هدى الساري لمقدمة فتح الباري

من كتاب الطهارة

           من كتاب الطهارة
          الحَدِيْثُ الأوَّلُ [خ¦156] : قالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: أخرجَ البُخَارِيُّ عَنْ أَبِي نُعَيْمٍ عَنْ زُهَيْرٍ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، _قَالَ: ليسَ أبو عُبَيْدَةَ ذَكَرَهُ_، ولكن عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ الْأَسْوَدِ عَنْ أَبِيْهِ عَنْ عَبْدِ اللهِ، قَالَ: أَتَيْتُ النَّبِيَّ صلعم بِحَجَرَيْنِ ورَوْثَةٍ، الحَدِيْثُ في الاسْتِجْمَارِ.
          قَالَ: وَقالَ إبْرَاهِيْمُ بْنُ يُوْسُفَ عَنْ أَبِيْهِ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الأَسْوَدِ، عَنْ أَبِيهِ بهذَا، انتهى.
          ثُمَّ ساقَ الدَّارَقُطْنِيُّ وُجُوْهَ الاخْتِلَافِ فيهِ على أبي إِسْحَاقَ، فَمِنْهَا رِوَايَةُ إِسْرَائِيْلَ عنهُ عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ عَنْ أَبِيْهِ، ومِنْهَا رِوَايَةُ مَالِكِ بْنِ مِغْوَلٍ وَغَيْرِهِ عنهُ عن الْأَسْوَدِ عنْ عَبْدِ اللهِ مِنْ غيرِ ذِكْرِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، ومنها رِوَايَةُ زكريَّا بْنِ أَبِي زَائِدَةَ عنهُ [214/أ] عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَزِيْدَ عن الْأَسْوَدِ، ومنها رِوَايَةُ مَعْمَرٍ عنهُ عن عَلْقَمَةَ عن عَبْدِ اللهِ، ومِنْهَا رِوَايَةُ يُونسَ بْنِ أَبِي إِسْحَاقَ عن أبيهِ عن أبي الْأَحْوَصِ عن عَبْدِ اللهِ.
          قالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: وأحْسَنُهَا سِيَاقَاً الطريقُ الأُوْلَى الَّتي أخرجَهَا البُخَارِيُّ، لكنْ في النَّفْسِ مِنْهَا شَيء لكثرَةِ الاخْتِلَافِ فيهِ على أَبِي إِسْحَاقَ، انتهى.
          وأخرجَ التِّرْمذِيُّ في ((جامعهِ)) حَدِيْثَ إِسْرَائِيْلَ المذكورَ، وَحَكَى بعضَ الخلافِ فيهِ، ثُمَّ قَالَ: هذا حَدِيْثٌ فيه اضطرابٌ، وسألَتُ عَبْدَ اللهِ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ يَعْنِي الدَّارِمِيَّ عنه فلم يَقْضِ فيهِ بِشَيء، وسألْتُ محمَّدَاً يَعْنِي البُخَارِيَّ عنهُ فلم يقضِ فيه بشيءٍ، وكأنَّهُ رَأَى حَدِيْثَ زُهَيْرٍ أَشْبَهَ، وَوَضَعَهُ في ((الجامعِ)).
          قالَ التِّرْمذِيُّ: والأصحُّ عِنْدِي حَدِيْثُ إِسْرَائِيْلَ، وقد تابَعَهُ قَيْسُ بْنُ الرَّبِيْعِ، قالَ التِّرْمذِيُّ: وزُهَيْرٌ إِنَّمَا سَمِعَ من أَبِي إِسْحَاقَ بآخِرَةٍ، انتهى.
          وَحَكَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ أَبِيْهِ وَأَبِي زُرْعَةَ أَنَّهُمَا رجَّحَا رِوَايَةَ إِسْرَائِيْلَ، فَكَأَنَّ التِّرْمذِيَّ تَبِعَهُمَا في ذلِكَ.
