مصابيح الجامع الصحيح

باب ما جاء في القبلة

          ░32▒ (باب: ما جاء في القِبلة) التَّرجمة
          إشارة: مَذْهب البخاريِّ في هذه المسألة: أنَّ من اجتهد في القِبلة فصلَّى إلى غيرها؛ لا يُعيد، وهو مَذْهب أبي حنيفة وأصحابه وإبراهيم والشعبيِّ وعطاء وسَعيد بن المسيِّب؛ قاله بعضهم.
          اعلم أّنَّ من صلَّى بالاجتهاد فتيقَّن الخطأ؛ فإنَّه يقضي عندنا في الأظهر، والثَّاني وهو مذهب الأئمَّة الثَّلاثة لا يَقْضي، ونقله التِّرمذيُّ عن أكثر أهل العلم، واختاره المزنيُّ.
          وقال ابن بطَّال: اختلفوا في هذه المَسْألة، فقال أبو حنيفة: لا يعيد، وقال النَّخعيُّ: إن عَرَفَ الخطأ قبل الفراغ؛ لا يعيد ذلك البعضَ، بل يَبْني عليه ويتمَّ كما فَعَلوا بقباء، وقال مالكٌ: يعيد استحبابًا، وقال الشَّافعيُّ: إن فرغ من الصَّلاةِ ثمَّ بانَ له الخطّأ؛ استأنف، وإن لم يَبن له إلَّا باجتهاده؛ فلا إعادة عليه، والَّذي ذهبَ إليه البخاريُّ أنَّه لا يعيد.
          قال ابن القصَّار: لأنَّ المجتهدَ في القِبلةِ إنَّما أُمِرَ بالطَلب ولم يكلَّف الإصابة، وإنَّما أمر الله بإصابة عين القِبلة من نظر إليها.
          وأمَّا من غاب عنها؛ فلا سبيل له إلى عِلمِ حقيقتها؛ لأنَّه إنَّما يعلمها بغَلَبَةِ الظَّنِّ من مهبِّ الرِّياح ومسير النُّجوم، وإذا كان كذلك؛ فإنَّما يرجع من اجتهادٍ إلى اجتهاد، فلا يرتفع حكم الاجتهاد والأوَّل؛ كالحاكم يحكم باجتهادٍ ثمَّ يتبيَّن له اجتهادٌ آخرُ، فلا يجوز له فسخَ الأوَّل، وليس للشَّافعيِّ أن يقول: قد رجع من اجتهادٍ إلى يقين؛ لأنَّه لا يتيقَّن أصلًا، بل يغلب على ظنِّه.
          أقول: وللشَّافعيِّ أن يقول: احتمال حصول اليقين في بعض الأمكنة والأزمنة ممكنٌ، فلا وجه لقوله: (لا يتيقَّن أصلًا)، ثمَّ إنَّ القياس على الحاكم غير صحيحٍ؛ لأنَّ محلَّ الاجتهاد في الحكم واحد، وأمَّا في الصَّلاة؛ فمتغيِّر؛ لأنَّ ما صلَّى بالاجتهاد الأوَّل غير ما صلَّى بالثَّاني.
          وقال المهلَّب: وجه احتجاج البخاريِّ بحديث ابن عمر؛ هو انحرافهم إلى القبلة الَّتي فُرِضَت عليهم، وهم في انحرافهم يصلُّون لغير القِبلة، ولم يُؤمَروا بالإعادة، بل بَنَوا على ما كانوا صلَّوا حالَ الانحراف وقبله، فكذلك المجتهد في القِبلة، لا تلزمه الإعادة.
          وقد أشار البخاريُّ في التَّعليق الَّذي في التَّرجمة إليه، وذلك أنَّ انصرافه ◙ وإقباله على النَّاس؛ كان وهو عند نفسه أنَّه في غير صلاة، فلمَّا بَنى على غير صلاته؛ ظهر أنَّه كان في وقت الإقبال عليهم في حُكمِ المصلِّي؛ لأنَّه لو خرج من الصَّلاةِ؛ لم يجز له أن يبنيَ على مَا نقص منهَا، فوجب بهذا أنَّ من أخطأ القِبلة لا يعيد.
          وقال الطَّحاويُّ في قصَّة أهل قباء: دليل أنَّه من لم يعلم بفرضِ الله سبحانه، ولم تبلغه الدَّعوة إليه، ولم يمكنه علم ذلك من غيره؛ فالفرض في ذلك غير لازم. /
          فائدة: السِّرُّ في كون عمر ╩ لم يقنع بما في شريعتنا؛ حتَّى طلبَ الاستنان بملَّة سيِّدنا الخليل ◙، وقد نهاه الشَّارع عن مثل هذا حين أتى بأشياء من التَّوراة، فقال له: «أمِطها عنك يا عمر» أنَّ عمر لمَّا سَمع قولَه تعالى: {إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا} [البقرة:124] ثمَّ سمع: {أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيْمَ حَنِيْفًا} [النَّحل:123]؛ علم أنَّ الائتمام به مَشْروع في شرعنا دون غيره من الأنبياء، ثمَّ رأى أنَّ البيت مضاف إليه، وأنَّ أثرَ قدميه في المقام كرسمِ اسمِ الباني في البناء؛ ليُذكَر به بعدَ موته؛ فرأى الصَّلاةَ عندَ المقام كقراءةِ الطَّائفِ بالبيتِ اسمَ من بناه، فوقعت موافقته في رأيه.
          وأمَّا غير سيِّدنا إبراهيم ◙ من الأنبياء؛ فلا يجري مجراه على أنَّ هذا القدر من شرع سيِّدنا إبراهيم ◙ مَعْلوم قطعًا، وما في أيدي الكتابين من التَّوراة والإنجيل أمر متغيِّر مُبدَّل، انتهى.
          قوله: (فَصَلَّى) تفسير لقوله: (سها) والفاء تفسيريَّة.
          فائدة: مُناسبة هذا التَّعليق للتَّرجمةِ من جهةِ أنَّه جعل زمان الإقبال على النَّاسِ داخلًا في حُكم الصَّلاةِ، ولا شكَّ أنَّه كان بالسَّهو، فهو في ذلك الزَّمانِ ساهٍ مصلٍّ إلى غيرِ القبلةِ.