد بن الأعصم على ذلك السِّحر مع أنَّ الأُخذة في الغالب مِن عمل النساء وكيدهنِّ، والله أعلم؛ ذكره السُّيهليُّ، وعن «تفسير البغويِّ» في {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ}[الفلق:1]: أنَّ بنات لبيد ابن الأعصم سحرْنَه، ولعلَّهنَّ أعنَّ والدهنَّ مع زينب، والله أعلم، وفي كلام بعض الحفَّاظ المصريِّين: ذكر ابن سعد في «الطبقات»: (أنَّ مُتولِّي السِّحر أخوات لبيد وكنَّ أسحر منه، وأنَّه هو الذي دفنه).
          قوله: ({تُسْحَرُونَ}[المؤمنون:89]: تُعَمَّوْنَ): التِّلاوة معروفةٌ، و(تُعَمَّون)؛ بِضَمِّ المُثَنَّاة فوق، وفتح العين المُهْمَلة، والميم مشدَّدة مفتوحة أيضًا، كذا في أصلنا، ويجوز ضمُّ أوَّله، وإسكان ثانيه، وفتح ثالثه، والذي قاله الثَّعالبيُّ: ({تُسْحَرُونَ}؛ أي: تُخدَعُون وتُصرَفُون عن طاعته وتوحيده).


[1] كذا في (أ) و(ق)، وفي «اليونينيَّة»: (تعالى).
[2] في (أ): (على)، ولعلَّ المُثْبَت هو الصَّواب.