          والذي يظهرُ أنَّ الذي رَجَّحَهُ البُخَارِيُّ هو الأرجحُ، وبيانُ ذلِكَ أنَّ مجموعَ كلامِ هؤلاءِ الأئمَّةِ مُشْعِرٌ بأنَّ الراجحَ على الرِّوَايَاتِ كُلِّهَا إما طريقُ إِسْرَائِيْلَ، وهي عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ عن أَبِيْهِ، وأَبُوْ عُبَيْدَةَ لم يسمعْ مِنْ أَبِيْهِ فيكونُ الإسنادُ مُنْقَطِعَاً، أو رِوَايَةُ زُهَيْرٍ، وهي عن عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْأَسْوَدِ عن أبيهِ عن ابْنِ مَسْعُوْدٍ فيكونُ مُتَّصِلَاً، وهو / تَصَرُّفٌ صحيحٌ؛ لأنَّ الأسانيدَ فيهِ إلى زُهَيْرٍ وإلى إِسْرَائِيْلَ أثبتُ من بقيَّةِ الأسانيدِ، وإذا تقرَّرَ ذلك كانَتْ دعوى الاضطرابِ في هذا الحَدِيْثِ مُنْتَفِيَةً؛ لأنَّ الاخْتِلَافَ على الحفَّاظِ في الحَدِيْثِ لا يُوْجِبُ أنْ يكونَ مُضْطَرِبَاً إِلَّا بشرطينِ:
          أَحَدِهِمَا: استواءُ وجوهِ الاخْتِلَافِ، فمتى رُجِّحَ أَحَدُ الأقوالِ قُدِّمَ، ولا يُعَلُّ الصَّحِيحُ بالمرجُوْحِ.
          ثانِيْهِمَا: معَ الاستواءِ أن يتعذَّرَ الجمعُ على قواعدِ المحدِّثينَ، أو يَغْلُبُ على الظَّنِّ أن ذلكَ الحافظَ لم يضبطْ ذلك الحَدِيْثَ بِعَيْنِهِ، فَحِيْنَئِذٍ يُحْكَمُ على تلكَ الرِوَايَةِ وَحْدَهَا بالاضطرابِ، ويتوقفُ عن الْحُكْمِ بصحَّةِ ذلكَ الحَدِيْثِ لذلك، وهنا يظهرُ عدمُ استواءِ وُجُوْهِ الاخْتِلَافِ على أَبِي إِسْحَاقَ فيهِ؛ لأنَّ الرِّوَايَاتِ المختلفَةَ عنْهُ لا يَخْلُو إِسْنَادٌ مِنْهَا مِنْ مَقَالٍ غيرَ الطريقينِ الْمُقَدَّمِ ذِكْرُهُمَا عن زُهَيْرٍ وعن إِسْرَائِيْلَ مع أنه يمكنُ ردُّ أكثرِ الطرقِ إلى رِوَايَةِ زُهَيْرٍ، والذي يظهرُ بعدَ ذلكَ تقديمُ رِوَايَةِ زُهَيْرٍ؛ لأنَّ يُوْسُفَ بْنَ إِسْحَاقَ بْنَ أَبِي إِسْحَاقَ قد تابعَ زُهَيْرَاً، وقد رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ في ((الْمُعْجَمِ الْكَبِيْرِ)) من رِوَايَةِ يَحْيَى بن أبي زَائِدَةَ عن أَبِيْهِ عن أَبِي إِسْحَاقَ كرِوَايَة زُهَيْرٍ، وَرَوَاهُ أَبو بَكْرِ بن أَبِي شَيْبَةَ في ((مُصَنَّفِهِ)) من طريقِ لَيْثِ بن أبي سُلَيْمٍ عن عَبْدِ الرَّحمنِ بن الْأَسْوَدِ عن أبيهِ عن ابنِ مَسْعُوْدٍ كرِوَايَةِ زُهَيْرٍ عن أبي إِسْحَاقَ، ولَيْثٌ وإن كانَ ضَعِيْفَ الْحِفْظِ فإنَّهُ يُعَتَبَرُ بِهِ ويستشهدُ، فيعرفُ أنَّ له من رِوَايَةِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بن الْأَسْوَدِ عن أبيهِ أَصْلَاً.
