مصابيح الجامع الصحيح

باب ما جاء في قول الله تعالى: {فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في}

          ░1▒ الآيات التي ذكرها البخاري ظاهرة في إباحة التجارة، إلا قوله: {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً} [الجمعة:11]، فإنها عُتب عليها، وهي أدخل في النهي منها في الإباحة لها، لكن مفهوم النهي عن تركه قائمًا اهتمامًا، أنها تشعر أنها لو خلت من المعارض الراجح لم تدخل في العتب، بل كانت حينئذٍ مباحة.
          فائدة: لما فرغ من معاملة العبد مع الخالق، ذكر بعده معاملة العبد مع الخلق؛ فقال: كتاب «البيع»، وذكر تراجم بيوع الأعيان، ثم بيع دين على وجه مخصوص وهو السَلَم، وكان البيع قد يقع قهريًا، فذكر الشفعة التي هي بيع قهري.
          ولما تم الكلام على بيوع العين والدين الاختياري والقهري، وكان ذلك قد يقع غبن من أحد الجانبين؛ إما في ابتداء العقد أو في مجلس العقد، وكان في البيوع ما يقع على دينين: لا يجب فيهما قبض في المجلس، ولا تعيين أحدهما؛ وهو الحوالة، فذكرها، وكانت الحوالة فيها انتقال الدين من ذمة إلى ذمة، أردفها بما يقتضي ضم ذمة إلى ذمة، أو ضم شيء يحفظ به العُلْقة وهو الكفالة والضمان، وكان الضمان شُرِع للحفظ، فذكر الوكالة التي هي حفظ المال، وكانت الوكالة فيها توكيل على آدمي؛ فأردفها بما فيه التوكل على الله تعالى، فقال: (كتاب الحرث والمزارعة)، وذكر فيها متعلقات الأرض والموات والغرس والشرب وتوابع ذلك، وكان في كثير من ذلك يقع الإرفاق، فعقبه بكتاب الاستقراض؛ لما فيه من الفضل والإرفاق، ثم ذكر العبد في مال سيده، ولا يعمل إلا بإذنه للإعلام بمعاملة الأرقاء.
          ولما تمت المعاملات كان لا بدَّ أن يقع فيها منازعات؛ فذكر الإشخاص والملازمة والالتقاط، وكان الالتقاط وضع اليد بالأمانة الشرعية، فذكر بعده وضع اليد بغيرها، وهو المظالم والغصب، وعقَّبه بما يظن فيه غصب ظاهر وهو حق شرعي، فذكر وضع الخشب في جَدْر الجار، وصب الخمر في الطريق والجلوس في الأفنية، والآبار في الطريق، وذكر في ذلك الحقوق المشتركة، وقد يقع للاشتراك بنُهْبى فترجم: النُّهْبى بغير إذن صاحبه، ثم ذكر بعد الحقوق المشتركة الحقوق العامة للاشتراك الخاص؛ فذكر كتاب الشركة ومكان نفعها.
          ولما كانت هذه المعاملات في مصالح الخلق؛ ذكر شيئًا يتعلق بمصالح المعاملة وهو الرهن، وكان الرهن يحتاج إلى فكِّ رقبة، وهو جائز من جهة المرتهن، لازم من جهة الرهن؛ أردفه بالعتق الذي هو فكُّ الرقبة، والملك الذي يترتب عليه العتق جائز من جهة السيد، لازم من جهة العبد؛ فذكر متعلقات العتق من التدبير والولاء وأم الولد، والإحسان إلى الرقيق وأحكامهم ومكاتباتهم، ولما كانت الكتابة تستدعي إيتاء بقوله تعالى: {وَآتُوهُمْ} [النور:33]؛ فأردفه بكتاب الهبة، وذكر معها العمرى والرقبى، ولما كانت الهبة نقل ملك الرقبة بلا عوض؛أردفه بنقل ملك المنفعة بلا عوض، وهي العارية والمنيحة إلى آخر الكلام، وهو مفرق في كتابي هذا على إمكانه.