التلقيح لفهم قارئ الصحيح

باب ذكر الدجال

          قوله: (بَابُ ذِكْرِ الدَّجَّالِ): فائدةٌ: ذكر الإمام السُّهَيليُّ في «روضه» ما لفظه: (ومِن أغربها _أي: أغرب الأحاديث الواردة في المهديِّ_ ما ذكره أبو بكر الإسكاف في «فوائد الأخبار» مُسنَدًا إلى مالك ابن أنس عن مُحَمَّد بن المنكدر عن جابر ☺: قال رسولُ الله صلعم: «من كذَّب بالدَّجَّال؛ فقد كفر، ومن كذَّب بالمهديِّ؛ فقد كفر»، وقال في طلوع الشَّمس من مغربها مثل ذلك، فيما أحسب) انتهى كلام السُّهَيليِّ.
          (الدَّجَّال): هو المسيح الكذَّاب، سُمِّي دجَّالًا؛ لتمويهه، والدَّجَل: التمويه والتَّغطية، دجل فلان؛ إذا موَّه، ودجل الحقَّ؛ غطَّاه بباطله، وحكى ابنُ فارس عن ثعلب نحوَ ما ذكرتُه، وحكى عنه غيره: أنَّه سُمِّي دجَّالًا؛ لكذبه، وكلُّ كاذب دجَّال، وجمعه: دجَّالون، وقد وقع من كلام مالك بن أنس الإمامِ المجتهدِ في حقِّ مُحَمَّد بن إسحاق بن يسار إمامِ أهل المغازي: أنَّه دجَّال مِن الدَّجاجلة.
          و(المسيح الدَّجال): اختُلِف في ضبطه، ولِمَ سُمِّي مسيحًا، فمن أراد الوقوف عليه؛ فلينظر «تذكرة القرطبيِّ»، فإنَّه ذكر فيه أقوالًا عشرة، ولفظه: («الدَّجَّال»: ينطلق على عشرة وجوه...)؛ فذكرها، وأمَّا لفظه في (المَسِيح)؛ فقال أيضًا في «تذكرته»: (واختُلِف في لفظة «المَسِيح» على ثلاثة وعشرين قولًا ذكرها ابن دحية في «مرج البحرين»...)؛ فذكرها، انتهى، ثمَّ عزاها في الآخر لابن دحية، وذكر شيخُنا في «القاموس» ما نصُّه: (و«المسيح»: عيسى صلعم؛ لبركته، وذكرتُ في اشتقاقه خمسين قولًا في شرحي لـ«مشارق الأنوار» وغيره، والدَّجال؛ لشؤمه، أو هو كـ«سِكِّير»)، انتهى(1)، وقد تَقَدَّمَ ذلك في (الصَّلاة) [خ¦86] [خ¦832]، وقد ذكر شيخُنا الشارح ☼ في الدَّجال غرائبَ، فمَن أرادها؛ فليقف عليه في (باب ما ذُكِر في بني إسرائيل).
          و(المَسِيح الدَّجَّال): بفتح الميم، وكسر السين، هذا هو المشهور، وقال بعضُهم: (وبكسرهما مع التشديد في السين)، فمَن شدَّد؛ فهو ممسوحُ العين، ومَن خفَّف؛ فهو من السياحة؛ لأنَّه يمسح الأرض، أو لأنَّه ممسوح العين اليمنى؛ أي: أعْوَرُها، وقال ابنُ عَبْدِ البَرِّ: (ومنهم مَن قاله بالخاء)؛ يعني: المُعْجَمَة، وذلك كلُّه خطأ عند أهل العلم، ولا فرق بين المسيح ابن مريم صلعم والمسيح الدَّجَّال في النطق بهما، وكذا نطق به صلعم، ونقله أصحابه، والله أعلم.
