التلويح إلى معرفة ما في الجامع الصَّحيح

باب المعراج

          ░42▒ (بَابُ المِعْرَاجِ).
          وهو بكسر الميم شبه السُّلَّم، مفعال من العروج وهو الصُّعود، كأنَّه آلة له.قال القاضي عياض: واختلفوا في الإسراء برسول الله صلعم فقيل: كان جميعه في المنام، والذي عليه معظم السَّلف وعامَّة المتأخرين من الفقهاء والمحدِّثين والمتكلِّمين أنَّه أُسرِيَ بجسده الشَّريف، ثمَّ قيل: إنَّ ذلك قبل أن يُوحَى إليه وهو غلط، فإنَّ الإسراء أقلُّ ما قيل فيه أنَّه كان بعد مبعثه بخمسة عشر شهرًا، وقال الحربيُّ: كان ليلة سبع وعشرين من شهر ربيع الآخر قبل الهجرة بسنة، وقال الزُّهريُّ: كان بعد مبعثه / بخمس سنين.وقول الزُّهريِّ أشبه الأقوال، وكذلك قول ابن إسحاق إنَّ الإسراء كان بعد أن فشا الإسلام بمكَّة، وأجمعوا على أنَّ فرض الصَّلاة كان ليلة الإسراء، وكيف يكون هذا قبل أن يُوحَى إليه؟ وأمَّا قوله في رواية شريك: (وَهُوَ ناَئِمٌ) وفي الرِّواية الأخرى ((بَيْنَا أَنَا عِنْدَ البَيْتِ بَيْنَ النَّائِمِ وَاليَقْظَانِ)) فلا حجَّة فيه لمن يحتجُّ بذلك على جعلها رؤيا نوم، إذ قد يكون ذلك حالة أوَّل وصول الملك إليه، وليس في الحديث ما يدلُّ على كونه نائمًا في القصَّة كلِّها.
          قلت: وذكر ابن إسحاق عن عائشة وميمونة ☻ أنَّ الإسراء كان بروحه الشَّريفة في نومه وكانت رؤيا حقٍّ قالت عائشة: لَمْ تَفْقِدْ بَدَنَهُ، وَإِنّمَا عُرِجَ بِرُوحِهِ تِلْكَ اللّيْلَةَ، واحتجَّ قائله بقوله تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ}[الإسراء:60] ولم يقل: الرُّؤْيَةَ، وإنَّما يُسمَّى رُؤْيَا ما كان في النَّوم في عرف اللُّغة، وبما في البخاريِّ عَنْ أَنَسٍ ☺ ((أَنَّ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِرَسُوْلِ اللهِ صلعم مِنَ المَسْجِدِ الحَرَامِ جَاءَهُ ثَلاَثَةُ نَفَرٍ قَبْلَ أَنْ يُوحَى إِلَيْهِ وَهُوَ نَائِمٌ فِي المَسْجِدِ الحَرَامِ، فَقَالَ أَوَّلُهُمْ: أَيُّهُمْ هُوَ؟ فَقَالَ أَوْسَطُهُمْ: هُوَ هَذَا، وَهُوَ خَيْرُهُمْ، فَقَالَ آخِرُهُمْ: خُذُوا خَيْرَهُمْ، فَكَانَتْ (1) تِلْكَ اللَّيْلَةَ، فَلَمْ يَرَهُمْ حَتَّى أَتَوْهُ لَيْلَةً أُخْرَى، فِيمَا يَرَى قَلْبُهُ، وَتَنَامُ عَيْنُهُ وَلاَ يَنَامُ قَلْبُهُ، وَكَذَلِكَ الأَنْبِيَاءُ تَنَامُ أَعْيُنُهُمْ وَلاَ تَنَامُ قُلُوبُهُمْ، فَلَمْ يُكَلِّمُوهُ حَتَّى احْتَمَلُوهُ، فَوَضَعُوهُ عِنْدَ زَمْزَمَ، فَتَوَلَّاهُ مِنْهُمْ جِبْرِيلُ)) الحديث بطوله.
