التلويح إلى معرفة ما في الجامع الصَّحيح

باب: إذا قالوا صبأنا ولم يحسنوا أسلمنا

          ░11▒ (بَابُ إِذَا قَالُوا صَبَأنَا وَلَمْ يُحْسِنُوا أَسْلَمْنَا)
          قوله: (وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: فَجَعَلَ خَالِدٌ يَقْتُلُ، فَقَالَ النَّبيُّ صلعم : أَبْرَأُ إِلَيْكَ مِمَّا صَنَعَ خَالِدٌ) هذا التَّعليق أسنده في المغازي فقال: (حَدَّثَنِي مَحْمُودٌ، أخبرنا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَالِمٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: بَعَثَ النَّبيُّ صلعم خَالِدَ بْنَ الوَلِيدِ إِلَى بَنِي خُزَيْمَةَ، فَدَعَاهُمْ إِلَى الإِسْلاَمِ، فَلَمْ يُحْسِنُوا أَنْ يَقُولُوا: أَسْلَمْنَا، فَجَعَلُوا يَقُولُونَ: صَبَأنا، فَجَعَلَ خَالِدٌ يَقْتُلُ وَيَأْسِرُ، فلمَّا ذُكِرَ ذلك للنَّبيِّ صلعم قال): ((اللهُمَّ إِنِّي أَبْرَأُ / إِلَيْكَ مِمَّا صَنَعَ خَالِدٌ مَرَّتَيْنِ)).ومقصود البخاري منه لفظ (صَبَأنَا) ولم يذكرها، وكأنَّه أحال على أصله.
          قوله: (وَقَالَ عُمَرُ: إِذَا قَالَ مَرَّتَيْنِ فَقَدْ آمَنَهُ، اللهَ يَعْلَمُ الأَلسِنَةَ كُلَّهَا، أو قَالَ: تَكَلَّمْ لاَ بَأْسَ) هذا الأثر عن عمر أخرجه مالك في «الموطَّأ» عن رجل من أهل الكوفة عنه، أنَّه كتب إلى عامله حين كان بعثه: أنَّه بلغني أنَّ رجالًا منكم يطلبون العلج إذا اشتدَّ في الجبل وامتنع.قال رجل: مترس.وفي رواية: مطرس.يقول: لا تخف، فإذا أدركه قتله، وإنِّي والَّذي نفسي بيده، لا أعلم أحدًا فعل ذلك إلا ضربت عنقه.قال مالك: وليس على هذا العمل أي: في قتله المسلم بالكافر، وعليه العمل في جواز الباقين؛ قاله ابن بطَّال، ورواه البيهقي من حديث الأعمش عن أبي وائل قال: جاءنا كتاب عمرو: إذا قال الرَّجل للرَّجل: لا تخف فقد أمَّنه، وإذا قال: مترس فقد أمَّنه، فإنَّ الله يعلم الأَلْسِنَةَ.وفي رواية له: وإذا قال: لا تذهل؛ فقد أمَّنه، فإنَّ الله يعلم الأَلْسِنَةَ.
          وأخرج ابن أبي شيبة عن مروان بن معاوية عن أنس قال: حاصرنا تستر فنزل الهرمزان على حكم عمر بن الخطَّاب، فلمَّا قدم عَلَيْه استعجم؛ فقال له عمر: تكلَّم لا بأس عليك، فكان ذلك عهدًا وتأمينًا من عمر.ومقصود البخاري من ترجمة الباب أنَّ من لا يحسن العربية تقوم لغته عمَّا يريده مقامها، فإذا قال العجمي صبأنا؛ وأراد بذلك أسلمنا، فقد حقن بها دمه ووجب له الأمان، ألا ترى قول عمر: مترس.
          ولا خلاف بينهم أنَّ من أمَّن حربيًّا فأتى بكلام يفهم به الأمان فقد لزم الأمان وتمَّ وحرم القتل.وأكثرهم يجعلون الإشارة بالأمان أمانًا، وهو قول الشافعي ومالك وجماعة.
