التلقيح لفهم قارئ الصحيح

باب قول الله تعالى: {وأمرهم شورى بينهم}

          قوله: (بَابُ قَوْلِ اللهِ تَعَالَى: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ}[الشورى:38]، {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ}[آل عمران:159]): اعلم أنَّ ظاهرَ الأمر في الثانية الوجوبُ، والمشاورةُ واجبةٌ على النَّبيِّ صلعم على الصحيح؛ لظاهر الآية، ووجهُ مَن قال باستحبابها: القياسُ على غيره، والأمرُ للاستحباب؛ استمالةً لقلوبهم، وحكاه ابن القشيريِّ عن نصِّ الشَّافِعيِّ، وأنَّه جعله كقوله ◙: «والبكر تُستَأذَن»؛ تطييبًا لقلبها، لا أنَّه واجبٌ، وهو قولُ الحسنِ، وحكى أنَّ الأمرَ أيضًا للاستحبابِ البيهقيُّ في «المعرفة»، حكاه بعض مشايخي فيما رأيتُه في بعض مؤلَّفاته: (قال الحسن: علم الله ما به إليهم من حاجةٍ، ولكن أراد أن يَستَنَّ به مَن بعدَه).
          قال الماورديُّ: (واختُلِف فيما يُشاور فيه؛ فقال قومٌ: في الحروبِ ومكابدةِ العدوِّ خاصَّةً، وقال آخرون: في أمور الدنيا والدين، وقال آخرون: في أمور الدين؛ تنبيهًا لهم على عِلَل الأحكام، وطريقِ الاجتهاد).
          وقال الثعلبيُّ في «تفسيره»: (اختُلِف في المعنى الذي أمر الله تعالى نبيَّه بالمشاورة لهم فيه مع كمالِ عقله، وجزالةِ رأيه، وتتابُعِ الوحيِ عليه، ووجوبِ طاعتِه في أمَّته فيما أحبُّوا أو كرهوا؛ فقيل: هو خاصٌّ في المعنى وإن كان عامًّا في اللفظ، ومعنى الآية: وشاورهم فيما ليس عندك فيه من الله عهدٌ، يدلُّ عليه قراءةُ ابن عبَّاس(1): ▬وَشَاوِرْهُمْ فِي بعضِ الأَمْرِ↨، قال الكلبيُّ: يعني ناظِرهم في لقاءِ العدوِّ ومكابدةِ الحروب عند الغزو)، ثُمَّ ذكر قولَ الحسنِ السالفَ وغيرَه.
          وذكر السُّهَيليُّ في «روضه» في (غزوة حمراء الأسد) لمَّا ذكر قولَه تعالى: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ}[آل عمران:159]؛ قال: (وفسَّره _يعني: ابن هشام_: وقد جاء عن ابن عَبَّاس أنَّه قال: نزلت في أبي بكرٍ وعمرَ، أُمِرَ بمشاوَرَتهما)، انتهى، والله أعلم.
          قوله: (وَشَاوَرَ النَّبِيُّ صلعم أَصْحَابَهُ): (النَّبيُّ): مَرْفُوعٌ فاعلٌ، و(أصحابَه): مَنْصُوبٌ مفعولٌ، وهذا ظاهِرٌ عند مَن يعرف الغزوات، ويُعرَف أيضًا من قوله بعده: (فَرَأَوْا لَهُ الخُرُوجَ).
          قوله: (فِي المُـَقَامِ وَالخُرُوجِ): هو بضَمِّ الميم وفتحها، وهو في أصلنا بالفتح بالقلم.
          قوله: (فَلَمَّا لَبِسَ لَأْمَتَهُ): تَقَدَّمَ الكلام على (اللأمَة) [خ¦2510]، وسيأتي بعد هذا.
          قوله: (وَقَالَ: «لَا يَنْبَغِي لِنَبِيٍّ يَلْبَسُ لَأْمَتَهُ فَيَضَعُهَا حتَّى يَحْكُمَ اللهُ»): اعلم أنَّه يحرم عليه صلعم إذا لبس لَأْمَته أن ينزعها حتَّى يلقى العدوَّ ويقاتِلَ، ففي «سنن البيهقيِّ» مرسلًا: «لا ينبغي لنبيٍّ إذا أخذ لَأْمةَ الحرب وأذَّن في الناس بالخروج إلى العدوِّ أن يرجعَ حتَّى يُقاتِل»، ثُمَّ قال: (وقد كتبناه موصولًا بإسنادٍ حسنٍ)، فذكره من رواية ابن عَبَّاس، وأخرجه الإمام أحمد من حديث أبي الزُّبَير عن جابر، وذكره البُخاريُّ هنا بغير إسنادٍ.
