فتح الباري بشرح صحيح البخاري

كتاب الفرائض

          ░░85▒▒ قوله (كتاب الفرائض) هو جمع فريضة كحديقة وحدائق والفريضة فعيلة بمعنى مفروضة مأخوذة من الفرض وهو القطع يقال فرضت لفلان كذا أي قطعت له شيئاً من المال قاله الخطابي وقيل هو من فرض القوس وهو الحز الذي في طرفيه حيث يوضع الوتر ليثبت فيه ويلزمه ولا يزول وقيل الثاني خاص بفرائض الله وهي ما ألزم به عباده وقال الراغب الفرض قطع الشيء الصلب والتأثير فيه وخصت المواريث باسم الفرائض من قوله تعالى {نَصِيبًا مَّفْرُوضًا} [النساء:7] أي مقدراً أو معلوماً أو مقطوعاً عن غيرهم.
          ░1▒ قوله (وقول الله {يُوصِيكُمُ اللّهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ} [النساء:11] ) أفاد السهيلي أن الحكمة في التعبير بلفظ الفعل المستمر لا بلفظ الفعل الماضي كما في قوله {ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ} [الأنعام:151] و{سورة أَنزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا} [النور:1] الإشارة إلى أن هذه الآية ناسخة للوصية المكتوبة عليهم كما سيأتي بيانه قريباً في باب ميراث الزوج قال وأضاف الفعل إلى اسم المظهر تنويهاً بالحكم وتعظيماً له وقال {فِي أَوْلاَدِكُمْ} [النساء:11] ولم يقل بأولادكم إشارةً إلى الأمر بالعدل فيهم ولذلك لم يخص الوصية بالميراث بل أتى باللفظ عاماً وهو كقوله لا أشهد على جور وأضاف الأولاد إليهم مع أنه الذي أوصى بهم إشارةً إلى أنه أرحم بهم من آبائهم. /
          قوله (إلى قوله {وَصِيَّةً مِّنَ اللّهِ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ} [النساء:12] ) كذا لأبي ذر وأما غيره فساق الآية الأولى وقال بعد قوله {عَلِيماً حَكِيماً} إلى قوله {وَاللّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ} وذكر فيه حديث جابر مرضت فعادني النبي صلعم وفيه فقلت يا رسول الله كيف أصنع في مالي فلم يجبني بشيء حتى نزلت آية الميراث هكذا وقع في رواية قتيبة وقد تقدم في تفسير النساء أن مسلماً أخرجه عن عمرو الناقد عن سفيان وهو ابن عيينة شيخ قتيبة فيه فزاد في آخره {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلاَلَةِ} [النساء:176] وبينت هناك أن هذه الزيادة مدرجة وأن الصواب ما أخرجه الترمذي من طريق يحيى بن آدم عن ابن عيينة حتى نزلت {يُوصِيكُمُ اللّهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ} [النساء:11] وأما قول البخاري في الترجمة إلى {وَاللّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ} فأشار به إلى أن مراد جابر من آية الميراث قوله {وَإِن كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلاَلَةً} [النساء:12] وقد سبق في آخر تفسير سورة النساء ما أخرجه النسائي من وجه آخر عن جابر أن {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلاَلَةِ} [النساء:176] نزلت فيه وقد أشكل ذلك قديماً قال ابن العربي بعد أن ذكر الروايتين في إحداهما فنزلت يستفتونك وفي أخرى آية المواريث هذا تعارض لم يتفق بيانه إلى الآن ثم أشار إلى ترجيح آية المواريث وتوهيم يستفتونك ويظهر أن يقال إن كلاً من الآيتين لما كان فيها ذكر الكلالة نزلت في ذلك لكن الآية الأولى لما كانت الكلالة فيها خاصةً بميراث الإخوة من الأم كما كان ابن مسعود يقرأ وله أخ أو أخت من أم وكذا قرأ سعد بن أبي وقاص أخرجه البيهقي بسند صحيح استفتوا عن ميراث غيرهم من الإخوة فنزلت الأخيرة فيصح أن كلاً من الآيتين نزل في قصة جابر لكن المتعلق به من الآية الأولى ما يتعلق بالكلالة وأما سبب نزول أولها فورد من حديث جابر أيضاً في قصة ابنتي سعد بن الربيع ومنع عمهما أن يرثا من أبيهما فنزلت {يُوصِيكُمُ اللّهُ} الآية فقال للعم أعط ابنتي سعد الثلثين وقد بينت سياقه ومن أخرجه آخر هناك وبالله التوفيق.
          وقد وقع في بعض طرق حديث جابر المذكور في «الصحيح» فقلت يا رسول الله إنما يرثني كلالةً وقوله (فلم يجبني بشيء) استدل به على أنه صلعم كان لا يجتهد ورد بأنه لا يلزم من انتظاره الوحي في هذه القضية الخاصة عموم ذلك في كل قضية ولا سيما وهي في مسألة المواريث التي غالبها لا مجال للرأي فيه سلمنا أنه كان يمكنه أن يجتهد فيها لكن لعله كان ينتظر الوحي أولاً فإن لم ينزل اجتهد فلا يدل على نفي الاجتهاد مطلقاً.