فتح الباري بشرح صحيح البخاري

كتاب المكاتب

          ░░50▒▒ قوله (في المكاتب) كذا لأبي ذر ولغيره <كتاب المكاتب> وأثبتوا كلهم البسملة والمكاتب بالفتح من تقع له الكتابة وبالكسر من تقع منه وكاف الكتابة تكسر وتفتح كعين العتاقة قال الراغب اشتقاقها من كتب بمعنى أوجب ومنه قوله تعالى {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} [البقرة:183] {إِنَّ الصَّلاَةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا} [النساء:103] أو بمعنى جمع وضم ومنه كتب الخط وعلى الأول تكون مأخوذةً من معنى الالتزام وعلى الثاني تكون مأخوذةً من الخط لوجوده عند عقدها غالبًا.
          قال الروياني الكتابة إسلامية ولم تكن تعرف في الجاهلية كذا قال وكلام غيره يأباه ومنه قول ابن التين كانت الكتابة متعارفة قبل الإسلام فأقرها النبي صلعم وقال ابن خزيمة في كلامه على حديث بريرة قيل إن بريرة أول مكاتبة في الإسلام وقد كانوا يكاتبون في الجاهلية بالمدينة وأول من كوتب من الرجال في الإسلام سلمان وقد تقدم ذكر ذلك في البيوع في باب البيع والشراء مع المشركين.
          وحكى ابن التين أن أول من كوتب أبو المؤمل فقال النبي صلعم ((أعينوه)) وأول من كوتب من النساء بريرة كما سيأتي حديثها في هذه الأبواب وأول من كوتب بعد النبي صلعم أبو أمية مولى عمر ثم سيرين مولى أنس واختلف في تعريف الكتابة وأحسنه تعليق عتق بصفة على معاوضة مخصوصة والكتابة خارجة عن القياس عند من يقول إن العبد لا يملك وهي لازمة من جهة السيد إلا إن عجز العبد وجائزة له على الراجح من أقوال العلماء فيهما.
          ░1▒ قوله (باب إثم من قذف مملوكه) كذا للجميع هنا إلا النسفي وأبا ذر ولم يذكر من أثبت هذه الترجمة فيها حديثًا ولا أعرف لدخولها في أبواب المكاتب معنىً ثم وجدتها في رواية أبي علي بن شبويه مقدمةً قبل كتاب المكاتب فهذا هو المتجه وعلى هذا فكأن المصنف ترجم بها وأخلى بياضًا ليكتب فيه الحديث الوارد في ذلك فلم يكتب كما وقع له في غيرها وقد ترجم في كتاب الحدود باب قذف العبد وأورد فيه حديث ((من قذف مملوكه وهو بريء مما قال جلد يوم القيامة)) الحديث فلعله أشار بذلك إلى أنه يدخل في هذه الأبواب. /
          قوله (باب المكاتب ونجومه في كل سنة نجم وقوله تعالى {وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ} الآية) ساقوها إلى قوله {الَّذِي آتَاكُمْ} [النور:33] إلا النسفي فقال بعد قوله (في كل سنة) <{وَآتُوهُم مِّن مَّالِ اللهِ الَّذِي آتَاكُمْ} [النور:33] > ونجم الكتابة هو القدر المعين الذي يؤديه المكاتب في وقت معين وأصله أن العرب كانوا يبنون أمورهم في المعاملة على طلوع النجوم والمنازل لكونهم لا يعرفون الحساب فيقول أحدهم إذا طلع النجم الفلاني أديت حقك فسميت الأوقات نجومًا بذلك ثم سمي المؤدى في الوقت نجمًا.
          وعرف من الترجمة اشتراط التأجيل في الكتابة وهو قول الشافعي وقوفًا مع التسمية بناءً على أن الكتابة مشتقة من الضم وهو ضم بعض النجوم إلى بعض وأقل ما يحصل به الضم نجمان وبأنه أمكن لتحصيل القدرة على الأداء وذهب المالكية والحنفية إلى جواز الكتابة الحالة واختاره بعض الشافعية كالروياني وقال ابن التين لا نص لمالك في ذلك إلا أن محققي أصحابه شبهوه ببيع العبد من نفسه واختار بعض أصحاب مالك أن لا يكون أقل من نجمين كقول الشافعي واحتج الطحاوي وغيره بأن التأجيل جعل رفقًا بالمكاتب لا بالسيد فإذا قدر العبد على / ذلك لا يمنع منه وهذا قول الليث وبأن سلمان كاتب بأمر النبي صلعم ولم يذكر تأجيلًا وقد تقدم ذكر خبره وبأن عجز المكاتب عن القدر الحال لا يمنع صحة الكتابة كالبيع في المجلس كمن اشترى ما يساوي درهمًا بعشرة دراهم حالةً وهو لا يقدر حينئذ إلا على درهم نفذ البيع مع عجزه عن أكثر الثمن وبأن الشافعية أجازوا السلم الحال ولم يقفوا مع التسمية مع أنها مشعرة بالتأجيل.