          ثُمَّ إنَّ ظاهرَ سِيَاقِ زُهَيْرٍ يُشْعِرُ بأنَّ أَبَا إِسْحَاقَ كانَ يَرْوِيْهِ أولاً عن أبي عُبَيْدَةَ عن أبيهِ ثُمَّ رَجَعَ [214/ب] عن ذلكَ، وصَيَّرَهُ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْأَسْوَدِ عَنْ أَبِيْهِ، فهذا صريحٌ في أنَّ أَبَا إِسْحَاقَ كانَ مُسْتَحْضِرَاً للسَّنَدَيْنِ جَميعاً عِنْدَ إرادةِ التحَدِيْثِ ثُمَّ اختارَ طريقَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ وأضربَ عن طريقِ أَبِي عُبَيْدَةَ، فإمَّا أنْ يكونَ تذكَّرَ أنَّهُ لم يَسْمَعْهُ من أَبِي عُبَيْدَةَ، أو كانَ سَمِعَهُ منهُ وحدَّثَ بهِ عنهُ ثُمَّ عُرِفَ أنَّ أَبَا عُبَيْدَةَ لم يسمعْ من أبيهِ فيكونُ الإسنادُ مُنْقَطِعَاً، فَأَعْلَمَهُمْ أنَّ عندَهُ فيهِ إسناداً مَتَّصَلاً، أو كانَ حدَّثَ بهِ عن أبي عُبَيْدَةَ مُدَلِّسَاً لَهُ ولم يكنْ سَمِعَهُ منهُ، فإنْ قيلَ: إذا كانَ أبو إِسْحَاقَ مُدَلِّسَاً عندَكُمْ فَلِمَ تَحْكمونَ لطريقِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْأَسْوَدِ بالاتصالِ مع إمكانِ أن يكونَ دَلَّسَهُ عنهُ أيضاً، وقد صَرَّحَ بذلكَ أبو أَيُّوْبَ سُلَيْمَانُ بنُ دَاوُدَ الشَّاذَكُوْنِي فيما حكاهُ الْحَاكِمُ في ((علومِ الحَدِيْثِ)) عنه، قَالَ: في قولِ أبي إِسْحَاقَ ليسَ أبو عُبَيْدَةَ ذَكَرَهُ، ولكن عَبْدُ الرَّحْمنِ عَنْ أبيهِ، ولم يقلْ حَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ، وأَوْهَمَ أنَّه سَمِعَهُ منهُ تَدْلِيْسٌ، وَمَا سمعتُ بتدليسٍ أعجبَ مِنْ هَذَا، انتهى كَلامُهُ.
          والجوابُ أنَّ هذا هو السببُ الحَامِلُ لسياقِ البُخاريِّ للطريقِ الثَّانيةِ عن إبْرَاهِيْمَ بن يُوْسُفَ بن إِسْحَاقَ بنُ أبي إِسْحَاقَ الَّتي قالَ فِيْهَا أبو إِسْحَاقَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ، فانْتَفَتْ رِيْبَةُ التَّدلِيسِ عن أبي إِسْحَاقَ في هذا الحَدِيْثِ، وبيَّنَ حَفِيْدُهُ عنهُ أنَّهُ صرَّحَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بالتحَدِيْثِ، ويتأيَّدُ ذلكَ بأنَّ الإِسْمَاعِيْلِيَّ لما أخرجَ هذا الحَدِيْثَ في ((مُسْتَخْرَجِهِ على الصحيحِ)) من طريقِ يَحْيَى بن سَعِيْدٍ القَطَّانِ عن زُهَيْرٍ استدلَّ بذلكَ على أنَّ هذا مِمَّا لم يُدَلِّسْ فيهِ أَبُوْ إِسْحَاقَ، قَالَ: لأنَّ يَحْيَى بن سَعِيْدٍ لا يَرْضَى أنْ يأخذَ عن زُهَيْرٍ ما ليسَ بسماعٍ لِشَيْخِهِ، وكأنَّهُ عَرَفَ هذا بالاستقراءِ من حالِ يَحْيَى، والله أعلمُ.
          وإذا تقرَّر ذلِكَ لم يبقَ لِدَعْوَى التَّعْلِيْلِ عليهِ مَجَالٌ؛ لأنَّ رِوَايَتِي إِسْرَائِيْلَ وزُهَيْرٍ لا تعارضَ بينهما إِلَّا أنَّ رِوَايَةَ زُهَيْرٍ أَرْجَحُ لأنَّهَا اقْتَضَتْ [الإضرابَ](1) عن رِوَايَةِ إِسْرَائِيْلَ، ولم / تقتضِ ذلِكَ رِوَايَةُ إِسْرَائِيْلَ، فَتَرَجَّحَتْ رِوَايَةُ زُهَيْرٍ، وأما مُتَابَعَةُ قَيْسِ بْنِ الرَّبِيعِ لرِوَايَةِ إِسْرَائِيْلَ، فإنَّ شَرِيْكَاً القاضِي تَابَعَ زُهَيْرَاً، وشَرِيْكٌ أَوْثَقُ من قَيْسٍ، على أنَّ الذي حَرَّرْنَاهُ لا يردُّ شيئاً من الطريقينِ إلا [أنَّهُ](2) يوضحُ قُوَّةَ طريقِ زُهَيْرٍ واتَّصَالِهَا وتَمُكُّنِهَا من الصحةِ وبُعْدَ إعْلَالِهَا، وبهِ يظهرُ نفوذُ رَأْيِ البُخاريِّ وثقوبُ ذُهْنِهِ، واللهُ أعلمُ، وقد أخرجَ البُخَارِيُّ من حَدِيْثِ أبي هُرَيْرَةَ ما يشهدُ لصحةِ حَدِيْثِ ابنِ مَسْعُوْدٍ فَازْدَادَ قوَّةً بذلكَ.
