التلويح إلى معرفة ما في الجامع الصَّحيح

باب: إذا وقع الذباب في شراب أحدكم فليغمسه

          ░17▒ (بَابُ: إِذَا وَقَعَ الذُّبَابُ فِي شَرَابِ أَحَدِكُمْ فَلْيَغْمِسْهُ، فَإِنَّ فِي أَحَدِ جَنَاحَيْهِ دَاءً وَفِي الآَخَرِ شِفَاءٌ).
          ترجم الباب بنصِّ حديث عُبَيْدُ بْنُ حُنَيْنٍ الذي ساقه من بعد عن أبي هريرة، وهو من أفراده.ولأبي داود وابن حبَّان في «صحيحه»: ((وأنَّه يتَّقي بجناحه الذي فيه الدَّاء))، وفي «الطِّب» لأبي نعيم من حديث أبي سعيد مثله، وأنَّه يُقدِّمُ السمَّ ويُؤخِّرُ الشِّفاء.
          قوله: (فَإِنَّ فِي إِحْدَى جَنَاحَيْهِ دَاءً وَفِي الآَخرِ شِفَاءً) كذا هو ثابت في النُّسخ (وَفِي الآَخرِ شِفَاءً) بإعادة حرف الجرِّ، وجاء في رواية ((والآخر)) بحذفها، وهو دالٌّ لمن يُجوِّزُ العطف على عاملين، وهو رأي الأخفش والكوفيِّين فيُقرَأُ حينئذ بجرِّ: (الآخَرِ) عطفًا على (أَحَدِ)، ونصب (شِفَاءً) عطفًا على (دَاءً)، والعامل في (أَحَدِ) حرف جرٍّ الذي هو (فِيْ)، والعامل في (دَاءً) إن، فقد شُرِّكَت الواو في العطف بين العاملين اللَّذين هما في (وإن).وسيبويه لا يجيز ذلك، يؤيده رواية «الكتاب» بإثبات حرف الجرِّ، وقد أجازوا في المثل: ما كان سوداء تمرةً ولا بيضاء شحمة.
          فتمرة بالنَّصب على إعمال ما، ولا بيضاء شحمة: بالرَّفع فيهما على الاستئناف، فإنَّ ذلك رُوِيَ في الحديث: ((الآَخَرِ شِفَاءٌ)) بالرَّفع فيهما، فهو على هذا الوجه، ويخرج به عن العطف على عاملين، ولكنَّه يحتاج إلى حذف مضاف في قوله: ((وَالآَخَرِ شِفَاءٌ)) أي: ذو شفاء.وأيضًا في اللَّفظ مجاز وهو كون الدَّاء في أحد الجناحين.و(دَاءً) بالنصب اسم إنَّ، وإنَّما قال: ((إِحْدَى جَنَاحَيْهِ)) لأنَّ الجناح يُذكَّرُ ويُؤنَّثُ، فإنَّهم قالوا في جمعه: أجنحة، وأجنح، وأجنحة جمع المذكَّر، كقذال وأقذلة، وأجنح جمع المؤنث كشِمالٍ وأشمال.
          وقال الجوهريُّ: جناح الطَّائر يده فأُنِّثَ باعتبار اليد، والذُّباب من عجائب مخلوقات الله وبديع صنعته، ومثله في مخلوقات الله كثير، كما أنَّ النَّحلة يخرج من بطنها العسل ومن إبرتها السُّمُّ، والعقرب تُهيِّجُ الدَّاء بإبرتها ويُتدَاوَى من ذلك، وكذلك الأفعى تقتل بسمُّها ويُتدَاوَى بالتِّرياق منها.
          وفي الحديث طهارة الذُّباب وأنَّه لا ينجس ما مات فيه من مائع أو ماء قليل، وهو أظهر قولي الشَّافعيِّ، ونقل ابن المنذر الإجماع عليه، والحديث حجَّة له مع أنَّ ميتته نجسة على الأصحِّ خلافًا لأبي حنيفة وبعض أصحاب الشَّافعي.
          واعلم أنَّ الأمر بالغمس / إنَّما هو لمقابلة الدَّاء بالدَّواء كما أخبر به الشَّارع وحينئذ ففي إلحاق غير الذُّباب نفس له سائلة ممَّا لا به في عدم تنجيس ما مات فيه من المائعات والماء القليل نظر، وقد جاء تثليث غمسها على وجه المبالغة، رواه الضِّياء في «الأحاديث المُختارة» من طريق يحيى بن صاعد، بإسناده عن ثُمَامَة بن عبد الله بن أنس قال: كنَّا عند أنس بن مالك فوقع ذباب في إناء، فقال أنس بأصبعه فغمسه في ذلك الماء ثلاثًا وقال: بسم الله.وقال: إنَّ رسول الله صلعم أمرهم أن يفعلوا ذلك.
          وفيه: إباحة التَّداوي وهو ممَّا يُستعمَلُ في أدوية العين فيسحقونه مع الإِثمِد ليقوى البصر، ويأمرون بستر وجه من عضَّه الكلب الكَلِبُ من الذُّباب، ويقولون: إن وقع بصره عليه تعجَّل هلاكه، نبَّه عليه ابن الجوزيِّ.
          تنبيه: قال ابن التِّين: واحد الذُّباب ذبابة، وقال في «المنتهى» جمع الذُّباب ذُّبَّان ولا يُقَالُ: ذبابة، والجمع القليل: أَذِبَة، كغراب وأغربة وغربان.وقال أبو هلال العسكريُّ: الذُّباب واحد والجمع ذبَّان، والعامَّة يقولون: ذبانة للواحد، والذُّباب للجمع وهو خطأ، وقال أبو حاتم السِّجِسْتَانِيُّ: يقول: هذا ذباب للواحد وذبابان في التَّثنية، ولا يُقَالُ: ذبابة ولا ذبانة.وقال ابن سيده في «محكمه»: لا يُقَالُ ذبابة، إلَّا أنَّ أبا عبيدة رواه عن الأحمر، والصَّواب: ذباب واحد، وفي التَّنزيل: {وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا}[الحج:73] فسَّروه بالواحد.وحكى سيبويه عن العرب: ذبَّ في جمع ذباب.قال الجاحظ: عمر الذُّباب أربعون يومًا وهو في النَّار، لا لِيُعذَّبَ بل لِيُعذَّب به أهل النَّار لوقوعه عليهم؛ فإنَّه ليس شيء أضرَّ على المكلوم من وقوع الذُّباب على كلمه.
          فائدة: قال: إذا أخذ الذُّباب الكثير فقطعت رؤوسها وحكَّ بباقيها الشَّعرة التي تكون في الأجفان حكًّا شديدًا فإنَّه يُبرِئُه، وإن سحق الذُّباب بصفرة البيض سحقًا ناعمًا وضُمِّدَت بها العين التي فيها اللَّحم الأحمر من داخل فإنَّه يُسكِّنُ من ساعته، وإن حُكَّ الذَّباب على موضع داء الثَّعلب حكًّا شديدًا فإنَّه يُبرِئُه، وإن مسح لسعة الزُّنبور بالذُّباب سكن وجعه، وإذا قطع رؤوس الذُّباب ودلك بباقيه الأجفان المتورِّمة أزال ورمها.