فتح الباري بشرح صحيح البخاري

كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم

           قال البخاري رحمه الله ورضي عنه:
           ░░1▒▒ (╖ كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله صلعم) هكذا في رواية أبي ذر والأصيلي بغير «باب» وثبت في رواية غيرهما فحكى عياض _ومن تبعه_ فيه التنوين وتركه وقال الكرماني يجوز فيه الإسكان على سبيل التعداد للأبواب فلا يكون له إعراب.
          وقد اعترض على المصنف لكونه لم يفتتح الكتاب بخطبة تنبئ عن مقصوده مفتتحة بالحمد والشهادة امتثالًا لقوله صلعم «كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه بحمد الله أقطع» وقوله «كل خطبة ليس فيها شهادة فهي كاليد الجذماء» أخرجهما أبو داود وغيره من حديث أبي هريرة.
          والجواب عن الأول أن الخطبة لا يتحتم فيها سياق واحد يمتنع العدول عنه بل الغرض منها الافتتاح بما يدل على المقصود وقد صدر الكتاب بترجمة بدء الوحي وبالحديث الدال على مقصوده المشتمل على أن العمل دائر مع النية فكأنه يقول قصدت جمع وحي السنة المتلقى عن خير البرية على وجه سيظهر حسن عملي فيه من قصدي وإنما لكل امرئ ما نوى فاكتفى بالتلويح عن التصريح وقد سلك هذه الطريقة في معظم تراجم هذا الكتاب على ما سيظهر بالاستقراء.
          والجواب عن الثاني أن الحديثين ليسا على شرطه بل في كل منهما مقال سلمنا صلاحيتهما للحجة لكن ليس فيهما أن ذلك يتعين بالنطق والكتابة معًا فلعله حمد وتشهد نطقًا عند وضع الكتاب ولم يكتب ذلك اقتصارًا على البسملة لأن القدر الذي يجمع الأمور الثلاثة ذكر الله وقد حصل بها ويؤيده أن أول شيء نزل من القرآن {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّك} فطريق التأسي به الافتتاح بالتسمية والاقتصار عليها لا سيما وحكاية ذلك من جملة ما تضمنه هذا الباب الأول بل هو المقصود بالذات من أحاديثه ويؤيده أيضًا / وقوع كتب رسول الله صلعم إلى الملوك وكتبه في القضايا مفتتحةً بالتسمية دون حمدلة وغيرها _كما سيأتي في حديث أبي سفيان في قصة هرقل في هذا الباب وكما سيأتي في حديث البراء في قصة سهيل بن عمرو في صلح الحديبية وغير ذلك من الأحاديث_ وهذا يشعر بأن لفظ الحمد والشهادة إنما يحتاج إليه في الخطب دون الرسائل والوثائق فكأن المصنف لما لم يفتتح كتابه بخطبة أجراه مجرى الرسالة إلى أهل العلم لينتفعوا بما فيه تعلمًا وتعليمًا.
          وقد أجاب من شرح هذا الكتاب بأجوبة أخرى فيها نظر منها أنه تعارض عنده الابتداء بالتسمية أو الحمدلة فلو ابتدأ بالحمدلة لخالف العادة أو بالتسمية لم يعد مبتدئًا بالحمدلة فاكتفى بالتسمية وتعقب بأنه لو جمع بينهما لكان مبتدئًا بالحمد بالنسبة إلى ما بعد التسمية _وهذه هي النكتة في حذف العاطف_ فيكون أولى لموافقة الكتاب العزيز فإن الصحابة افتتحوا كتابته في الإمام الكبير بالتسمية والحمدلة تلوها وتبعهم جميع من كتب المصحف بعدهم في جميع الأمصار من يقول بأن البسملة آية من أول الفاتحة ومن لا يقول ذلك.
          ومنها أنه راعى قوله تعالى {يَا أَيُّهَا الذين آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللهِ وَرَسُولِهِ} [الحجرات:1] فلم يقدم على كلام الله ورسوله شيئًا واكتفى بهما عن كلام نفسه وتعقب بأنه كان يمكنه أن يأتي بلفظ الحمد من كلام الله تعالى وأيضًا فقد قدم الترجمة _وهي من كلامه_ على الآية وكذا ساق السند قبل لفظ الحديث والجواب عن ذلك بأن الترجمة والسند وإن كانا مقدمين لفظًا لكنهما متأخران تقديرًا فيه نظر.