          وقال في آخره: (وَاسْتَيْقَظَ وَهُوَ فِي المَسْجِدِ الحَرَامِ) وهو كما تراه صريح في أنَّها كانت رؤيا وهي حقٌّ، ومن قال كان الإسراء بجسده في يقظته قال: الرُّؤيا تُستعمَلُ بعين الرُّؤية في اليقظة كما في قول القائل يصف صائدًا:
وكَبَّرَ للرُّؤيَا وهَشَّ فُؤادُهُ                     وبَشَّرَ قَلْبًا كانَ جَمًّا بَلابِلُهْ
          ولولا أنَّه كان يقظة لما افتتن به النَّاس، وقد افتتن بذلك حتَّى ارتدَّ كثير ممَّن كان أسلم لمَّا أخبرهم صلعم بأنَّه أتى بيت المقدس وعُرِجَ به إلى السَّماوات وعاد إلى مكَّة في ليلة واحدة.
          ولو كانت رؤيا نوم لم يستبعد ذلك أحد، وقد أخبرهم بالأمور التي وقعت له في عوده؛ من شربه الإناء الذي كان مع أهل العير ووجدوه حين أصبح لا ماء فيه، وإرشاده الذين ندَّ بعيرهم حين نفرت إبلهم من حسِّ (2) البراق، وذكره لأهل مكَّة الْغِرَارَتَيْنِ السّوْدَاء والزَّرقاء اللَّتان على الجمل الأزرق الذي تقدَّم العير، إلى غير ذلك ما صدَّقه أهل العير، وذهب القاضي أبو بكر ابن العربيِّ وطائفة إلى الجمع بين الأحاديث بأنَّ الإسراء كان مرَّة منامًا ومرَّة يقظة فالتي في نومه كانت توطئة (3) له وتيسيرًا عليه، كما كان بدوء نبوَّته الرُّؤيا الصَّادقة توطئة وتسهيلًا عليه، فإنَّ هول الإسراء أعظم من هول رؤية الملَك، وذلك أمر تضعف عنه القوَّة / البشريَّة.
          قال السُّهيليُّ: وهذا هو الذي يصحُّ وبه تتَّفق معاني الأخبار، لأنَّ في حديث أنس المتقدِّم أنَّهم أتوه قبل أن يُوحَى إليه، ومعلوم أنَّ الإسراء كان بعد النُّبوَّة وحين فُرِضَت الصَّلاة، وقد قيل: كان قبل الهجرة بعام، وكذا قال: فارتدَّ كثير ممَّن كان أسلم، ورواة الحديثين حفَّاظ ولا طريق للجمع بين الرِّوايتين إلَّا بكون الإسراء مرَّتين والله أعلم.قال: وفي ظاهر القرآن ما يشهد لوقوعه مرَّتين، فإنَّه تعالى يقول: {ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى. فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى. فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى}[النجم:8-10] ثمَّ قال: {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى}[النجم:11] وهو نحو ما وقع في حديث أنس من قوله: (فِيْمَا يَرَاهُ قَلْبُهُ وَعَيْنُهُ نَائِمَةٌ) والفؤاد هو القلب، ثمَّ قال تعالى: {أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى}[النجم:12] ولم يقل: ما قد رأى، فدلَّ على أنَّ ثمَّ رؤية أخرى بعد هذه.
          ثمَّ قال: {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى}[النجم:13] أي: في منزلة نزلها جبريل إليه مرَّة أخرى، فرآه على صورته التي هو عليها: {عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى}[النجم:14] {إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى}[النجم:16] ثمَّ قال: {مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى}[النجم:17] ولم يقل: الفؤاد كما قال في التي قبلها فدلَّ على أنَّها رؤية عين وبصر في المنزلة الأخرى، ثمَّ قال: {لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى}[النجم:18] وإذا كانت رؤية عين فهي من الآيات الكبرى ومن أعظم البراهين والعبر، وصارت الرُّؤيا الأولى بالإضافة إلى الأخرى ليست من الكِبَرِ لأنَّ ما يراه الإنسان في منامه دون ما يراه في يقظته لا محالة، ثمَّ قال: وذكر المازريُّ في كتابه «المعلم بفوائد مسلم»: قول رافع في الجمع بين الأقوال، وهو أنَّ الإسراء كان بجسده في اليقظة إلى بيت المقدس فكانت رؤيا عين، ثمَّ أُسرِيَ بروحه صلعم إلى فوق سبع سماوات فكانت رؤيا قلب، ولذلك شنَّع الكفَّار قوله: ((أتيت بيت المقدس)) وقالوا: يَزْعُمُ مُحَمَّدٌ أَنّهُ أَتَى بَيْت الْمَقْدِسِ وَرَجَعَ إلَى مَكَّةَ فِيْ لَيْلَتَهُ (4) وَالْعِيرُ تَطْرُدُ إلَيْهِ شَهْرًا مُقْبِلَةً وَشَهْرًا مُدْبِرَةً، ولم يُشنِّعوا فيما سوى (5) والله أعلم.
