مصابيح الجامع الصحيح

باب سؤال جبريل

          ░37▒ (باب: سؤال جبريل)
          إشارة: وإن قيل: كيف بدأ بالسُّؤال قبل السَّلام؟
          الجواب: بأنَّه يحتمل أن يكون ذلك مبالغة في التَّعمية لأمره، أو ليبيِّن أنَّ ذلك غير واجب، أو سلَّم فلم ينقله الرَّاوي، وهذا الثَّالث هو المعتمَد، فقد ثبت في رواية أبي فروة، ففيها بعد قوله: (كأنَّ ثيابه لم يمسَّها دنس، حتَّى سلَّم من طرف البساط فقال: السَّلام عليك يا محمَّد، فردَّ ◙، قال: أدنو يا محمَّد؟ قال: ادن، فما زال يقول: أدنو؟ مرارًا ويقول: له ادنُ)، ونحوه وفي رواية عطاء عن ابن عمر، لكن قال: (السَّلام عليك يا رسول الله)، وفي رواية مطر الورَّاق: (فقال: يا رسول الله! أدنو منك؟ قال: ادنُ) ولم يذكر السَّلام، فاختلفت الرِّواية، هل قال: يا محمَّد، أو: يا رسول الله؟ وهل سلَّم أولا؟
          فأمَّا السَّلام؛ فمن ذكره مقدَّم على من سكت، وقال القرطبيُّ: بناء على أنَّه قال: يا محمَّد؛ أراد بذلك التَّعمية وصَنَع صنيع الأعراب، انتهى.
          ويُجمَع بين الرِّوايتين بأنَّه بدأ أوَّلًا بندائه باسمه لهذا المعنى، ثمَّ خاطبه بعد ذلك بقوله: يا رسول الله، ووقع عند القرطبيِّ أنَّه قال: السَّلام عليك يا محمَّد، فاستنبط منه أنَّه يُستَحَبُّ للدَّاخل أن يعمِّم بالسَّلام، ثمَّ يخصِّص مَن يريد تخصيصه، انتهى.
          والَّذي وقفتُ عليه من الرِّوايات إنَّما فيه ذكر الإفراد.
          (جِبْرِيْلَ) منصوب؛ لأنَّه غير منصرف، والمصدر مضاف إليه وهو فاعل، و(النَّبِيُّ) مفعوله.
          وسُمِّيَت (سَاعَة) لوقوعها بغتةً، أو لسرعة حسابها، أو على العكس لطولها، فهو تلميح كما يقال في الأسود كافورًا، ولأنَّها عند الله سبحانه على طولها كساعة من السَّاعات عند الخلق.
          إن قلت: السُّؤال ليس عن علمها وظاهر الكلام يقتضي أن يقال بدل (علم السَّاعة): (وقت السَّاعة)؛ لأنَّ السُّؤال عن وقتها؛ لأنَّه قال: متى السَّاعة؛ قلتُ: الوقت مقدَّر؛ أي: علم وقت السَّاعة، والقرينة: كلمة (مَتَى) لأنَّها للسُّؤال عن الوقت، وأمَّا العلم؛ فهو لازم السُّؤال إذ معناه: أتعلم وقت السَّاعة؟ (فأخبرني)، فهو متضمِّن للسُّؤال عن علم وقتها، و(بَيَان) عطف على سؤال.
          إن قلتَ: / لم يبيِّن النَّبيُّ صلعم وقت السَّاعة، فكيف قال: وبيان النَّبيِّ له؟
          لأنَّ الضَّمير إمَّا راجع إلى الأخير أو إلى مجموع المذكور؛ قلتُ: إمَّا أنَّه أطلق وأراد أكثره إذ حكم معظم الشَّيء حكم كلِّه، أو جعل الحكم فيه بأنَّه لا يعلمه إلَّا الله بيانًا له.
          إشارة: قال شيخنا: جاء في رواية ابن حِبَّان من حديث عمر: (إذ طلع علينا رجل شديد سواد اللِحية، لا يُرى عليه أثر السَّفر، ولا يعرفه منَّا أحد، حتَّى جلس إلى النَّبيِّ صلعم)، فكيف عرف عمر أنَّه لم يعرفه أحد منهم؟
          الجواب: إنَّه يحتمل أن يكون استند في ذلك على ظنِّه، أو إلى صريح قول الحاضرين، وهذا الثَّاني أولى، وقد جاء ذلك في رواية عثمان بن غياث وفيها: (فنظر القوم بعضهم إلى بعض، فقالوا: ما نعرف هذا)؛ انتهى كلام شيخنا.