          وأبعد من ذلك كله قول من ادعى أنه ابتدأ بخطبة فيها حمد وشهادة فحذفها بعض من حمل عنه الكتاب وكأن قائل هذا ما رأى تصانيف الأئمة من شيوخ البخاري وشيوخ شيوخه وأهل عصره كمالك في «الموطأ» وعبد الرزاق في «المصنف» وأحمد في «المسند» وأبي داود في «السنن» إلى من لا يحصى ممن لم يقدم في ابتداء تصنيفه خطبةً ولم يزد على التسمية _وهم الأكثر والقليل منهم من افتتح كتابه بخطبة_ أفيقال في كل من هؤلاء إن الرواة عنه حذفوا ذلك كلا بل يحمل ذلك من صنيعهم على أنهم حمدوا لفظًا _ويؤيده ما رواه الخطيب في «الجامع» عن أحمد أنه كان يتلفظ بالصلاة على النبي صلعم إذا كتب الحديث ولا يكتبها لحامل له على ذلك من إسراع أو غيره_ أو يحمل على أنهم رأوا ذلك مختصا بالخطب دون الكتب كما تقدم ولهذا من افتتح كتابه منهم بخطبة حمد وتشهد _كما صنع مسلم_ والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.
          وقد استقر عمل الأئمة المصنفين على افتتاح كتب العلم بالبسملة وكذا معظم كتب الرسائل واختلف القدماء فيما إذا كان الكتاب كله شعرًا فجاء عن الشعبي منع ذلك وعن الزهري قال مضت السنة ألا يكتب في الشعر بسم الله الرحمن الرحيم وعن سعيد بن جبير جواز ذلك وتابعه على ذلك الجمهور وقال الخطيب هو المختار.
          قوله (بدء الوحي) قال عياض روي بالهمز مع سكون الدال من الابتداء وبغير همز مع ضم الدال وتشديد الواو من الظهور قلت ولم أره مضبوطًا في شيء من الروايات التي اتصلت لنا إلا أنه وقع في بعضها كيف كان ابتداء الوحي فهذا يرجح الأول وهو الذي سمعناه من أفواه المشايخ وقد استعمل المصنف هذه العبارة كثيرًا كبدء الحيض وبدء الأذان وبدء الخلق.
          والوحي لغةً الإعلام في خفاء والوحي أيضًا الكتابة والمكتوب والبعث والإلهام والأمر والإيماء والإشارة والتصويت شيئًا بعد شيء وقيل أصله التفهيم وكل ما دللت به من كلام أو كتابة أو رسالة أو إشارة فهو وحي وشرعًا الإعلام / بالشرع وقد يطلق الوحي ويراد به اسم المفعول منه أي الموحى وهو كلام الله المنزل على النبي صلعم.
          وقد اعترض محمد بن إسماعيل التيمي على هذه الترجمة فقال لو قال كيف كان الوحي لكان أحسن لأنه تعرض فيه لبيان كيفية الوحي لا لبيان كيفية بدء الوحي فقط وتعقب بأن المراد من بدء الوحي حاله مع كل ما يتعلق بشأنه أي تعلق كان والله أعلم.
          قوله (وقول الله) هو بالرفع على حذف الباب عطفًا على الجملة لأنها في محل رفع وكذا على تنوين «باب» وبالجر عطفًا على «كيف» وإثبات «باب» بغير تنوين والتقدير باب معنى قول الله تعالى كذا أو الاحتجاج بقول الله كذا ولا يصح تقدير كيفية قول الله لأن كلام الله لا يكيف قاله عياض ويجوز رفع (وقول الله) على القطع وغيره.
          قوله ({إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ} الآية [النساء:163] ) قيل قدم ذكر نوح فيها لأنه أول نبي أرسل أو أول نبي عوقب قومه فلا يرد كون آدم أول الأنبياء مطلقًا كما سيأتي بسط القول في ذلك في الكلام على حديث الشفاعة.
          ومناسبة الآية للترجمة واضح من جهة أن صفة الوحي إلى نبينا صلعم توافق صفة الوحي إلى من تقدمه من النبيين ومن جهة أن أول أحوال النبيين في الوحي بالرؤيا كما رواه أبو نعيم في «الدلائل» بإسناد حسن عن علقمة بن قيس _صاحب ابن مسعود_ قال إن أول ما يؤتى به الأنبياء في المنام حتى تهدأ قلوبهم ثم ينزل الوحي بعد في اليقظة.