مصابيح الجامع

المقدمة

          ♫
          ربِّ يَسِّر وأَعِنْ وتَمِّمْ بالخيرِ يا كريم (1)
           قال العبدُ الفقيرُ إلى الله تعالى: محمدُ بنُ أبي بكرِ بنِ عُمرَ المخزوميُّ الدمامينيُّ المالكيُّ لطف الله تعالى به (2) :
          الحمدُ لله الذي جعلَ في خدمة السنة النبوية أعظمَ سيادة، وحمى حِماها من النقص، وأظفرَ منها بالحسنى وزيادة، وشرحَ الصدورَ بنورها اللامع، وملأ بجواهر أحاسنها (3) أصدافَ المسامع، وأبرزَ لعيونِ البصائر وجوهَ معانيها سافرةً عن الحسن الصريح، وشفى عللَ الأهواء من حكمته (4) البالغة بما صحَّ من التنقيح (5)، وجمعَ أشتاتَ المحاسنِ فَقُلْ ما شئتَ في «الجامع الصحيح».
          أحمدُه تعالى (6) على الاتصال بمحبتها، وأعوذ به من الانقطاع، وأشكره شكرَ مَن سمعها فوالاها، فثبت ولاؤه بشهادة السماع.
          وأشهد أن لا إله إلا الله وحدَه لا شريك له، شهادةً ينجلي بصبح يقينها كلُّ مُظلِم، وتلوح آثارُ صدقها (7) فلا يشكُّ في صحتها مسلم.
          وأشهد أن سيدنا محمدًا عبدُه ورسولُه، أولُ من يُجيز على الصراط، إجازةً تُروى أحاديثُ السلامة من طريقها، وتُزوى (8) _بإذن الله_ معضلاتُ الفرق عن (9) فريقها، الذي (10) أُوتي جوامعَ الكَلِمِ، فرفعَ منارَها، وشادَ بناءها، واحتسبَ عند الله آثارَها.
          وأسندَ عن سيرته الشريفة كلَّ حديثٍ حسنٍ، وسنَّ مآثرَ أثبتت لعين المؤمن كلَّ قُرَّة، ونَفَتْ عن جفنِ الكافر / كلَّ وَسَن، وكَرَعَتِ الأفهامُ من مناهل سننه الصَّافية في أعذب مَشْرَع، واستمدَّت جداولُ العلماء من ينابيع بلاغته الفارعة كلَّ ما تأصَّلَ أو تفرَّع.
          صلى الله عليه وعلى آله وصحبه (11) _الذين اقتفوا آثاره واتبعوها، وسمعوا مقالته فوعَوها فأَدَّوها كما سمعوها_ صلاةً هي إلى منازل القَبول على يد الإخلاص مرفوعة، عائدةً من فضل (12) الله بصِلاتٍ غيرِ مقطوعة ولا ممنوعة، وسَلَّم عليه وعليهم أجمعين، تسليمًا كثيرًا أبدًا (13) إلى يوم الدين.
          أما بعد:
          فهذه نُكتٌ ساطعةُ الأنوار، عاليةُ المقدار، ماحيةٌ ظُلَمَ المشكلات البهيمة، هاديةٌ إلى أوضح الطرق المستقيمة، جمعتُها على «الجامع الصحيح» للإمام العلامةِ حافظِ الإسلام مولانا أميرِ المؤمنين في الحديث أبي عبدِ الله محمدِ بنِ إسماعيلَ البخاريِّ ☺ وأرضاه، وجعل الجنة متقلَّبه ومثواهُ.
          سميتها بـ: «مصابيح الجامع»، وعلَّقتها على أبوابٍ منه ومواضع، وفَرَّقتُ كثيرًا منها في زواياه؛ ليستعينَ (14) بها النَّاظر على استخراج خباياه، فَدُونَكَها (15) مصابيحَ تحسُدُها الثريا، وتبدو لمجتلي (16) محاسنها مشرقةَ المُحيَّا.
          تحتوي على غريبٍ رأيتُه أهلًا لأن يأنس بتفسيره، وإعرابٍ تفتقر أعجازُ الكلمات إلى صدوره (17)، وفائدةٍ بيانية يشهد الذوق السليم بحلاوة مجانيها، ويدهش أهلُ البيان لبديع معانيها، ودليلٍ يحتمله متنُ الحديث، وفرعٍ غريبٍ قَلَّ مَنْ ذكره من قديم وحديث، وتنبيهٍ طالما كانت العيونُ عنه وَسِنَةً،ونكُتٍ (18) هي في وجه هذا التأليف حَسَنَة، إلى غير ذلك من مباحثَ تمرُّ حلوةَ الجَنَى، وفوائدَ يصبح مالكها (19) في غِنًى عن العَنا.