          وأما قول المصنف (في كل سنة نجم) فأخذه من صورة الخبر الوارد في قصة بريرة كما سيأتي التصريح به بعد باب ولم يرد المصنف أن ذلك شرط فيه فإن العلماء اتفقوا على أنه لو وقع التنجيم بالأشهر جاز ولم يثبت لفظ <نجم> في آخره في رواية النسفي واختلف في المراد بالخير في قوله {إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا} [النور:33] كما سيأتي بيانه بعد بابين وروى ابن إسحاق عن خاله عبد الله بن صبيح _بفتح المهملة_ عن أبيه قال كنت مملوكًا لحويطب بن عبد العزى فسألته الكتابة فأبى فنزلت {وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ} الآية [النور:33] أخرجه ابن السكن وغيره في ترجمة صبيح في الصحابة.
          قوله (وقال روح عن ابن جريج قلت لعطاء أواجب علي إذا علمت له مالًا أن أكاتبه قال ما أراه إلا واجبًا) وصله إسماعيل القاضي في «أحكام القرآن» قال حدثنا علي بن المديني حدثنا روح بن عبادة بهذا وكذلك أخرجه عبد الرزاق والشافعي من وجهين آخرين عن ابن جريج.
          قوله (وقال عمرو بن دينار قلت لعطاء تأثره عن أحد قال لا) هكذا وقع في جميع النسخ التي وقعت لنا عن الفربري وهو ظاهر في أن هذا الأثر من رواية عمرو بن دينار عن عطاء وليس كذلك بل وقع في الرواية تحريف لزم منه الخطأ والذي وقع في رواية إسماعيل المذكورة وقاله لي أيضًا عمرو بن دينار والضمير يعود على القول بوجوبها وقائل ذلك هو ابن جريج وهو فاعل (قلت لعطاء) وقد صرح بذلك في رواية إسماعيل حيث قال فيها بالسند المذكور قال ابن جريج وأخبرني عطاء وكذلك أخرجه عبد الرزاق والشافعي ومن طريقه البيهقي عن عبد الله بن الحارث كلاهما عن ابن جريج وقالا فيه وقالها عمرو بن دينار والحاصل أن ابن جريج نقل عن عطاء التردد في الوجوب وعن عمرو بن دينار الجزم به أو موافقة عطاء ثم وجدته في الأصل المعتمد من رواية النسفي عن البخاري على الصواب بزيادة الهاء في قوله وقال عمرو بن دينار ولفظه ((وقاله عمرو بن دينار)) أي القول المذكور.
          قوله (ثم أخبرني أن موسى بن أنس أخبره أن سيرين سأل أنسًا المكاتبة وكان كثير المال) القائل (ثم أخبرني) هو ابن جريج أيضًا ومخبره هو عطاء ووقع مبينًا كذلك في رواية إسماعيل المذكورة ولفظه قال ابن جريج وأخبرني عطاء أن موسى بن أنس بن مالك أخبره أن سيرين أبا محمد بن سيرين سأل فذكره ووقع في رواية عبد الرزاق عن ابن جريج أخبرني مخبر أن موسى بن أنس أخبره وقد عرف اسم المخبر من رواية روح وظاهر سياقه الإرسال فإن موسى لم يدرك وقت سؤال سيرين من أنس الكتابة وقد رواه عبد الرزاق والطبري من وجه آخر متصل من طريق سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن أنس قال أرادني سيرين على الكتابة فأبيت فأتى عمر بن الخطاب فذكر نحوه وسيرين المذكور يكنى أبا عمرة وهو والد محمد بن سيرين الفقيه المشهور وإخوته وكان من سبي عين التمر اشتراه أنس في خلافة أبي بكر وروى هو عن عمر وغيره وذكره ابن حبان في «ثقات التابعين». /
          قوله (فانطلق إلى عمر) زاد إسماعيل بن إسحاق في روايته فاستعداه عليه وزاد في آخر القصة فكاتبه أنس وروى ابن سعد من طريق محمد بن سيرين قال كاتب أنس أبي على أربعين ألف درهم وروى البيهقي من طريق أنس بن سيرين عن أبيه قال كاتبني أنس على عشرين ألف درهم فإن كانا محفوظين جمع بينهما بحمل أحدهما على الوزن والآخر على العدد ولابن أبي شيبة من طريق عبيد الله بن أبي بكر بن أنس قال هذه مكاتبة أنس عندنا هذا ما كاتب أنس غلامه سيرين كاتبه على كذا وكذا ألف وعلى غلامين يعملان مثل عمله واستدل بفعل عمر على أنه كان يرى بوجوب الكتابة إذا سألها العبد لأن عمر لما ضرب أنسًا على الامتناع دل على ذلك وليس ذلك بلازم لاحتمال أنه أدبه على ترك المندوب المؤكد وكذلك ما رواه عبد الرزاق أن عثمان قال لمن سأله الكتابة لولا آية من كتاب الله ما فعلت فلا يدل أيضًا على أنه كان يرى الوجوب.