          وقوله فيه: (لَأْمَتَه): هو بالهمز، كما قَيَّدَهُ صاحب «المشارق» وغيرُه، وقال ابن دحية في كتابه «نهاية السُّول في خصائص الرسول صلعم»: كذا سمعتُه وأرويه، قال ابنُ فارس: اللأْمة؛ مهموزة: الدِّرع، قال: وكذا قيَّدتها بالهمز في كتاب «فقه اللغة» _إلَّا أنَّه جعلها الدرع_ وكذا قَيَّدتُهُ أيضًا في «كفاية المتحفِّظ» للأَجْدابيِّ بالهمز، وجمعها: لَأْم؛ كتَمْرة وتَمْر، وتُجمَع أيضًا على لُؤَم؛ بوزن: نُغَرٍ، على غير قياسٍ، كما قال الجوهريُّ، كأنَّه جمع لُؤمَة؛ بضَمِّ اللَّام، واستلأم الرجل: لبس اللَّأْمة، ثُمَّ ما جزمنا به من تحريم النزع عليه حتَّى يقاتل هو المشهور، وعن رواية الشيخ أبي عليٍّ: أنَّ ذلك كان مكروهًا، لا محرَّمًا، قال الإمام: وهذا بعيدٌ غير موثوقٍ به، قال البغويُّ: وقد قيل بناءً عليه: إنَّه كان لا يبتدئ تطوُّعًا إلَّا لزمه [إتمامه]، والله أعلم.
          قوله: (فَجَلَدَ الرَّامِينَ): بخطِّ بعض علماء الحنفيَّة من أصحابنا: (قال أبو الحسن القابِسيُّ: لم يقع له إسنادٌ في جلد الرَّامين، وإنَّما ذكر ذلك بغير إسناد)، انتهى، وقد اختلف الناس في أنَّه ◙ جلد الذين قذفوا عائشة أم لا؛ على قولين، والذي يظهر من حيث النقلُ: أنَّه جلدهم، وقد قَدَّمْتُ ذلك في (الشهادات) في (حديث الإفك) [خ¦2661]، وقد جزم به البُخاريُّ هنا كما ترى، ولا يجزم إلَّا بما صحَّ عنده على شرطه، وقال بعض حُفَّاظ العَصْرِ ما لفظه: (هذا الحصرُ مردودٌ، فإنَّه يجزم بما صحَّ مطلقًا، سواء وافق شرطَه أم لا، وانظر قريبًا في «الأحكام» تعليقَه تعليمَ زيد بن ثابت كتابَ يهود [خ¦7195]، فإنَّ مداره على عبد الرَّحْمَن بن أبي الزناد، وليس على شرطه، وعلى ثابت بن عبيد، وليس على شرطه، لكنْ كلٌّ منهما يبلغ درجةَ الصحيح، وشرطُ البُخاريِّ أرفعُ درجةً من مطلق الصحيح)، انتهى، وفيه نظرٌ، والله أعلم(2).
          قوله: (فَإِذَا وَضَحَ الكِتَابُ أو السُّنَّةُ لم يَتَعَدَّوْهُ إلى غَيْرِهِ): (وَضَحَ)؛ أي: بان.
          قوله: (إِلَى مَشُورَةِ عُمَرَ): تَقَدَّمَ أنَّ فيها لُغَتين: مَشُورة، ومَشْورة، وكذا الثانية.
          قوله: (وَأَحْكَامِهِ): هو بالجرِّ معطوفٌ على (الدِّينِ)، وهو مجرورٌ.
          قوله: (أَوْ شُبَّانًا): هو بضَمِّ الشين المُعْجَمَة، وتشديد المُوَحَّدة، وبعد الألف نون، جمع (شابٍّ)، تَقَدَّمَ [خ¦2930] [خ¦7286].
          قوله: (وَكَانَ وَقَّافًا): تَقَدَّمَ معناه قريبًا: أنَّه يتمهَّل في الأمور، ولا يستعجل [خ¦7286].


[1] في (أ): (ابن مسعود)، والمثبت من مصدره، وهو ما أخرجه البخاري في «الأدب المفرد» ░257▒، وغيره عنه.
[2] زيد في (أ) بعد استدراك ما سبق: (والله أعلم).