          وقد جاءت الاستعاذة من فتنته، وأنَّها أعظم الفتن، وأنَّه أعور العين اليمنى، وجاء في «مسلم»: (اليسرى)، وقد قَدَّمْتُ الجمعَ بينهما [خ¦3439]، وهو أنَّهما معيبتان؛ إحداهما: طافئة؛ بالهمزة: ذاهبةُ النور عمياء لا يُبصِرُ بها شيئًا، والثانية: طافية؛ بلا همز؛ أي: ناتئة، لكنَّه يبصر بها، قال ابنُ دحية: ويجوز أن يُراد باليمنى واليسرى بالنسبة إلى الرَّائي، لا إلى الدَّجَّال، فإن قيل: لِمَ لم تكنِ اليُسرى وَهَمًا، قال ابنُ عَبْدِ البَرِّ في «التمهيد»: (وفي حديث سَمُرَة: «أنَّه أعورُ العين الشِّمال عليها ظفرة غليظة»، وفي حديث مالك: «اليمنى»، وحديثُ مالكٍ أصحُّ من جهة الإسناد)، ولم يزد، وقال ابن دحية: الطرق كلُّها صحيحةٌ، انتهى؟
          والجواب: أنَّ الألفاظَ كلَّها صحيحةٌ، والجمعُ ممكنٌ، وقد قدَّمتُه، وقد روى أبو داود الطيالسيُّ في «مسنده» [خ¦1106] من حديث سفينة قال: خَطَبَنا رسولُ الله صلعم، فقال: «لم يكن نبيٌّ إلَّا وقد أنذر أمَّته الدَّجَّالَ، ألا وإنَّه أعور العين الشمال، وباليمنى ظفرة...»؛ الحديث، وخرَّجه البغويُّ في الجزء العاشر من «مختصر المعجم» له من حديث سفينة مرفوعًا، ولفظه: «إنَّه لم يكن نبيٌّ قبلي إلَّا وقد حذَّر أمَّتَه الدَّجَّالَ، إنَّه أعور عينه اليسرى، بعينه اليمنى ظفرة غليظة...»؛ الحديث، وقد تَقَدَّمَ من حديث سَمُرة: أنَّ الظفرة على العين الشِّمال، فيحتمل _والله أعلم_ أنَّ كلَّ عينٍ عليها ظفرة، وفي حديث حذيفة: (أنَّ الدَّجَّال ممسوح العين عليها ظفرة غليظة)، وإذا كانت الممسوحة المطموسة عليها ظفرة؛ فالتي ليست كذلك أَولى، فتتَّفقُ الأحاديث، أو نقول كما قال ابن دحية في أعور العين اليمنى، وأعور العين اليسرى، والله أعلم.
          ويمكث في الأرض أربعين يومًا؛ يومًا كسنة، ويومًا كشهر، ويومًا كجمعة، وسائر أيَّامه كأيَّامنا، ومكتوبٌ بين عينيه (كـ ف ر)، وسيأتي الكلام على هذه الكتابة [خ¦7131]، ويتبعه سبعون ألفًا من يهود أصبهان عليهمُ الطيالسة، وأنَّ عيسى صلعم ينزل من السماء، فيقتله بباب لُدٍّ؛ البلدة المعروفة بقرب بيت المقدس، وكان السَّلَف يستحبُّون أن يُلَقَّنَ الصبيانُ أحاديثَ الدَّجَّال؛ ليحفظوها، وترسخَ في نفوسهم، ويتوارثها الناس، وقد قَدَّمْتُ الكلام في ابن صيَّاد عبدِ الله هل هو الدَّجَّال أم لا، في (كتاب الجنائز) [خ¦1354].
          فائدةٌ: في «التِّرْمِذيِّ» وغيرِه: (أنَّه يخرج من أرضٍ يُقال لها: خُراسان)، وفي «ابن ماجه»: (من قريةٍ يُقال لها: اليهوديَّة)، وفي كتاب نُعَيم(2) بن حَمَّاد: (يخرج من خلَّة بين الشام والعراق)، وهذا في «مسلم»، وفي حفظي: (أنَّه يخرج من قريةٍ يُقال لها: جَيٌّ من أصبهان)، وفي «الطَّبَرانيِّ الكبير» و«الأوسط»: (خروجه من أصبهان من قريةٍ يُقال لها: رُسْتَفاذ)، وقال أبو هريرة: (يخرج من قريةٍ بالعراق)، وقال الصِّدِّيقُ: (يخرج من مروَ بين يهودِ تيماء)، وقال يحيى بن سعيد القَطَّان عن سليمان بن عيسى: (بلغني أنَّه يخرج من جزيرة أصبهان في البحر يُقال لها: ماطُولة)، وقال عبد الله بن عَمرو: (يخرج من كُوشا)، ونقله التاريخيُّ عن ابن مسعود أيضًا.
          وهذا الاختلاف في موضع خروجه يُحمَل على أنَّه يخرج مرَّةً بعد مرَّةٍ، فأمَّا مروُ، وأصبهان، وشبههما؛ فشيءٌ واحدٌ؛ لأنَّه تارةً عبَّر بالإقليم، وتارةً بالبلد، وتارةً بالمكان، فلا اختلافَ، قاله شيخُنا.
          فائدةٌ: روى أبو القاسم البغويُّ من حديث مُحَمَّد بن عبد الوهَّاب، عن حشرج بن نباتة، عن سعيد بن جُمْهان، عن سَفينة [مرفوعًا]: «أعور العين اليسرى، [بعينه اليمنى](3) ظفرة غليظة...، [و]معه ملكان يشبهان نبيَّين، لو شئت؛ لسمَّيتهما بأسمائهما وأسماء آبائهما...»، قال شيخُنا: (وقد سلف أنَّ جبريلَ وميكائيلَ يمنعانه من مكَّة والمدينة، وقال ابن برجان في «إرشاده»: «الذي يغلبُ على ظنِّي أنَّ أحدَهما المسيحُ، والآخَرَ نبيُّنا»)، انتهى.
