التلويح إلى معرفة ما في الجامع الصَّحيح

حديث: أن فاطمة سألت أبا بكر الصديق بعد وفاة رسول الله

          3092- 3093- قوله: (أَنَّ فَاطِمَةَ ابْنَةَ رَسُولِ اللهِ صلعم سَأَلَتْ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيْقَ أَنْ يَقْسِمَ لَهَا مِيرَاثَهَا مِمَّا تَرَكَ رَسُولُ اللهِ صلعم) (مَا تَرَكَ) بيان أو بدل لميراثها.
          قوله: (فَقَالَ لَهَا: إِنَّ رَسُولَ اللهِ صلعم قَالَ: لاَ نُورَثُ) بفتح الرَّاء، والمعنى على الكسر صحيح، ولعلَّ الحكمة فيه أنَّه لا يُؤمَنُ أن يكون في الورثة من يتمنَّى موته فيهلكا، وحتَّى لا يُظَنَّ بهم الرغبة في الدُّنيا لوراثتهم فينفر النَّاس عنهم، أو هو لأنَّهم كالآباء للأمَّة، فمالهم لكل أولادهم، وهو معنى الصدقة، قال عفيف بن مسعود الكازروني في كتابه «مقاصد التنقيح»: قال في «الكاشف»: (لَا نُوْرَثُ) أصله: لا يورث منَّا فحذف منَّا فاستتر ضمير المتكلِّم في الفعل فانقلب الفعل من لفظ الغائب إلى لفظ المتكلم، كما في قوله: {لَا أَبْرَحُ حتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ}[الكهف:60] في وجهٍ.وقوله تعالى: {يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ}[يوسف:12] أي: لا نبرح مسرى ونرتع إبلنا، فلمَّا حُذِفَ المضاف وأُقِيْمَ المضاف إليه مقامه انقلب الفعل من الغيبة إلى المتكلِّم، قال في «الكشَّاف»: وهو وجه لطيف.
          قوله: (مَا تَرَكْنَا صَدَقَةٌ) جملة مستأنفة، كأنَّه لما قيل لا نورث، قيل فما تفعلون بتركتكم؟، فأُجِيْبَ: (مَا تَرَكْنَا صَدَقَةٌ).قال المالكي: (مَا) في قوله: (مَا تَرَكْنَا / صَدَقَةٌ) موصولة (1) بمعنى الَّذي مبتدأ، و(تَرَكْنَا) صلة له، والعائد محذوف، أي: ما تركناه، و(صَدَقَةٌ) مرفوع خبر الَّذي، وهذا هو الأجود، ولموافقته لرواية: ((فهو صدقة))، وذهب النَّحاس إلى أنَّه يصحُّ نصبه، وقد رُوِيَ بالنَّصب، والتَّقدير ما تركناه مبذول صدقة، فحُذِفَ الخبر وبقي الحال كالعرض منه، ونظيره قراءة بعضهم: {ونحن عصبة} بالنَّصب، والنَّحاس جعل نصبه على الحال.واستنكره القاضي لتأييده مذهب الشيعة.
          قوله: (فَهَجَرَتْ أَبَا بَكْرٍ، وَلَمْ تَزَلْ (2) مُهَاجِرَتَهُ حَتَّى تُوفِّيَتْ) معنى هجرانها لأبي بكر انقباضها عنه لغايةٍ لا الهجران المحرَّم الَّذي هو ترك الكلام والسَّلام والإعراض عند اللِّقاء، حاشاها من ذلك، وقال الكرماني: إنَّ غضبها عَلَيْه على مقتضى البشرية وسكن بعد ذلك .انتهى.
          وقوله في الحديث: (فَلَمْ تَزَلْ مُهَاجِرَتَهُ حتَّى تُوفِّيَتْ) بتاء فيه، فالأظهر الأوَّل.قال: أو الحديث كان عندها متأوَّلًا بما فضل عن معاش الورثة وضروراتهم ونحوها، ثم قال: وأمَّا هجرانها فمعناه انقباضها عن لقائه إلى آخر ما قدَّمناه.