          مَشَقْتُها (20) برسم خزانة (21) مولانا السلطان الأعظم، والخاقان الأرفع الأكرم، كاشف الكرب، ملاذ (22) سلاطين العجم والعرب، ذي الشيم الطاهرة، والأخلاق الزكية الباهرة، والمكارم التي جاز (23) السحابُ بحرَها فألجمه الغرق، وخجل بشهادة ما ظهر من (24) حمرة البرق، وتحدَّر من القطر كالعرق، الذي جمع إلى شرفِ / السلطنةِ شَرَفَ (25) العلم، وزَانَ وجه القدرة (26) بحسنات الحلم، وأعزَّ أهل الإيمان جدًّا، ولم يجعل لعبدةِ الأوثان من الذِّلة (27) بدًا، ونحاه (28) المؤمِّلُ (29) فابتهج من فضله بما تيسَّر له وتيمَّن، ولجأ إليه وقد أخافه الدهر، فمذ رآه داعيًا ببقاء دولته الشريفة أمَّن، قد أنام الأنام في ظلال (30) العدلِ والأمان، وتقدَّم والناس خلفه، ولا يُنكر ذلك، فهو (31) إمام الزمان، وبلغَ من السيادة (32) نهايةَ الآمال، وترقى من مراتب الإمامة (33) العلية في درجات الكمال، فقُلْ (34) ما شئتَ من خَلْقٍ وسيم، وخُلُقٍ ألطفَ من مرِّ النسيم(35)
تلكَ الشمائلُ لو خُصَّ الشمولُ بها                     يومًا لما قيل للنُّدْمانِ نُدمانُ
ولو حَوى البَدر جزءًا من محاسنهِ (36)                     لم يعترض (37) لكمالِ البدرِ نُقْصانُ
          وذهنٍ يشتعل بالذكاء اشتعالًا (38)، وفكرٍ لا ترى له بغير الصواب اشتغالًا، ولسانٍ (39) يُبرز (40) وجوهَ المعاني حِسانًا، ويدٍ فاضت فملأت الأرض إحساناً، وعلومٍ طالما حشا أصدافَ المسامع بدُرَرِها (41)، وزانَ الوجوهَ الحسانَ بِغُررها، وسلك في طرق المباحث فذلَّلَ صِعابها، ورأى استتارَ وجوهها عن العيون، فكشف نقابها، ومدَّ (42) نظره إلى الفقهيات، فاجتنى أطيبَ الثمرات من فروعها، وورد مناهلها الصَّافية، فأجرى أحسن المسائل من ينبوعها، وأبدى من بدائعها ما فطر قلبَ حاسدهِ وأكمده، وأصبح مالكاً لأزِمَّة النظر في الأحكام الشرعية، فرأينا مذهبَ الإمام (43) أبي حنيفة يؤخذ عن الإمام أحمد، هذا إلى حِلمٍ وَسِع برأفته الرعايا، وبشاشةِ وجهٍ أكسبته (44) أجلَّ المزايا:
وإذا يشاءُ الله رحمةَ أُمةٍ                     وَلَّى أمورَهم الحليمَ الأَرْحَما (45)
          وكرمٍ أوجد المعدومَ وأغنى، وَعَلَت كل يد منه كعباً، ولم يبق لابن زائدة معنًى.
