مصابيح الجامع الصحيح

باب خوف المؤمن من أن يحبط عمله وهو لا يشعر

          ░36▒ (باب: خوف المؤمن أن يحبط عمله)
          فقوله: (أَنْ يَحْبَطَ) أي: أن يُحرَم ثواب عمله؛ لأنَّه لا يُثاب إلَّا على ما أخلص فيه؛ قاله في «الفتح».
          إن قلت: القول بإحباط المعاصي الطَّاعات من قواعد أهل الاعتزال، فما وجه قول / البخاريِّ بذلك؟
          قلتُ: هذا الإحباط ليس بذاك، إذ المراد به الإحباط بالكفر، أو بعدم الإخلاص.
          قال النَّوويُّ: المراد بـ(الحبط) نقصان الإيمان وإبطال بعض العبادات لا الكفر، فإنَّ الإنسان لا يكفر إلَّا بما يعتقده أو يفعله عالمًا بأنَّه يُوجِب الكفر.
          وأقول: هو ممَّا تنازع فيه، إذ الجمهور على أنَّ الإنسان يكفر بكلمة الكفر وبالفعل الموجب للكفر وإن لم يعلم أنَّه كفر.
          إشارة: قال الأعمش: قال لي إبراهيم التَّيميُّ: ما أكلتُ من أربعين ليلة إلَّا حبَّة عنب.
          قوله: (مكذِّبًا) بكسر الذَّال؛ أي: خشي أن يكون قصَّر في العمل، وكذا ينبغي أن تغلب الخشيةُ المؤمنَ، كما قال الحسن: ما خافه إلَّا مؤمن، وقد ذمَّ الله تعالى من أمر بالمعرف ونهى عن المنكر وقصَّر في عمله، وبالنَّسخ، ومعناه: خشيتُ أن يُكذِّبني من رأى عملي مخالفًا لقولي ويقول: لو كنت صادقًا ما فعلتَ هذا الفعل؛ قاله الكرمانيُّ.
          قوله: (مَا مِنْهُمْ أَحَدٌ) يعني: يجزمون بعدم عروض النِّفاق كما هو جازم في إيمان جبريل فأنَّه لا يعرضه النِّفاق، ويُحتمَل أن يكون: (وما منهم) إشارة إلى مسألة زائدة استفادها من أحوالهم أيضًا، وهي أنَّهم كانوا قائلين بزيادة الإيمان ونقصانه، انتهى.
          قوله: (مَا خَافَهُ) حذف الجارَّ وأوصل الفعل إليه؛ أي: ما خاف من الله، وكذا في أمنه، إذ معناه: أمن منه.
          وقال والدي ☼: يُحتمَل أن يعود الضَّمير على النِّفاق.
          قال شيخنا: ما خافه ولا أمنه؛ يعني: الله تعالى، قال تعالى: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ} [الرَّحمن:46]، وقال: {فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللهِ} [الأعراف:99] وكذا شرحه ابن التِّين وجماعة من المتأخِّرين وقرَّره الكرمانيُّ كذا.
          قلتُ: وإن كان هذا الكلام صحيحًا؛ لكنَّه خلاف مراد البخاريِّ ومن نقل عنه، والَّذي أوقعهم في هذا هو الاختصار، وإلَّا فسياق كلام الحسن البصريِّ يبيِّن أنَّه إنَّما أراد النِّفاق، فلنذكره، ثمَّ ساق السَّند عن المعلَّى بن زياد: سمعتُ الحسن يحلف في هذا المسجد بالله الَّذي لا إله إلَّا هو(1) ما مضى مؤمن قطُّ ولا بقي إلَّا وهو من النِّفاق مشفق، ولا مضى منافق قطُّ ولا بقي إلَّا وهو من النِّفاق آمن، وكان يقول: من لم يخف النِّفاق؛ فهو منافق.زيد في الأصل قال، وقال أحمد في (كتاب الإيمان): حدَّثنا روح بن عبادة، حدَّثنا هشام: سمعتُ الحسن يقول: والله ما مضى مؤمن ولا بقي إلَّا وهو يخاف النِّفاق، وما أَمنه إلَّا منافق، انتهى.
