مصابيح الجامع

باب التهجد بالليل

          ░░19▒▒ (بابُ التَّهَجُّدِ بِاللَّيْلِ) التهجُّد من الأضداد، وكذا الهجود. قال الجوهريُّ: يقال: هَجَدَ، وتَهَجَّدَ؛ أي: نام ليلًا، وهَجَدَ وتَهَجَّدَ؛ أي: سهر. والمرادُ هنا: السهر.
          ({وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ} [الإسراء:79])؛ قيل: إنما خصَّ بذلك؛ لأنها كانت فريضةً عليه، ولغيره تطوعٌ، فقيل: أقمها نافلة لك (1)، ويروى هذا عن (2) ابن عبَّاس.
          وقال مجاهد: لم يكن فعلُه ذلك يكفِّر عنه شيئًا؛ لأنه قد كان غُفر له ما تقدَّم وما تأخر، فكان نافلةَ فضلٍ وزيادةٍ.
          واعترضه الطبريُّ: بأنه ◙ كان أشدَّ استغفارًا لربِّه بعدَ نزول قوله: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ} (3) [الفتح:2]؛ لأنها نزلت بعد منصرَفِهِ من الحديبية، ونزل: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} [النصر:1]، عامَ قُبض. وقيل له فيهما: {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا} [النصر:3]، فكان (4) بعدُ يستغفرُ الله في المجلسِ الواحد مئة مرَّة، ومعلومٌ أنَّ الله لم يأمره أن يستغفرَ إلا مما يغفره له باستغفارهِ.
          قال ابن المنيِّر ☼: قولُ مجاهدٍ صحيحٌ، والطبريُّ لم يورده (5) على مقصودهِ، وذلك أن مجاهدًا جرى (6) فعلُه على القواعد العقليَّة القطعية (7)؛ فإن التَّكاليف تستدعي الوعدَ والوعيدَ، ولا يُتصوَّر ذنبٌ عقلًا إلا بوعيدٍ، ولو فرضنا أنَّ السيد قال لعبده: لا تفعلْ كذا، وإن فعلتَ، فلا جُناحَ عليكَ ولا حرجَ؛ لاستحالت حقيقةُ النَّهي، واختلطت بالإباحة.
          فعلى هذا يشكل الجمعُ بين التصريح بالمغفرة لكلِّ شيءٍ يقعُ من المكلَّف (8) مع تكليفه الإيجابَ والنهي، ويتعيَّن أن يكون المرادُ بقوله تعالى: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} [الفتح:2]، الإعلامَ بأنه موسَّع عليه، ولا حرجَ يلحقُه في شيءٍ، غير أنَّ الله تعالى علمَ أن نبيَّه لا يفعل إلَّا ما أمر الله به، ولا يرتكب شيئًا ممَّا نَهى عنه، فيرجع التكليفُ (9) إلى الأمَّة، وتكون التَّكاليفُ كلُّها في حقِّ الرسول قرةَ عينٍ وإلهامَ طبعٍ، وتكون صلاته في الدنيا مثلَ تسبيح أهل الجنة في الجنة، ليس على وجهِ الكلفةِ ولا (10) التَّكليف.
          هذا كله يتفرَّع على طريقة إمام الحرمين.
          وأما على (11) طريقةِ القاضي حيث يقول: لو أوجبَ الله شيئًا، لوجب وإن لم يكن وعيدٌ، فلا يمتنعُ حينئذٍ (12) بقاءُ التَّكاليف في حقِّه ◙ على ما كانت عليه مع طمأنينته من ناحية الوعيد، وعلى كلا التَّقديرين، فهو معصومٌ، ولا ذنبَ ولا عتبَ.
          وقول / الطبريُّ: إنما يُستغفر ممَّا يوجب الاستغفار ليس بمستقيم؛ فإنَّه تعريضٌ بوقوع الذَّنب، وإنما الحقُّ أن الاستغفار تعبُّدٌ على الفرض والتَّقدير؛ أي: أَستغفرُك لما (13) عساه أن يقعَ لولا عصمتُك إيَّاي.
          ولهذا تأول كثيرٌ من العلماء قوله تعالى: {مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ} [الفتح:2] على أنَّه ذنب آدمَ، {وَمَا تَأَخَّرَ} [الفتح:2] على أنَّه ذنب الأمة، ولهم فيه وجوهٌ كلها تحوم على اعتقاد العصمة، وعدم تحقيقِ الذنب، وأمَّا قوله ◙: ((اغفِر لي خطايايَ وجَهلي وكلُّ ذلكَ عندِي))، فالتَّحقيق فيه: أن يكون ذلك (14) فرضًا وتقديرًا، كأنه قال: وكلُّ ذلك عندي لولا عصمتُك إيَّاي، وأمَّا (15) مع العصمة، فلا وَصْمةَ (16). والله أعلم.


[1] ((لك)): ليست في (ق) و(ج).
[2] ((عن)): ليست في (د).
[3] في (ج) زيادة: ((الآية)).
[4] في (ق): ((وكان)).
[5] في (ج) و(د): ((يورد)).
[6] في (ج): ((أجرى)).
[7] ((القطعية)): ليست في (ج).
[8] في (ق): ((التكلف)).
[9] في (د): ((التكاليف)).
[10] ((لا)): ليست في (ج).
[11] ((على)): ليست في (ج) و(د).
[12] في (د) زيادة: ((في)).
[13] في (د): ((مما)).
[14] ((ذلك)): ليست في (ق).
[15] في (م): ((وأنا)).
[16] في (ق): ((فلا وجه)).