          كم فتحت عيون القُصَّاد في وجوهِ جوده، فقفلت (46) بالمكارمِ، وسافرت بريحِ ثنائه الطيب، فأثبت لها المغانم (47)، ونفى عنها المغارم، وتنبَّهت لعطاياه، فأنشدها لسانُ كرمه وهي منتهية (48)، وآخر يأتي رزقه وهو نائمُ، وشجاعةٍ تشهدُ مصارعُ الفرسان لعجائبها (49)، وتحدِّثُ ألسنةُ الصَّوارم بغرابتها، فكم هنالك من رماحٍ رفعت ألوية النَّصر بقوافلها (50)، وأشارت (51) إلى (52) خفقان قلوب الأعداء من الرايات بأناملها، وسيوفٍ إذا شُهرت يوم القتال بنيت (53) على الفتح، وقابلت شهادة المدعي لمحاكاة فعلها بالجرح، وقِسِيٍّ تطلُع أهلةً في ظُلَم القَتَام (54)، وتقسم للعِداة من الهلاك سهامًا أيَّ سهام، فكأنها قناطرُ (55) تَعْبُر عليها آجال البغاة، أو مناجلُ قد انحنت لتحصد أعمارَ الطُّغاة، إلى غير ذلك من المآثر التي (56) شادَ بها معالمَ المجد وسادَ، وبنى أمرَها على الصلاح فانحسمت مواد الفساد (57)، جامعِ شملِ المهتدين، قامع زيغِ المعتدين، سلطانِ الأئمة العالمين، خافض جناح الرحمة للعالمين، ناصرِ الله (58) والحق (59) والدين: أبي الفتح أحمد شاه، السلطانِ ابنِ السلطان محمد شاه ابن السلطان مظفر شاه:
نسَبٌ كأنَّ عَلَيْه مِنَ شَمْسِ الضحى                     نُورًا وَمِنْ فَلَقِ الصَّبَاحِ عَمُودًا
          فهو الخليفةُ على الخليقةِ، وإمام الوقت على الحقيقةِ، سلطانُ العالم الذي اتصف بمحاسن الأخلاق، وقيَّد أيامه بإسعادِ الرعية وإسعافها، فشكر له ذلك التَّقييد على الإطلاق، ناشر ألوية العدل والإحسان، مفيضُ النعم التي يقصرُ عن شكرها كلُّ لسان، مقيمُ شعائر هذه الشريعة الشريفة، حائزُ قَصَبات السَّبْق إلى المعالي المُنيفة، الذي افترَّتْ (60) به مباسم الإمامة، وتهللت بوجوده وجوهُ الكرامة، وفاخرت به الجزرات الهندية، فثبت فخرها على سائر الممالك، وفازت منه بأعظم المطالب، ونجت بحسن تصريفه من المهالك، وكيف لا وهو الذي لا يزال مقسم (61) الأوقات بين نفع / يُنيله، وضر يُزيله، وفواضل يُسديها، وفضائلَ يُبديها، وعدلٍ يُطوى الجورَ بنشره، ومعروفٍ يتلقى ذوي الحاجات بِبِشْره (62)، ظِلُّ الله على الأنام، خاتمةُ أئمةِ العدل:
إمامٌ يروقُ المقتفي منه موردٌ                     نعم ويروعُ المعتدي منه مصدَرُ
تصومُ سلاطينُ الورى عن كمالِهِ                     وأكبادُهم عند الصيام تَفَطَّر
ويستقبلُ الأَعْداء بماضي حُسامِه                     فكمْ منهمُ (63) في الحال قد بادَ عسكرُ
له راحةٌ قد أتعبتْ كلَّ باذلٍ                     وأضحَتْ على مدِّ المنائح تُقْصِرُ
إذا انبسطَتْ منه لإعطاءِ نائلٍ                     يمينٌ فَثِقْ أن اليسارَ مُيَسَّرُ
به جُزُراتُ الهندِ قد عَزَّ شأنُها                     فمقدارُها يعلو ويغلو ويَفْخَرُ
وما هي إِلا جَنَّةٌ منه حفَّها                     نعيمٌ ورضوانٌ من الله أكبرُ
          أعز الله تعالى (64) أنصاره، وأجزل للمهاجرين إليه مناره، ولا زالت أبوابه الشريفة حرمَ فَضلٍ تُجبى (65) إليه ثمرات العلوم على اختلافها، وسماءَ كَرَمٍ تُدِرُّ سُحبُها الحوافل فَتَرضَعُ أنهارُ (66) الضرورة من أَخلافِها (67).
          ولم أُطِلِ النَّفَس في هذا الكتابَ، ولا مددتُ في كثيرٍ من أماكنه أَطنابَ الإِطناب، بل اقتصرتُ فيه على ما هو أهم، وهتكتُ (68) بأنواره ما دَجا من المشكلات وادْلَهَمَّ.
          وسيعرف قَدرَه مَنْ تصفَّحَه، وينظره المنصِفُ بعينِ الاستحسان إذا لمحه، ويعذرني حيث كتبتُه وجناحُ السفر يَحُثُّني على الطيران، ومشقةُ الغربة وركوب البحر قد استقبلني منهما خطران، على أن باعي في جميع الفنونِ قصير، وإن حَلَّق غيري، فأنا _واللهِ_ من ذوي التقصير.
