فتح الباري بشرح صحيح البخاري

باب كفارات الأيمان

          قوله (♫
          ░░84▒▒ (كتاب كفارات الأيمان)
          في رواية غير أبي ذر <باب> وله عن المستملي <كتاب الكفارات> وسميت كفارةً لأنها تكفر الذنب أي تستره ومنه قيل للزارع كافر لأنه يغطي البذر وقال الراغب الكفارة ما يعطي الحانث في اليمين واستعمل في كفارة القتل والظهار وهي من التكفير وهو ستر الفعل وتغطيته فيصير بمنزلة ما لم يعمل قال ويصح أن يكون أصله إزالة الكفر نحو التمريض في إزالة المرض وقد قال الله تعالى {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُواْ وَاتَّقَوْاْ لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِم} [المائدة:65] أي أزلناها وأصل الكفر الستر يقال كفرت الشمس النجوم سترتها ويسمى السحاب الذي يستر الشمس كافراً ويسمى الليل كافراً لأنه يستر الأشياء من العيون وتكفر الرجل بالسلاح إذا تستر به.
          قوله (وقول الله تعالى {فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ}) يريد إلى آخر الآية وقد تمسك به من قال بتعين العدد المذكور وهو قول الجمهور خلافاً لمن قال لو أعطى ما يجب للعشرة واحداً كفى وهو مروي عن الحسن أخرجه ابن أبي شيبة ولمن قال كذلك لكن قال عشرة أيام متوالية وهو مروي عن الأوزاعي حكاه ابن المنذر وعن الثوري مثله لكن قال إن لم يجد العشرة.
          قوله (وما أمر النبي صلعم حين نزلت: فدية{مِّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ}) يشير إلى حديث كعب بن عجرة الموصول في الباب.
          قوله (وقد خير النبي صلعم كعباً في الفدية) يعني كعب بن عجرة كما ذكره في الباب /
          قوله (ويذكر عن ابن عباس وعطاء وعكرمة ما كان في القرآن «أو أو» فصاحبه بالخيار) أما أثر ابن عباس فوصله سفيان الثوري في «تفسيره» عن ليث بن أبي سليم عن مجاهد عن ابن عباس قال كل شيء في القرآن «أو» نحو قوله تعالى {فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} [البقرة:196] فهو فيه مخير وما كان {فَمَن لَّمْ يَجِدْ} [البقرة:196] فهو على الولاء أي على الترتيب وليث ضعيف ولذلك لم يجزم به المصنف وقد جاء عن مجاهد من قوله بسند صحيح عند الطبري وغيره وأما أثر عطاء فوصله الطبري من طريق ابن جريج قال قال عطاء ما كان في القرآن «أو أو» فلصاحبه أن يختار أيه شاء قال ابن جريج وقال لي عمرو بن دينار نحوه وسنده صحيح وأخرجه ابن عيينة في «تفسيره» عن ابن جريج عن عطاء بلفظ الأصل وسنده صحيح أيضاً وأما أثر عكرمة فوصله الطبري من طريق داود بن أبي هند عنه قال كل شيء في القرآن «أو أو» فليتخير أي الكفارات شاء فإذا كان {فَمَن لَّمْ يَجِدْ} [البقرة:196] فالأول الأول قال ابن بطال هذا متفق عليه بين العلماء وإنما اختلفوا في قدر الإطعام فقال الجمهور لكل إنسان مد من طعام بمد الشارع وفرق مالك في جنس الطعام بين أهل المدينة فاعتبر ذلك في حقهم لأنه وسط من عيشهم بخلاف سائر الأمصار فالمعتبر في حق كل منهم ما هو وسط من عيشه وخالفه ابن القاسم فوافق الجمهور وذهب الكوفيون إلى أن الواجب إطعام نصف صاع والحجة للأول أنه صلعم أمر في كفارة المواقع في رمضان بإطعام مد لكل مسكين قال وإنما ذكر البخاري حديث كعب هنا من أجل التخيير فإنها وردت في كفارة اليمين كما وردت في كفارة الأذى وتعقبه ابن المنير فقال يحتمل أن يكون البخاري وافق الكوفيين في هذه المسألة فأورد حديث كعب بن عجرة لأنه وقع التنصيص في كعب على نصف صاع ولم يثبت في قدر طعام الكفارة فحمل المطلق على المقيد قلت ويؤيده أن كفارة المواقع ككفارة الظهار وكفارة الظهار ورد النص فيها بالترتيب بخلاف كفارة الأذى فإن النص ورد فيها بالتخيير وأيضاً فإنهما متفقان في قدر الصيام بخلاف الظهار فكان حمل كفارة اليمين عليها لموافقتها لها في التخيير أولى من حملها على كفارة المواقع مع مخالفتها وإلى هذا أشار ابن المنذر وقد يستدل لذلك بما أخرجه ابن ماجه عن ابن عباس قال ((كفر النبي صلعم بصاع من تمر وأمر الناس بذلك فمن لم يجد فنصف صاع من بر)) وهذا لو ثبت لم يكن حجةً لأنه لا قائل به وهو من رواية عمر بن عبد الله بن يعلى بن مرة وهو ضعيف جداً والذي يظهر لي أن البخاري أراد الرد على من أجاز في كفارة اليمين أن تبعض الخصلة من الثلاثة المخير فيها كمن أطعم خمسةً وكساهم أو كسا خمسةً غيرهم أو أعتق نصف رقبة وأطعم خمسةً أو كساهم وقد نقل ذلك عن بعض الحنفية والمالكية وقد احتج من ألحقها بكفارة الظهار بأن شرط حمل المطلق على المقيد أن لا يعارضه مقيد آخر فلما عارضه هنا والأصل براءة الذمة أخذ بالأقل وأيده الماوردي من حيث النظر بأنه في كفارة اليمين وصف بالأوسط وهو محمول على الجنس وأوسط ما يشبع الشخص رطلان من الخبز والمد رطل وثلث من الحب فإذا خبز كان قدر رطلين وأيضاً فكفارة اليمين وإن وافقت كفارة الأذى في التخيير لكنها زادت عليها بأن فيها ترتيباً لأن التخيير وقع بين الإطعام والكسوة والعتق والترتيب وقع بين الثلاثة وصيام ثلاثة أيام وكفارة الأذى وقع التخيير فيها الصيام أو الإطعام والذبح حسب قال ابن الصباغ ليس في الكفارات ما فيه تخيير وترتيب إلا كفارة اليمين وما لحق بها.