مصابيح الجامع الصحيح

باب ما جاء في الوضوء

          ░1▒ قوله: (وبيَّن) كان غرضه من (بيَّن) الإشارة إلى أنَّ الأمر من حيث هو لإيجاد حقيقة الشَّيء المأمور به لا مُقْتضيًا للمرَّة ولا التَّكرار، بل محتملًا لها، فبيَّن النَّبيُّ صلعم أنَّ المراد منه المرَّة، حيث غَسَل مرًّة واحدًة واكتفى بهَا، إذ لو لم يكن الفرض إلَّا مرَّةً واحدةً؛ لم يجز الاجتزاء بهَا.
          وقال شيخنا في «فتحه» : يُحتمَل أن نُشير بالبيان المذكور إلى ما رَوَاه بعدُ من حديثِ ابن عبَّاس ╠: (أنَّ النَّبيَّ صلعم توضَّأ مرَّةً مرَّةً) انتهى.
          والغَرَض من وتوضَّأ مرَّتين وثلاثًا الإشارةُ إلى أنَّ الزِّيادة عليها مَنْدوب إليها؛ لأنَّ فعلَ النَّبيِّ صلعم يدلُّ على النَّدب غالبًا إذا لم يكن دليل على الوجوب، ككونه بيانًا للواجب مثلًا.
          قوله: (مَرَّةً) منصوب مفعول مطلق؛ أي: فرض الوضوء غسل الأعضاء غسلةً واحدةً، أو ظرفٌ؛ أي: فرض الوضوء ثابتٌ في الزَّمَان المُسمَّى بالمرَّة، وفي بعضها بالرَّفع؛ أي: فرض الوضوء غَسْلة واحدة. /
          وتكرار (مرَّة) إمَّا للتَّأكيد أو التَّفصيل؛ أي: فرض الوضوء غسل الوجه مرَّة وغسل اليد... إلى آخره، نحو: بوَّبتُ الكتاب بابًا بابًا، أو فُرِضَ الوضوء في كلِّ وضوء مرَّة في هذا الوضوء مرَّةً وفي ذاك مرَّة، فالتَّفصيل إمَّا بالنَّظر إلى آخر الوضوء، وإمَّا بالنَّظر إلى جزئيَّات الوضوء، انتهى.
          وقال شيخ والدي الأندلسيُّ: (مرَّةً) ظرف في موضع الخبر، انتهى.
          قال الشَّيخ للوالد: والَّذي يظهر رفعهما خبر إنَّ، أو حالًا، كقراءة عليِّ ☺: ▬وَنَحْنُ عُصْبَةً↨ [يوسف:8]، وقرأ بها ابن محيصن، انتهى.
          وقال الزِّركشيُّ: منصوب على لغةٍ؛ أي: لغة نَصْب الخبرين، قال الشَّاعر:
إنَّ حرَّاسنا أسدًا
          قولُه: (وَلَمْ يَزِدْ عَلَى الثَّلاثِ)، روى ابن خُزَيمة في صَحيحه من حديثِ عَمرو بن شُعيبٍ عن أبيه عن جدِّه قال: جاء أعرابيٌّ إلى النَّبيِّ صلعم فَسأله عن الوضوء فأراه ثلاثًا ثلاثًا، ثمَّ قال: «هذا الوضوء، فمن زاد على هذا فقد أساء و تعدَّى و ظَلَم» ثمَّ قال: لم يوصل هذا الخبرَ غير الأشجعيِّ وَيَعْلى، وزعم أبو داود أنَّه من منفردات أهل الطَّائفِ، رواه ابن ماجه كذلك، ورواه أحمد والنَّسائيُّ بلفظ: فقد أساء وتعدَّى وظلم، ورواه أبو داود بلفظ (أو نقص) فقد أساء وظلم أو ظلم وأساء، وأجابوا عنه.
          إشارة: الإسراف: هو صَرْف الشَّيء فيما يَنْبغي زائدًا على ما يَنْبغي بخلاف التَّبذير، فإنَّه صَرْف الشَّيء فيما لا يَنْبغي.
          قوله: (أَنْ يُجَاوِزُوا) عطفٌ تَفْسيريٌّ للإسراف، إذ ليس المراد بالإسراف إلَّا المجاوزة عن فعلِ النَّبيِّ صلعم.
          فائدة: إن قلتَ: لم يُذكَر في هذا الباب حديث، وهل كلُّه ترجمة للباب؟
          قلتُ: لا نسلِّم أنَّه لم يذكر إذ وبيَّن هو حديث؛ لأنَّ المرادَ من الحديثِ أعمُّ من قول الرَّسول ◙، وكذا وتوضأ أيضًا حديث، ولا شكَّ أنَّ كلًّا منهما بيان للسَّنَّة، والمقصود منه: بابُ ما جاء فيه من السُّنَّة، نعم، ذكرهما على سبيل التَّعليق، ولم يوجد لفظ باب قبل لفظ ما جاء في بعضِ النُّسخ، وهو ظاهر مستغني عن تكليف التَّوجيه.
          خاتمة:
          الوضوء يقال بضمِّ الأوَّل إذا أريد الفعل الَّذي هو المصدر وبفتحها إذا أريد الماء الَّذي يتوضَّأ به، وذهب الخليل إلى أنَّه بالفتح فيها، وحكى صاحب «المطالع» الضَّمَّ فيهما، وهو مشتقٌ من (الوضاءة) وهي الحُسْن والنَّظافة، وسمُّو به لأنَّه ينظِّف المتوضِّئ ويحسِّنه، وأمَّا بحسب اصطلاح الفقهاء، فهو غسل الأعضاء ومسح الرأس.