          ونقل ابن حزم القول بوجوبها عن مسروق والضحاك زاد القرطبي وعكرمة وعن إسحاق بن راهويه مكاتبته واجبة إذا طلبها ولكن لا يجبر الحاكم السيد على ذلك وللشافعي قول بالوجوب وبه قال الظاهرية واختاره ابن جرير الطبري قال ابن القصار إنما علا عمر أنسًا بالدرة على وجه النصح لأنس ولو كانت الكتابة لزمت أنسًا ما أبى وإنما ندبه عمر إلى الأفضل.
          وقال القرطبي لما ثبت أن رقبة العبد وكسبه ملك لسيده دل على أن الأمر بكتابته غير واجب لأن قوله خذ كسبي وأعتقني يصير بمنزلة أعتقني بلا شيء وذلك غير واجب اتفاقًا ومحل الوجوب عند من قال به إذا كان العبد قادرًا على ذلك ورضي السيد بالقدر الذي تقع به المكاتبة وقال أبو سعيد الإصطخري القرينة الصارفة للأمر في هذا عن الوجوب الشرط في قوله {إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا} [النور:33] فإنه وكل الاجتهاد في ذلك إلى المولى ومقتضاه أنه إذا رأى عدمه لم يجبر عليه فدل على أنه غير واجب وقال غيره الكتابة عقد غرر فكان الأصل أن لا تجوز فلما وقع الإذن فيها كان أمرًا بعد منع والأمر بعد المنع للإباحة ولا يرد على هذا كونها مستحبةً لأن استحبابها ثبت بأدلة أخرى.
          ثم أورد المصنف قصة بريرة من عدة طرق في جميع أبواب الكتابة فأورد في هذه الترجمة طريق الليث عن يونس عن ابن شهاب عن عروة عن عائشة تعليقًا ووصله الذهلي في «الزهريات» عن أبي صالح كاتب الليث عن الليث والمحفوظ رواية الليث له عن ابن شهاب نفسه بغير واسطة وسيأتي في الباب الذي يليه عن قتيبة عن الليث وأخرجه مسلم أيضًا عن قتيبة وكذلك أخرجه النسائي والطحاوي وغيرهما من طريق ابن وهب عن رجال من أهل العلم منهم يونس والليث كلهم عن ابن شهاب وهذا هو المحفوظ أن يونس رفيق الليث فيه لا شيخه ووقع التصريح بسماع الليث له من ابن شهاب عند أبي عوانة من طريق مروان بن محمد وعند النسائي من طريق ابن وهب كلاهما عن الليث وقد وقع في هذه الرواية المعلقة أيضًا مخالفة للروايات المشهورة في موضع فيه نظر وهو قوله في المتن ((وعليها خمس أواقي نجمت عليها في خمس سنين)) والمشهور ما في رواية هشام بن عروة الآتية بعد بابين عن أبيه أنها كاتبت على تسع أواق في كل عام أوقيةً وكذا في رواية ابن وهب عن يونس عند مسلم وقد جزم الإسماعيلي بأن الرواية المعلقة غلط ويمكن الجمع بأن التسع أصل والخمس كانت بقيت عليها وبهذا جزم القرطبي والمحب الطبري ويعكر عليه قوله في رواية قتيبة ولم تكن أدت من كتابتها شيئًا ويجاب بأنها كانت حصلت الأربع أواق قبل أن تستعين عائشة ثم جاءتها وقد بقي عليها خمس.
          وقال القرطبي: / يجاب بأن الخمس هي التي كانت استحقت عليها بحلول نجومها من جملة التسع الأواقي المذكورة في حديث هشام ويؤيده قوله في رواية عمرة عن عائشة الماضية في أبواب المساجد فقال أهلها إن شئت أعطيت ما تبقى وذكر الإسماعيلي أنه رأى في الأصل المسموع على الفربري في هذه الطريق ((أنها كاتبت على خمسة أوساق)) وقال إن كان مضبوطًا فهو يدفع سائر الأخبار.
          قلت لم يقع في شيء من النسخ المعتمدة التي وقفنا عليها إلا بلفظ الأواقي وكذا هو في نسخة النسفي عن البخاري وكان يمكن على تقدير صحته أن يجمع بأن قيمة الأوساق الخمسة تسع أواق لكن يعكر عليه قوله ((في خمس سنين)) فيتعين المصير إلى الجمع الأول وقوله في هذه الرواية ((فقالت عائشة ونفست فيها)) هو _بكسر الفاء_ جملة حالية أي رغبت.