          وفي «مسلم» : لا يعرفه منَّا أحد.
          قوله: (ثُمَّ قَالَ) أي: رسول الله، وإنَّما عطف الجملة الفعليَّة على الجملة الإسميَّة، وغيَّر أسلوبَ الكلام؛ لأنَّ المقصودَ من الكلام الأوَّل بيان التَّرجمة، ومن الثَّاني بيان كيفيَّة الاستدلال منه على جعل كلِّ ذلك دينًا، فلتغاير المَقْصود تَغَايَر الأسلوبان.
          قوله: (جَاءَ جِبْرِيْلُ) في رواية: (جاءكم)، وفي أخرى: (أتاكم) أتاكم جملة استئنافيَّة، و(يُعَلِّمْكُمْ) حال من الضَّمير المرفوع في (أتاكم).
          فإن قيل: جبريل إنَّما جاءه ◙، فكيف قال: (أتاكم)؟
          أجيب: بأنَّ المقصود من الإتيان لما كان تعلُّم الحاضرين وإفادتهم، فيكونون في قوَّة من أتاه؛ ولأنَّه أتى المجلس الَّذين هم حاضرون فيه، فيكون إيتاء لهم.
          إن قيل: كيف يليق بكبار الصَّحابة أن لا يكونوا عالمين بدينهم؟
          أجيب: بأنَّهم كانوا عالمين به، إلَّا أنَّه جاء ليثبِّتهم على ما كانوا عليه.
          إن قلت: علم وقت السَّاعة ليس من الإيمان، فكيف قال كلَّه؟
          قلتُ: الاعتقاد بوجودها وبعدم العلم بوقتها لغير الله تعالى من الإيمان أيضًا، أو أعطى الأكثر حكم الكلِّ مجازًا.
          قوله: (وَمَا بَيَّنَ لِوَفْدِ عَبْدِ القَيْسِ مِنَ الإِيْمَانِ)
          إن قلت: علام عطف (وما بيَّن) وقوله تعالى: {وَمَنْ بَلَغَ} [الأنعام:19]، ولا جاز أن يُعْطَف على السُّؤال ليدخل في التَّرجمةِ، إذ لا أثر لحكاية وفد عَبْد القيس في هذا الباب، ولا لمعنى الآية؛ قلتُ: الواو في بمعنى (مع) أي: جعل ذلك دينًا مع ما بيَّن للوفد من أنَّ الإيمان هو الإسلام، حيث فسَّر الإيمان في قصَّتهم بما فسَّر الإسلام ههنا ومع الآية حيث دلَّت على أنَّ الإسلام هو الدِّين، فعُلِم أنَّ الإيمان والإسلام والدِّين أمر واحد، وهو مراد البخاريِّ.
          و(مَا بَيَّنَ) مبتدأ، و(قَوْلُهُ تَعَالَى) عطف عليه، وخبر المبتدأ محذوف؛ أي: الدِّين بيَّنه الرَّسول للوفد من الإيمان، والآية والحديث يُؤوَّلان على ما ذكرنا، أمَّا الحديث؛ فمن حيث فسَّر الإيمان بما فسَّر الإسلام، وأمَّا الآية؛ فمن حيث أفادت أنَّ الإسلام هو الدِّين، فقوله: (وما بيَّن) على الأوَّل مجرور المحلِّ، وعلى الثَّاني مرفوع، وضمَّ (وما بيَّن) إلى التَّرجمة لأنَّها لم تدلُّ على أنَّ الإيمان هو الإسلام، بل على أنَّ الكلَّ هو الدِّين، فأراد الاستعانة في تتميم مراده والتَّقوية له بحديث عبد القيس والآية.
          (مِنَ الإِيْمَانِ) متعلِّق بقوله: (بيَّن).
          أبو حيَّان: إمَّا مشتقٌّ من الحياء، فلا ينصرف، أو من (الحين) فينصرف.