          وهذا موافق لأثر ابن أبي مليكة، وهو قوله: كلُّهم يخاف النِّفاق على نفسه، والخوف من الله وإن كان مطلوبًا محمودًا؛ لكنَّ سياق الباب في أمر آخر، انتهى.
          وهو دليل ما قاله والدي ⌂.
          قوله: (وَمَا يُحْذَرُ) هو بلفظ المجهول، شيخنا: هو بضمِّ أوَّله وتشديد الذَّال، عُطِفَ على خوف؛ أي: (باب ما يُحذَر)، وَ(مَا) مَصْدريَّة، وهو مجرور المحلِّ، ويحتمل عطفه على (يقول) أي: ما منهم أحد ما يحذر، فـ(ما) نافيه، و(يحذر) بلفظ المعروف، وهو مرفوع المحلِّ فيه، ولفظ (ما يُحْذَر) إلى آخره ردٌّ على المرجئة حيث قالوا: لا حذر من المعاصي عند حصول الإيمان، فعقد الباب لأمرين: لبيان الخوف من نحو عروض اللَّغو كما هو الإجماع السُّكوتيُّ ممَّا نُقِلَ عن التَّابعين الثَّلاثة، ولبيان الخوف من الإصرار على المعاصي بالآية، والآخر ردٌّ على المرجئة.
          النَّوويُّ: مراد البخاريِّ بهذا الباب الرَّدُّ على المرجئة في قولهم: إنَّ الله لا يعذِّب على شيء من المعاصي من قال: لا إله إلَّا الله، ولا يُحبط شيئًا من أعماله لشيء من الذُّنوب، وأنَّ إيمان المطيع والعاصي واحد، فذكر في صدر الباب أقوال أئمَّة التَّابعين وما نقلوه عن الصَّحابة، وهو كالمشير إلى أنَّه لا خلاف بينهم فيه، وأنَّهم مع اجتهادهم المعروف خافوا أن لا ينجوا من عذاب الله، وبهذا المعنى استدلَّ أبو وائل لمَّا سأله عن المرجئة: أهم مصيبون أم مخطئون في قولهم: «سباب المسلم فسوق وقتاله كفر» وغيرها، لا يضرُّ إيمانهم، فروى الحديث وأراد الأنكار عليه وإبطال قولهم المخالف لصريح الحديث، وأمَّا قوله ابن أبي مُليكة؛ فمعناه أنَّهم خافوا أن يكونوا من جملة من داهن ونافق.
          وقوله: (مَا مِنْهُمْ أَحَدٌ يَقُوْلُ أَنَّهُ عَلَى إِيْمَانِ جِبْرِيْلَ) بناء على ما تقدَّم أنَّ الإيمان يزيد وينقص، وأنَّ إيمان جبريل أكمل من إيمان آحاد النَّاس، خلافًا للمرجئة أي حيث قالوا: إيمان أفسق الفسَّاق وإيمان جبريل سواء، قال ابن بطَّال: وإنَّما خافوا؛ لأنَّهم طالت أعمارهم(2) حتَّى رأوا من التَّغيير ما لم يعهدوه ولم يقدروا على إنكاره، فخافوا أن يكونوا داهنوا أو نافقوا، وقال: إنَّما يحبط عمل المؤمن وهو لا يشعر إذا عدَّ الذَّنب يسيرًا فاحتقره وكان عند الله عظيمًا، وليس الحبط بمخرج من الإيمان، وإنَّما هو نقصان منه؛ لأنَّه كما لا يكون الكافر مؤمنًا إلَّا باختيار الإيمان على الكفر والقصد إليه، فكذا لا يكون المؤمن كافرًا من حيث لا يقصد الكفر ولا يختاره.
          إن قلت: ورد: «الشِّرك أخفى فيكم من دبيب النَّمل» وهو يدلُّ على أنَّه قد يُخرِج من الإيمان إلى الكفر وهو لا يشعر؛ قلتُ: الرِّياء قسمان: ما في عقد الإيمان وهو الشِّرك الأكبر، وهو كفر، وما في الأعمال وعقد الإيمان سالم وهو الأصغر، وهذا هو المراد هنا بقرينة: (فيكم).


[1] في الأصل: (الله).
[2] في الأصل: (أعمالهم).