          ومن الله سبحانه أستمدُّ الإخلاص في القول والعمل، وإليه أرغبُ في أن يبلِّغنا من خَيْرَي الدنيا (69) والآخرة غايةَ الأمل، وبالله ربي لا سواهُ أستعين، وإيَّاه أسأل أن يُسامحنا ويغفرَ لنا أجمعين / بمنِّه ويُمنه (70).


[1] في (د): ((بسم الله الرحمن الرحيم ربنا أفرغ علينا صبراً وتوفنا مسلمين)).
[2] في (ق): ((بسم الله الرحمن الرحيم صلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم صلاة وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم القيامة)).
[3] في (ق) و(د): ((أحاديثها)).
[4] في (ق) و(د): ((حكمتها)).
[5] ((من التنقيح)): ليست في (ق).
[6] ((تعالى)): ليست في (م) و(ق).
[7] في (د): ((صدورها)).
[8] في (ق): ((وتروى)).
[9] في (ق): ((غير)).
[10] في (د): ((التي)).
[11] في (د): ((وأصحابه)).
[12] في (ق): ((عائدة بفضل)).
[13] في (ق): ((كثيراً أثيراً))، ((أبداً)): ليست في (د).
[14] في (ق): ((يستعين)).
[15] في (ق): ((فدونها)).
[16] في (ق): ((المجتلي)).
[17] في (ق): ((صدره)).
[18] في (ق): ((ونكتة)).
[19] في (ق): ((ملكها)).
[20] في (د): ((فسقتها)).
[21] ((خزانة)): ليست في (ق).
[22] في (ق): ((وملاذ)).
[23] في (ق) و(د): ((جارى)).
[24] في (ق): ((في)).
[25] في (د): ((بشرف)).
[26] ((القدرة)): ليست في (د).
[27] ((من الذلة)): ليست في (د).
[28] في (د): ((ونحا له)).
[29] في (ق): ((المؤمن)).
[30] في (ق): ((خلال)).
[31] ((ذلك فهو)): ليست في (د).
[32] في (ق): ((من الزيادات والشرف)).
[33] ((وترقى من مراتب الإمامة)): ليست في (د).
[34] ((فقل)): ليست في (ق) و(د).
[35] في (د): ((وخلق ألطف من النسيم)).
[36] في (ق) و(د): ((محاسنها)).
[37] في (ق): ((يعرض)).
[38] في (د): ((يشتغل بالذكاء اشتغالاً)).
[39] في (ق): ((ولساناً)).
[40] في (ق) زيادة: ((به)).
[41] في (ق): ((بدرها)).
[42] في (ق) و(د) زيادة: ((يد)).
[43] ((الإمام)): ليست في (ق).
[44] في (د): ((أكسته)).
[45] في (ق): ((إلى رحماه)).
[46] في (ق): ((ففعلت)).
[47] في (د): ((الغنائم)).
[48] في (ق) و(د): ((منتبهة)).
[49] في (د): ((لشجاعتها)).
[50] في (ق): ((بعواملها)).
[51] في (ق): ((وأثارت)).
[52] ((إلى)): ليست في (ق).
[53] في (ق): ((تبت)).
[54] في (ق): ((في ظلام القيام)).
[55] في (ق): ((قناطير)).
[56] في (ق): ((الذي)).
[57] ((الفساد)): ليست في (د).
[58] في (د): ((الملة)).
[59] في (ق) و(د) زيادة: ((والشرع)).
[60] في (ق): ((افتخرت)).
[61] في (د): ((يقسم)).
[62] في (ق): ((بنشره)).
[63] في (ق): ((منهموا)).
[64] ((تعالى)): ليست في (ق).
[65] قوله: ((مناره، ولا زالت أبوابه الشريفة حرمَ فضلٍ تجبى)): ليست في (ق)، في (د): ((يجتنى)).
[66] في (ق) و(د): ((أبناء)).
[67] من قوله: ((مَشَقْتُها برسم خزانة مولانا السلطان الأعظم... إلى قوله:......أنهارُ الضرورة من أَخْلافِها)): ليس في (م).
[68] في (ق): ((وجليت)).
[69] ((الدنيا)): ليست في (د).
[70] هذه المقدمة سقطت من نسخة (ج).