          قال: وجواب آخر وهو أنَّ أصحاب اليمين في قوله تعالى: {إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ عَنِ الْمُجْرِمِينَ مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ}[المدثر:39-42] وأصحاب اليمين في الآية هم الأطفال الذين ماتوا صغارًا، قاله ابن عبَّاس، ولذلك سألوا المجرمين: {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ}[المدثر:42] لأنَّهم ماتوا قبل أن يعلموا كفرهم.وفي الحديث الصَّحيح: ((إِنَّ أَطْفَالَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي كِفَالَةِ إبْرَاهِيمَ ◙ ، وَإِنَّ جِبْرِيْلَ سَأَلَ رَسُوْلَ اللهِ صلعم حِينَ رَآهُمْ فِي الرَّوْضِ مَعَ كَفِيْلِهِمْ (6) ◙ مَنْ هَؤُلَاءِ يَا جِبْرِيلُ؟ قَالَ: أَوْلَادُ الْمُؤْمِنِينَ الّذِينَ يَمُوتُونَ صِغَارًا، قَالَ لَهُ: وَأَوْلَادُ الْكَافِرِينَ، قَالَ: وَأَوْلَادُ الْكَافِرِين)) خرَّجه (7) البخاريُّ في الحديث الطَّويل في كتاب الجنائز، وخرَّجه في موضع آخر، وقال فيه: ((أَوْلَادُ النَّاسِ)) فهو في الحديث الأوَّل نصٌّ وفي الثَّاني عموم، وقد رُوِيَ في أطفال الكفَّار ((أنَّهم خدم لأهل الجنَّة)) قال: ولا يبعد أن يكون الذي رآه عن يمين آدم من / نسم ذرِّيته أرواح هؤلاء، قال: وفي هذا ما يدفع تشعيب ذلك السُّؤال والاعتراض به.انتهى.
          فإن قيل: أرواح أهل الشِّمال في النَّار، وهي تحت طبقة الأرض السَّابعة فكيف يراهم حتَّى يبكي؟
          فائدةٌ: إن قيل: ما الحكمة في اختصاص كلِّ واحد من الأنبياء الذين رآهم النَّبيُّ صلعم في السَّماوات ليلة الإسراء بالسَّماء التي رآه فيها؟ وما الحكمة في اختصاص المذكورين من الأنبياء بالذِّكر؟ قال السُّهيليُّ: أجاب ابن بطَّال في شرح البخاريِّ بما معناه أنَّهم ‰ لمَّا علموا بقدومه عليهم ابتدروا إلى لقائه ابتدار أهل الغائب القادمَ إلى لقائه، فمنهم من أسرع ومنهم من أبطأ، قال هذا مغزى كلامه.
          وقال هو، أي: السُّهيليُّ: إنَّ أهل التَّعْبِيرِ يقولون: من رأى في منامه نبيًّا بعينه فإنَّ رؤياه تُؤْذِنُ بما يشبه من حال ذلك النَّبيِّ المرئي من شدَّة أو رخاء أو غير ذلك من الأمور التي أخبر بها عن الأنبياء في القرآن والسُّنَّة، وحديث الإسراء كان بمكَّة وهي حرم الله وأمنه وسكَّانها جيران الله، لأنَّ فيها بيته فكان (8) أول من رأى آدم لأنَّه كان في أمن الله وجواره فأخرجه عدُّوه إبليس منها، ويشبه ذلك من أحوال النَّبيِّ صلعم إخراج أعدائه له من حرم الله وجوار بيته، فكربه ذلك وغمَّه فأشبهت قصَّتُهُ في هذا قصَّة آدم، مع أنَّ آدم تُعْرَضُ عليه أرواح ذُرِّيَّتِهِ الْبَرُّ والفاجر منهم، فكان في سماء الدُّنيا بحيث يرى الفريقين لأنَّ أرواح أهل الشَّقاء لا تَلِجُ السَّماء ولا تُفتَحُ لهم أبوابها، كما قال تعالى: {لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ}[الأعراف:40].