          قال: ولفظ (مُهَاجِرَتَهُ) بصيغة الفعل لا المصدر، وقال المهلَّب: وجه هجرانها لأبي بكر أنَّه لم يكن عندها قوله: (مَا تَرَكْنَا صَدَقَةٌ) ولا أعلمه ثم أنفت أن لا تكون ترث أباها كما ترث النَّاس في الجاهلية والإسلام، مع احتمال الحديث عندها أنَّه أراد بذلك بعض المال دون بعض أو أنَّه لم يرد الأصول والعقار، فلمَّا علمت انقادت وسلَّمت للحديث.قال: وإنَّما لازمت بيتها فعبَّر الرَّاوي عنه بالهجران، هذا وجه هجرانها له لكنها وجدت عَلَيْه أن حرمها ما لم يحرم أحدٌ، ولسنا نظنُّ بها إضمار الشحناء والعداوة، وهم كما وصفهم الله تعالى: {رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ}[الفتح:29].
          قلت: ورأيت عن بعض الفضلاء قيل في قول الرَّاوي: (فهجرته) أنَّها لم تعلمه في أمر التركة وطلب الميراث من ذلك، وهو حسن لو كان في لفظ الحديث: فلم تكلِّمه، بل فيه (فَلَمْ تَزَلْ مُهَاجِرَتَهُ حتَّى تُوفِّيَتْ) والله أعلم.
          قوله: (وَعَاشَتْ بَعْدَ رَسُولِ اللهِ صلعم ستَّة أَشْهُرٍ) هذا هو الصَّحيح المشهور، وقيل ثمانية أشهر، وقيل ثلاثة، وقيل سبعين يومًا، وقيل شهرين.فعلى الصَّحيح قالوا: تُوفِّيَتْ لثلاث مضين من رمضان سنة إحدى عشرة.
          قوله: (قَالَتْ: وَكَانَتْ فَاطِمَةُ) أي: قالت عائشة، وكانت فاطمة، وفي بعضها: (قال: أي: عروة) وحينئذ يكون مرسلًا؛ لأنَّ عروة لم يلق فاطمة ♦.
          قوله: (وَكانت سَأَلته (3) نَصِيبَهَا من فَدَكٍ) بفتح الفاء والدَّال المهملة، اسم قرية بالصرف وعدمه، قال القاضي: (فَدَك) مدينة بينها وبين المدينة يومان، وقيل ثلاث مراحل.
          قوله: (وَصَدَقَتَهُ) هي بالجرِّ والنَّصب، والمراد / بصدقته بالمدينة أملاكه الَّتي كانت بها وصارت بعده صدقة، قال النَّووي: فسَّر القاضي عياض صدقات النَّبيِّ صلعم المذكورة في الأحاديث صارت إليه بثلاثة حقوق، إحداها: ما وُهِبَ له، وذلك وصيَّة مخيريق له عند إسلامه، وكانت سبعة حوائط في بني النضير، وما أعطاه الأنصار من أرضهم وهو ما لا يبلغه الماء، وكان هذا ملك له، والثاني حقُّه من الفيء من أرض بني النضير حين أجلاهم، كانت له خاصَّة يخرجها في نوائب المسلمين، وكذا نصف أرض فدك، صالح أهلها بعد خيبر على نصف أرضها وكانت خالصًا له، وكذا ثلث أرض وادي، الَّذي أخذه حين مصالحة أهلها، وكلذلك حصنان من حصون خيبر أخذهما صلحًا.الثالث سهمه من خمس خيبر وما افتتح منها عنوة، وكانت هذه كلُّها ملك رسول الله صلعم لا حقَّ فيها لأحد غيره، لكنه صلعم كان لا يستأثر بها؛ بل ينفقها على أهله والمسلمين والمصالح العامة، وكل هذه صدقات محرَّمة التَّملك بعده.
          قوله: (فإني أَخْشَى إِنْ تَرَكْتُ شَيْئًا مِنْ أَمْرِهِ أَنْ أَزِيغَ) (الزَّيغ) الميل.خاف الصِّدِّيق ☺ أن يميل عن الحقِّ إلى غيره.
          قوله: (فَكَانَتْ لِحُقُوقِهِ الَّتي تَعْرُوهُ) أي: تنزل به وتصيبه وتغشاه وتعرض له.يُقَالُ عراه يعروه إذا قصده طلبًا لحاجته، والنوائب الجوائح الَّتي تنزل به.


[1] في الأصل:((مصولة)).
[2] صورتها في الأصل:((تترك)).
[3] صورتها في الأصل:((سأله)).