          ولم يفهم خالد ☺ من قولهم: (صَبَأْنَا) أنَّهم يريدون به أسلمنا، ولكن حمل اللَّفظة على ظاهرها وتأوَّلها أنَّها في معنى الكفر، فلذلك قتلهم ثم تبيَّن أنَّهم إنَّما أرادوا بها أسلمنا فجهلوا فقالوا: صبأنا.وإنَّما قالوا ذلك لأنَّ قريشًا كانت تقول لمن أسلم مع رسول الله صلعم صبأ فلان حتَّى صارت هذه اللَّفظة معروفة عند الكفَّار وعادة جارية، فقالها هؤلاء القوم، فتأوَّلها خالد على وجهها، فعذره الشَّارع بتأويله، ولم يقد منه.
          قلت: والأحسن في الاعتذار عن خالد ☺ أنَّهم لما قالوا: (صَبَأْنَا) عُلِمَ أنَّ معنى الصَّابئ هو الخارج من دين إلى دين آخر، فظنَّ خالد أنَّهم يريدون الخروج إلى دين غير دين الإسلام من يهوديَّة أو نصرانيَّة أو غيرهما؛ ولم يكن هذا القول صريحًا منهم في الانتقال إلى دين الإسلام / فنفَّذ فيهم القتل، إذ لم يُوجَدُ شريطة حقن الدم تصريح الاسم، ولمَّا احتمل أنَّهم عدلوا عن اسم الإسلام إلى الصَّبأ، لكونهم لم يكونوا يحسنون لفظ (أَسْلَمْنَا) أنكر النَّبيُّ صلعم على خالد وقال: ((اللهم إنِّي أبرأ إليك)) وتعديته بـ إلى لتضمُّنه معنى أُنهِي؛ أي: أُنهِي إليك براءتي وعدم رضاي بما فعل خالد من القتل.
          تنبيه: (مَتْرَسْ) بفتح الميم والتَّاء المثناة من فوق وتشديدها وإسكان الرَّاء وبفتح الميم وإسكان التاء وفتح الرَّاء، وهي كلمة فارسيَّة ومعناها: لا تخف.قال القاضي: ضبطه الأصيلي بفتح التاء وسكون الرَّاء وآخره سين مهملة، وفتح غيره الرَّاء، وكذا رواه في «الموطَّأ»: مطرس (1) بفتح الرَّاء وسكون التاء وتشديد الرَّاء لابن بكير وابن وهب والقعنبي، وضبطه ابن الوليد عن أبي ذرٍّ وأهل خراسان يقولون بفتح التاء غير مشدَّد.وجاء في «الموطَّأ» بلا طاء وتخفيفها معًا، وعند ابن عبس بفتح الرَّاء، والصَّواب بالتَّاء والطَّاء.انتهى.
          آخر: رأيت عن الخطَّابي بعد أن كتبت ما قدَّمته أنَّ الشَّارع إنَّما نقم على خالد استعجاله لأنَّ الصَّبأ مقتضاه الخروج من دين إلى دين، أو يحتمل أن يكون خالدٌ إنَّما لم يكفَّ عن قتالهم ظنًّا منه أنَّهم إنَّما عدلوا عن اسم الإسلام إلى صبأنا أنَّه من الاستسلام والانقياد فلم ير ذلك إقرارًا (2) بالدين.يُقَالُ صبأ فهو صابئ وهم الصابئون، وذلك لأنَّ الصَّابئة خرجوا من اليهودية إلى النَّصرانية، وقيل إنَّما يُقَالُ صبا يصبو بغير همز فهو صابي بالهمز.وقول عمر: ما صبوت.يدلُّ على ترك الهمز، ويجوز أن يكون ذلك على تخفيف الهمز، ذكره القزاز.وفي «المحكم» أنَّهم يزعمون أنَّهم على دين نوح فكذَّبهم وقتلهم.


[1] في الأصل:((مطرف)).
[2] في الأصل:((إقرار)).