          وأمَّا رؤياه ابْنَي الخالة عيسى ويحيى فلأنَّ أمَّ يحيى أَشْيَاعَ بِنْتَ عِمْرَانِ أخت مريم أمُّهما حَنَّةُ، قد امتُحِنَا ♂فاليهود قتلوا يحيى وكذَّبوا عيسى وهمُّوا بقتله فرفعه الله، ورسول الله صلعم بعد انتقاله إلى المدينة كانت محنته فيها باليهود آذوه وظاهروا عليه وهمُّوا بإلقاء الصَّخرة عليه ليقتلوه فنجَّاه الله منهم كما نجَّى عيسى منهم، وسَمُّوهُ في الشَّاة فلم تزل تلك الأكلة تُعَاوِدُه حتَّى قطعت أَبْهَرَهُ، وأمَّا رؤياه يوسف في السَّماء الثَّالثة فيُؤذِنُ بحالة ثَالِثَةٍ تُشبِهُ حالة يوسف، فإنَّه ظفر بإخوته بعد أن أخرجوه من بين ظهرانيهم، فصفح عنهم وقال: لا تثريب عليكم، وكذلك محمَّد صلعم في يوم بدر أَسَرَ جملة من أقاربه الذين أخرجوه منهم عمُّه العبَّاس وابن عمِّه عَقِيلٌ، فمنهم من أطلق ومنهم من فداه، ثمَّ ظَهَرَ عليهم بعد ذلك عام الفتح فجمعهم وقال لهم: ((أقول كما قال أخي يوسف لا تثريب عليكم اليوم)).
          وأمَّا رؤياه موسى في السَّادسة فيُؤذِنُ بحالة تشبه حالة موسى حين أمر لغزو الشَّام فظهر على الجبابرة الذين كانوا فيها وأدخل بني إسرائيل البلد الذي خرجوا منه بعد إهلاك عدوِّهم، كذلك غَزَا محمَّد صلعم تبوك من أرض الشَّام، وظهر على صاحب دَوْمَةَ حين صالحه على الجزية بعد أن أتى به / أسيرًا، وافتتح مكَّة ودخل أصحابه البلد الذي خرجوا منه.
          وأمَّا رؤياه لإبراهيم في السَّابعة فلحكمتين، إحداهما: أنَّه رآه مسندًا ظهره إلى البيت المعمور الذي هو حيال الكعبة وإليه تجمع الملائكة، كما أنَّه هو الذي بنى الكعبة وأذَّن في النَّاس بالحجِّ إليها، والحكمة الثَّانية: أنَّ آخر أحوال رسول الله حجُّه إلى البيت الحرام، وحجَّ معه ذلك العام نحوٌ (9) من سبعين ألفًا من المسلمين، ورؤية إبراهيم عند أهل التَّأويل يُؤذِّنُ بالحجِّ لأنَّه الدَّاعي إليه والرَّافع لقواعد الكعبة المحجوجة، وذكر حكمة رؤياه هارون في الخامسة وإدريس في المكان العلي وهو الرَّابعة، والله أعلم.


[1] في الأصل:((فكان)).
[2] صورتها في الأصل:((حسن)).
[3] صورتها في الأصل:((تغطية)).
[4] صورتها في الأصل:((ليله)).
[5] كذا صورتها في الأصل:((سوى)) ولعل لفظة:((ذلك)) سقطت بعدها.
[6] في الأصل:((مع كفرهم)) والصَّواب المثبت.
[7] في الأصل:((خرَّج)) والصَّواب المثبت.
[8] في الأصل: مكررة.
[9] في الأصل:((نحواً)).