مصابيح الجامع

باب: إذا بين البيعان ولم يكتما ونصحا

          ░19▒ (هَذَا مَا اشْتَرَى مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ صلعم مِنَ الْعَدَّاءَ) العدَّاء _بفتح العين المهملة_ (1) وبالمد أيضًا.
          قال المطرِّزيُّ: فرسٌ عَدَّاء على فَعَّال، وبه سُمي العَدَّاءُ الذي كَتب له رسولُ (2) الله صلعم الكتابَ المشهور، قال: وهو المشتري لا النبيُّ صلعم، هكذا ثبت في «الفائق»، و«مشكل الآثار»، و«معجم الطبراني»، و«معرفة الصحابة» لابن منده، و«الفردوس» بطرقٍ كثيرةٍ.
          قال الزركشي: وكذا الترمذي، وقال: حسنٌ، وهو عكسُ ما ذكره البخاريُّ هنا، ولهذا قال القاضي: إنه مقلوبٌ، وصوابه: هذا ما اشترى العدَّاءُ بنُ خالدٍ من محمدٍ رسولِ الله صلعم، قال: ولا يبعدُ صوابُ ما في البخاريِّ، واتفاقُه مع الروايات الأُخر إذا جعلت اشترى بمعنى: باع.
          قلت: أو يحمل على تعدد الواقعة، فلا تعارضَ حينئذٍ.
          (لَا دَاءَ وَلاَ خِبْثَةَ (3)، وَلاَ غَائِلَةَ) قال المطرِّزيُّ: الداء: كلُّ عيبٍ باطنٍ ظهرَ منه شيءٌ أم لا؛ كوجع (4) الكبدِ والسعال.
          والخِبْثة _بكسر الخاء المعجمة وإسكان الباء الموحدة ثم ثاء مثلثة_ أن يكون مسبيًّا من قومٍ لهم عهد (5)، وقيل: المراد بها: الحرام؛ كما عبَّر عن الحلال بالطَّيِّب (6).
          قال ابن التين (7) : ضبطناهُ في أكثر الكتب بضم الخاء، وكذلك سمعناه.
          والغائلة: فسَّرها في متن البخاريِّ نقلاً عن قتادة بأنها الزنا والسرقة والإباق.
          قال ابن المنيِّرِ: وقوله: ((لا داء)) بمعنى (8) : لا داءَ يكتمُه البائع، وإلَّا، فلو كان بالعبد داءٌ، وبيَّنَهُ البائع؛ لكان بيع المسلمِ المسلمَ، فلابدَّ من تأويل الحديث هكذا.
          وفيه دليل على أنَّ تصديق الوثائق بقول الكاتب: ((هذا ما اشترى)) أو ((أصدقَ))، جائز وسُنَّة (9)، ولا يبالى بوسوسة من تحرَّجَ من هذه الصِّفة (10)، وزعم أنها تلتبسُ بالنافية.
          وفيه دليلٌ على أن يُذكر شَرْي المشتري قبل بيع البائع، فلا تصدَّر الوثيقة بقولك: هذا ما باع فلان، وأوردَ سؤالًا، وهو أن الفقهاء يقولون: إنَّ الإيجاب من البائع، وإنَّ جانبه أقعدُ في البيع من جانب المشتري، ولهذا قالوا: تتعدد الصَّفقة بتعدد البائع، لا بتعدد المشتري، فما وجهُ البداءة بالشراء، والبيعُ أقعدُ منه؟.
          وأجاب: بأن المشتري أحوجُ إلى الوثيقة من البائع؛ لأنَّه صاحب الطلب بالعهدةِ، وصاحبُ العين التي هي مَظِنَّةُ التنازع، والاحتياجِ إلى إثبات المِلْك، ولهذا كانت أجرة الوثيقة على المشتري لا على البائع؛ لأنه أقعدُ بها.
          وجرت (11) العادة في عصره بأن يقدِّمَ الشاهدُ ذكرَ البائع في رسم شهادته، فيقول: شهدتُّ على البائع والمشتري، فسأل: لم كان الأدب كذلك؟
          وأجاب: بأنَّ المشتري أحوجُ إلى الإشهاد على البائع من البائعِ، وإلى (12) الإشهاد على المشتري، وقد حصلَ الغرضُ من تقديم المشتري.
          قال (13) : فإن كان البيع بنسيئة، فحاجة البائع (14) إلى الإشهاد أشدُّ، فكان ينبغي تقديمُه في الوثيقة.
          وأجاب: بأنه لمَّا كان بيعُ النقد أكثرَ، عُمل عليه، واطَّردت (15) القاعدة، ولهذا كان (16) وضع وثيقة السلم على خلاف هذا تقدَّم فيها ذكرُ البائع الذي هو المسلَّم إليه؛ لأنها قاعدة مستقلَّة، وليست فيها عينٌ معينة، إنما هي شهادة على الذمَّة، فقدِّم فيها المشهودُ عليه؛ كوثيقة الدَّين الذي لا يُذكر له / سبب، وتقَدَّمُ في الصدقات والبخيلِ (17) المتصَدِّقُ؛ لأنها فضل، وصاحبه أولى بالتقديم.
          قلت: أطال ☼ فيما لا طائلَ تحته من توجيه أوضاعٍ اصطلاحية لا يختلف حكمُ الشرع باختلافها، ولا يترتَّب عليها فائدة.
          (إِنَّ بَعْضَ النَّخَّاسِينَ) بنون وخاء معجمة؛ أي: الدلَّالين.
          (يُسَمِّي آرِيَّ خُرَاسَانَ) ببناء ((يسمِّي)) للفاعل، وفاعلُه ضميرٌ يعود إلى البعض المتقدِّم، و((آرِيَّ)) مفعوله الأول، و((خراسانَ)) مفعوله الثاني.
          قال القاضي: وأرى أنه نقصَ (18) من الأصل بعد آريَّ لفظةُ: ((دوابه)) يعني: أنه كان الأصل: يُسَمِّي: ((آرِيَّ دوابه))، فنقص لفظَ: ((دوابّه)).
          قلت: يمكن أن يوجَّه بأنه من حذف (19) المضاف إليه، وإبقاءِ المضافِ على حاله، وبأنه على إرادة اللام (20)، فقد جوَّزوا الوجهين فيما سمع من قولهم: ((سلامُ عليكم)) برفع سلام مع عدم تنوينه، ويأتي الوجهان في قراءة من قرأ من أهل الشواذ: {فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ} [المائدة:69] بضم (21) الخاء مع ترك التنوين؛ أي: فلا خوفُ شيءٍ عليهم، أو: فلا الخوف، فكذا ما نحن فيه؛ أي: يسمِّي آريَّ (22) دوابه، أو يُسَمِّي الآرِيَّ.
          قال الزركشي: وقد رواه ابن أبي شيبة في «مصنفه»: حدَّثنا همَّام عن معمر (23)، عن إبراهيم (24)، قال: قيل له: إن ناسًا من النَّخَّاسين وأصحاب الدوابِّ يسمِّي إِصطبلَ دوابِّهِ خُراسانَ وسجستانَ (25)، ثم يأتي بدابَّته إلى السوق، فيقول: جاءت من خراسان وسجستان، قال: إني أكره هذا.
          والآرِيُّ: بهمزة فألف فراء مكسورة فمثناة من تحت مشددة.
          قال القاضي وغيره: هذا هو الصَّواب، ووقع عند (26) المروزيِّ: ((أَرَى)) بفتح الهمزة والراء؛ مثل ((دَعَا))، وليس بشيءٍ، وهو مَرْبَطُ الدابَّة، وقيل: معلَفُها.
          وقال الأصمعيُّ: هو حبل يُدْفَن في الأرض، ويبرز طرفُه، تُشدُّ به الدابةُ، ومعنى ما أراد البخاريُّ: أن النخاسين كانوا يسمُّون مرابطَ دوابهم بهذه الأسماء؛ ليدلِّسوا على المشتري بقولهم كما ((جاء الآن من خراسان وسجستان))، يعنون: مرابطَها، فيحرص عليها المشتري، ويظنها طرية الجلب.


