التلقيح لفهم قارئ الصحيح

باب من رد أمر السفيه والضعيف العقل وإن لم يكن حجر عليه الإمام

          قوله: (بَابُ مَنْ رَدَّ أَمْرَ السَّفِيهِ وَالضَّعِيفِ الْعَقْلِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ حَجَرَ عَلَيْهِ الإِمَامُ): سرد ابن المُنَيِّر ما في هذا الباب والذي بعده، ثمَّ قال: (هذه التَّرجمة وما ساقه معها من محاسنه اللَّطيفة، وذلك أنَّ العلماء اختلفوا في سفيه الحال قبل الحكم هل تُرَدُّ عقودُه، واختلف قولُ مالك في ذلك، فاختار البخاريُّ ردَّها، واستدلَّ بحديث المُدَبَّر، وذكر قولَ مالك في ردِّ عتق المِدْيَان قبل الحجر إذا أحاط الدَّين بماله، ويلزم مالكًا ردُّ أفعال سفيه الحال؛ لأنَّ الحجر في المِدْيان مُطَّرد، ثمَّ فهم البخاريُّ أنَّه يَرِدُ عليه حديثَ حَبَّان بن منقذ، فإنَّ النَّبيَّ صلعم اطَّلع على أنَّه يُخدَع في البيوع، وأمضى أفعاله الماضية والمستقبلة، فنبَّه على أنَّ الذي تردُّ أفعاله هو الظَّاهرُ السَّفَهِ، البيِّنُ الإضاعةِ؛ كإضاعة صاحب المُدَبَّر، والتَّفصيل بين الظاهر السَّفَه والخفيِّ أحدُ أقوال مالك أيضًا، وأنَّ المخدوع في البيوع يمكنه الاحتراز، وقد نبَّهه النَّبيُّ صلعم، ثمَّ فهم أنَّه يَرِدُ عليه كونُ النَّبيِّ صلعم أعطى صاحب المُدَبَّر ثمَنه، ولو كان منعه لأجل السَّفَه، لما سَلَّم إليه الثَّمن، فنبَّه على أنَّه إنَّما أعطاه بعد أن علَّمه طريقَ الرشد، وأمره(1) بالإِصلاح والقيام بشأنه، وما كان السَّفه حينئذٍ فسقًا، وإنَّما نشأ من الغفلة وعدم البصيرة بمواقع(2) المصالح، فلما بيَّنها له، كفاه ذلك، ولو ظهر للنَّبيِّ صلعم مِن حاله بعد ذلك أنَّه لم يتنبَّه، لم يرشد؛ لمَنَعَه التَّصرُّف مطلقًا، وحجر عليه حجرًا مطَّردًا، وقد أغنى البخاريُّ الشَّارحَ بإشارته عن التَّطويلات البعيدة عن مقصود «الجامع»، فتأمَّلها)، انتهى.
          قوله: (وَيُذْكَرُ عَنْ جَابِرٍ: أَنَّ النَّبيَّ صلعم رَدَّ عَلَى الْمُتَصَدِّقِ قَبْلَ النَّهْيِ، ثمَّ نَهَاهُ): كذا ذكره بصيغة تمريض، و(يُذكَر): مبنيٌّ لما لم يُسَمَّ فاعله.
          واعلم أنَّ ابنَ الصلاح أبا عَمرو ☼ قال: (إنَّ المعلَّقَ إن كان مجزومًا به، فقد حكم بصحَّته عمَّن علَّقه عنه، وما لم يكن مجزومًا به، فليس فيه حكمٌ [منه] بصحَّته)، فاعتُرِض على ذلك بأنَّ البخاريَّ قد يُورِد الشَّيءَ بصيغة التَّمريض، ثمَّ يُخرِجه في «صحيحه» مسنَدًا، ويجزم بالشَّيء وقد يكون لا يصحُّ، ثمَّ استدلَّ المعترضُ بأنَّ البخاريَّ قال في (كتاب الصَّلاة): (ويُذكر عن أبي موسى: كنا نتناوبُ النَّبيَّ صلعم عند صلاة العشاء) [خ¦9/20-907]، ثمَّ أسنده في (باب فضل العشاء) [خ¦567]، وذكر مكانًا آخَرَ من (كتاب الطبِّ) [خ¦76/33-8539]، وهذا المكانَ في (كتاب الإشخاص): (ويُذكر عن جابر: أنَّ النَّبيَّ صلعم رَدَّ على المتصدِّق صدقته)، قال: وهو حديثٌ صحيحٌ عنده: (دبَّر رجلٌ عبدًا ليس له مالٌ غيره، فباعه النَّبيُّ صلعم من نُعَيم بن النَّحَّام) [خ¦2415]، وذكر مكانًا آخَرَ في (كتاب الطلاق)، ومكانًا آخَرَ من (كتاب التوحيد) [خ¦7428].
          وجوابُه: أنَّ ابنَ الصلاح لم يقل: إنَّ صيغة التَّمريض لا تُستعمَل إلَّا في الضَّعيف، بل في كلامه أنَّها تُستعمَل في الصحيح أيضًا، ألَا ترى إلى قوله: (لأنَّ مثل هذه العبارات تُستعمَل في الحديث الضعيف أيضًا)، فقوله: (أيضًا) دالٌّ على أنَّها تُستعمَل في الصحيح أيضًا، فاستعمال البخاريِّ [لها] في موضع الصحيح ليس مخالفًا لكلام ابن الصَّلاح، والبخاريُّ إنَّما أتى به بصيغة تمريضٍ في هذه الأمثلة؛ لغرضٍ آخرَ غير الضَّعف، وهو إذا اختصر الحديث فأتى به بالمعنى، عبَّر بصيغة التَّمريض؛ لوجود الخلافِ المشهور في جواز الروايةِ بالمعنى، والخلافِ أيضًا في جواز اختصار الحديث، وإن رأيت أن يتَّضح ذلك لك؛ فقابِلْ بين موضع التَّعليق وموضع الإسناد، تجدْ ذلك واضحًا.
          وأمَّا ما نحن فيه من قوله: (ويُذكَر عن جابر...) إلى آخره، هو بغير لفظ بيع العبد المُدَبَّر، بل يقال أيضًا: إنَّ البخاريَّ لم يُرِد بِرَدِّ الصَّدقة حديثَ جابرٍ المذكورَ في بيع المُدَبَّر [خ¦2415]، وإنَّما أراد _والله أعلم_ حديثَ جابر في الذي دخل والنَّبيُّ صلعم يخطب، فأمرهم فتصدَّقوا عليه، فجاء في الجمعة الثانية، فأمر النَّبيُّ صلعم بالصَّدقة، فقام ذلك المتصدَّق عليه، فتصدَّق بأحد ثوبيه، فردَّه عليه النَّبيُّ صلعم، وهو حديثٌ ضعيفٌ رواه الدَّارقطنيُّ، والله أعلم، وقد قَدَّمتُ شيئًا من ذلك عند ذكر حديث أبي موسى: (كنَّا نتناوبُ النَّبيَّ صلعم عند صلاة العشاء) [خ¦9/20-907].


[1] في (ب): (وعلمه أمره).
[2] في (ب): (بموانع).