فتح الباري بشرح صحيح البخاري

أبواب المحصر

          (♫)
          ░░27▒▒ (أبواب المحصر وجزاء الصيد)
          ثبتت البسملة للجميع وذكر أبو ذر: <أبواب>بلفظ الجمع وللباقين: <باب> بالإفراد.
          قوله: (وقول الله تعالى: فإن أحصرتم) أي وتفسير المراد من قوله: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ} [البقرة:196] وأما قوله: {وَلاَ تَحْلِقُواْ} فسيأتي في الباب الذي يليه وفي اقتصاره على تفسير عطاء إشارة إلى أنه اختار القول بتعميم الإحصار وهي مسألة اختلاف بين الصحابة وغيرهم فقال كثير منهم: الإحصار من كل حابس حبس الحاج من عدو ومرض وغير ذلك حتى أفتى ابن مسعود رجلًا لدغ بأنه محصر أخرجه ابن جرير بإسناد صحيح عنه وقال النخعي والكوفيون: الحصر الكسر والمرض والخوف واحتجوا بحديث حجاج بن عمرو الذي سنذكره في آخر الباب وأثر عطاء المشار إليه وصله عبد بن حميد عن أبي نعيم عن الثوري عن ابن جريج عنه قال في قوله تعالى: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة:196] قال: الإحصار من كل شيء يحبسه وكذا رويناه في «تفسير الثوري» رواية أبي حذيفة عنه.
          وروى ابن المنذر من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس نحوه ولفظه: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ} [البقرة:196] قال: من أحرم بحج أو عمرة ثم حبس عن البيت بمرض يجهده أو عدو يحبسه فعليه ذبح ما استيسر من الهدي فإن كانت حجة الإسلام فعليه قضاؤها وإن كانت حجةً بعد الفريضة فلا قضاء عليه.
          وقال آخرون: لا حصر إلا بالعدو صح ذلك عن ابن عباس أخرجه عبد الرزاق عن معمر وأخرجه الشافعي عن ابن عيينة كلاهما عن ابن طاوس عن أبيه عن ابن عباس قال: لا حصر إلا من حبسه عدًو فيحل بعمرة وليس عليه حج ولا عمرة وروى مالك في «الموطأ» والشافعي عنه عن ابن شهاب عن سالم عن أبيه قال: من حبس دون البيت بالمرض فإنه لا يحل حتى يطوف بالبيت وروى مالك عن أيوب عن رجل من أهل البصرة قال: خرجت إلى مكة حتى إذا كنت بالطريق كسرت فخذي فأرسلت إلى مكة وبها عبد الله بن عباس / وعبد الله بن عمر والناس فلم يرخص لي أحد في أن أحل فأقمت على ذلك الماء تسعة أشهر ثم حللت بعمرة وأخرجه ابن جرير من طرق وسمى الرجل يزيد بن عبد الله بن الشخير وبه قال مالك والشافعي وأحمد قال الشافعي: جعل الله على الناس إتمام الحج والعمرة وجعل التحلل للمحصر رخصةً وكانت الآية في شأن منع العدو فلم نعد بالرخصة موضعها.
          وفي المسألة قول ثالث حكاه ابن جرير وغيره وهو أنه لا حصر بعد النبي صلعم وروى «الموطأ» عن ابن شهاب عن سالم عن أبيه: المحرم لا يحل حتى يطوف أخرجه في باب ما يفعل من أحصر بغير عدو وأخرج ابن جرير عن عائشة بإسناد صحيح قالت: لا أعلم المحرم يحل بشيء دون البيت وعن ابن عباس بإسناد ضعيف قال: لا إحصار اليوم وروي ذلك عن عبد الله بن الزبير والسبب في اختلافهم في ذلك اختلافهم في تفسير الإحصار فالمشهور عن أكثر أهل اللغة منهم الأخفش والكسائي والفراء وأبو عبيدة وأبو عبيد وابن السكيت وثعلب وغيرهم أن الإحصار إنما يكون بالمرض وأما بالعدو فهو الحصر وبهذا قطع النحاس وأثبت بعضهم أن أحصر وحصر بمعنًى واحد يقال: في جميع ما منع الإنسان من التصرف قال الله تعالى: {لِلْفُقَرَاء الَّذِينَ أُحصِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الأَرْضِ} [البقرة:273] وإنما كانوا لا يستطيعون من منع العدو إياهم وأما الشافعي ومن تابعه فحجتهم في أن لا إحصار إلا بالعدو واتفاق أهل النقل على أن الآيات نزلت في قصة الحديبية حين صد النبي صلعم عن البيت فسمى الله صد العدو إحصارًا وحجة الآخرين التمسك بعموم قوله تعالى: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ} [البقرة:196] .
          قوله: (قال أبو عبد الله: {حَصُورًا} [آل عمران:39] لا يأتي النساء) هكذا ثبت هذا التفسير هنا في رواية المستملي خاصةً ونقله الطبري عن سعيد بن جبير وعطاء ومجاهد وقد حكاه أبو عبيدة في «المجاز» وقال: إن له معاني أخرى فذكرها وهو بمعنى محصور لأنه منع مما يكون من الرجال وقد ورد فعول بمعنى مفعول كثيرًا وكأن البخاري أراد بذكر هذه الآية الإشارة إلى أن المادة واحدة والجامع بين معانيها المنع والله أعلم. /