[1] في (ق) زيادة: ((وتشديد الدال المهملة)).
[2] في (ق): ((لرسول)).
[3] في (ج): ((خبيثة)).
[4] في (م): ((لوجع)).
[5] في (ج): ((من قولهم عهد)).
[6] في (ق): ((بالطب)).
[7] في (ق): ((الأثير)).
[8] في (ق): ((يعني)).
[9] في (ق): ((جائز ومنه)).
[10] في (ق): ((الصيغة)).
[11] في (م) و(ج): ((وجرى)).
[12] في (د) و(ج): ((وأولى)).
[13] ((قال)): ليست في (ق).
[14] في (د): ((التبايع)).
[15] في (د): ((واضطردت)).
[16] في (م) و(ج) و(د): ((كانت)).
[17] في (ج): ((والتحمل))، وفي (م) و(د): ((والنحل)).
[18] في (م): ((نقض)).
[19] ((قلت يمكن أن يوجه بأنه من حذف)): في (ق) جاءت قبل قوله: ((يعني أنه كان الأصل)).
[20] في (د) و(ج): ((اللازم)).
[21] ((بضم)): ليست في (ق).
[22] ((يسمي آري)): ليست في (ق).
[23] في (ق): ((حدثنا هشام عن مغيرة)).
[24] ((عن إبراهيم)): ليست في (ج) و(د).
[25] في (ج) و(د) زيادة: ((قال إني أكره)).
[26] ((عند)): ليست في (د).