          وهذا أيضًا نقله القرطبيُّ في «تذكرته»، ولكن يردُّه: (وأسماء آبائهما)، وإن كان يقبل التأويلَ، لكنَّ ظواهرَ الأحاديث التي في نزول عيسى ابن مريم عند المنارة البيضاء شرقيَّ دمشق وطلبه الدَّجال تردُّ ذلك، وكذا قوله في الحديث: (هذه قرية ذاك الرجل)، ولو كان معه ملك يشبهه؛ لقال: هذا الرجل، والله أعلم.
          قال شيخُنا: (وفي الحديث: «أنَّ أمَّه تلده وهي منبوذةٌ في قبرها»)، ويُقال: كانت أمُّ شقٍّ جنيَّةً عشقت أباه، فأولدها الدَّجَّالَ، واسمه جوس.
          وقال كعبٌ فيما ذكره أبو نُعَيم: إنَّه بَشَرٌ ولدته أمُّه بقوص من أرض مصر، يكون بين مولده ومخرجه ثلاثون سنةً.
          ونقل شيخُنا عن جماعةٍ سمَّاهم مِنَ السَّلَف: (أنَّه في بعض جزائر اليمن موثق بسبعين حَلْقةً، لا يُعلَم مَن أوثَقَهُ؛ سليمانُ أو غيرُه؟).
          وقد صحَّ أنَّه لا يدخل مكَّة ولا المدينة.
          وقال شيخُنا: (وفي «تاريخ حرَّان» لأبي الثناء حَمَّاد: عن كعب قال: في الكتب المُنَزَّلة: أنَّ حرَّان لا يقدر عليها)، انتهى، وسمعت أنَّ في بعض التواريخ: (أنَّه لا يدخل طرسوس)، وللطبريِّ من حديث عبد الله بن عَمرو: (لا يدخل بيت المقدس)، وعند الطحاويِّ: (ومسجد الطور)، انتهى، والكلُّ رأيتُه في الأحاديث إلَّا حرَّان وطرسوس.
          وفي «مسند أحمد» بإسناده إلى جنادة بن أبي أُمَيَّة قال: (أتينا رجلًا من الأنصار من أصحاب رسول الله صلعم، فدخلنا عليه، فقلنا: حَدِّثْنَا ما سمعتَ مِن رسول الله صلعم، ولا تحَدِّثْنَا ما سمعتَ من الناس، فشدَّدْنَا عليه، فقال: قام رسول الله صلعم فينا، فقال: «أُنذِرُكُمُ المسيحَ، وهو ممسوح العين...» إلى أن قال: «لا يأتي أربعةَ مساجدَ: الكعبة، ومسجد الرسول، والمسجد الأقصى، والطور...»؛ الحديث، ثمَّ ذكر من طريق أخرى وفيه تقديمٌ وتأخيرٌ في المساجد، ومن طريق أخرى، ثمَّ من طريق أخرى، والله أعلم.
          تنبيهٌ: ذكر الذَّهَبيُّ في «ميزانه» في ترجمة عبد الرَّحْمَن بن مُسْهِر أخي عليِّ بن مُسْهِر، كان على قضاء جَبُّلَ، ذكر فيها حكايةً عن أبي الفرج الأصبهانيِّ تتعلَّق به وسُخْفِه، وفي آخرها: (فحدَّثَ الناسَ عن مجالد، عن الشَّعْبيِّ: أنَّ كُنية الدَّجال أبو يوسف، فبلغه ذلك _يعني: بلغ القاضي أبا يوسف صاحبَ أبي حنيفة_، فقال: هذه بتلك، فحسبُك، وجِّه إليَّ أُوَلِّيك ناحيةً، ففعلَ، وأمسكتُ عنه، قال ابنُ مَعِين: ليس بشيءٍ، وقال البُخاريُّ: فيه نظرٌ)، وتركه أبو حاتم والنَّسائيُّ، وفيه غيرُ ذلك من الجرح.
          فائدةٌ: قال شيخُنا: (في «العجائب» لابن وَصِيف: أنَّ الدَّجَّال من ولد شقٍّ الكاهنِ).


[1] زيد في (أ) مُسْتَدرَكًا: (وفي «التَّذكرة» قال _أي: في لفظة المسيح _: «اختُلِف فيها على ثلاثة وعشرين قولًا...»؛ فذكرها من عند ابن دحية)، وهو تكرار لما سبق قُبَيله.
[2] في (أ): (أبي نعيم)، وصوابه: (نعيم)، وستأتي ترجمته عند المصنف عند الحديث ░7139▒.
[3] في (أ) بدل ما بين معقوفين: (عليها)، والمثبت من مصدره، وقد تقدَّم قريبًا على الصواب.