          فانظرْ إلى هذا الحَدِيْثِ كيفَ حَكَمَ عليهِ بِالمرْجُوْحِيَةِ مثلُ أبي حَاتِمٍ، وأبي زُرْعَةَ، وهُمَا إِمَامَا التَّعْلِيْلِ، وتَبِعَهُمَا التِّرْمِذِيُّ، وتَوَقَّفَ الدَّارِمِيُّ، وحَكَمَ عليهِ بالتَّدلِيسِ الموجِبِ للانقطاعِ أَبُوْ أَيُّوْبَ الشَّاذَكُوْنِيُّ، ومع ذلِكَ فَتَبَيَّنَ بِالتَنْقِيْبِ والتَّتَبُّعِ التامِّ أن الصَّوَابَ في الْحُكْمِ له بالراجِحِيَةِ، فما ظَنُّكَ بِمَا يدَّعِيْهِ مَنْ هو دونَ هؤلاءِ الحُفَّاظِ النُّقَادِ من العِلَلِ، هل يُسَوَّغُ أن يُقْبلَ منهم في حقِّ مثلِ هذا الإمامِ مُسَلَّمَاً؟ كلا واللهِ، واللهُ الموفقُ.
          الحَدِيْثُ الثَّانِي(م) [خ¦218] : [215/أ] قالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: وَأَخْرَجَا جَمِيْعَاً _ يَعْنِي البُخاري ومُسْلِماً_ حَدِيْثَ الأَعْمَشِ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنْ طَاوُسٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ يَعْنِي في قِصَّةِ القَبْرَيْنِ، وأنَّ أَحَدَهُمَا كَانَ لا يَسْتَبْرِئُ مِنْ بَوْلِهِ، قَالَ: وَقَدْ خالفهُ مَنْصُورٌ، فَقَالَ: عَنْ مُجَاهِدٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، وأخرجَ البُخاريُّ حَدِيْثَ مَنْصُورٍ على إسقاطِهِ طَاوُسَاً، انتهى.
          وهذا الحَدِيْثُ أخرجَهُ البُخَارِيُّ في الطهارةِ عن عُثْمَانَ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ جَرِيْرٍ، وفي الأدبِ [خ¦6055] عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سَلَامٍ عن عَبِيْدَةَ بْنِ حُمَيْدٍ كلاهُمَا عن مَنْصُورٍ بِهِ، وَرَوَاهُ من طُرُقٍ أُخْرَى من حَدِيْثِ الأَعْمَشِ، وأخرجَهُ بَاقِي الأئمَّةِ السِّتَةِ من حَدِيْثِ الأَعْمَشِ أيضاً، وأخرجَهُ أبو دَاوُدَ أيضاً، والنَّسَائِيُّ، وابنُ خُزَيْمَةَ في ((صحيحهِ)) من حَدِيْثِ مَنْصُورٍ أيضاً، وقالَ التِّرْمذِيُّ بعدَ أن أَخْرَجَهُ: رَوَاهُ مَنْصُورٌ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، وحَدِيْثُ الأَعْمَشِ أَصَحُّ يَعْنِي الْمُتَضَمِّنُ لِلزِّيَادَةِ.
          قلتُ: وهذا في التحقيقِ ليسَ بِعِلَّةٍ؛ لأنَّ مُجَاهِدَاً لم يوصفْ بالتَّدلِيْسِ، وسمَاعُهُ من ابنِ عَبَّاسٍ صحيحٌ في جملةٍ من الأَحَادِيْثِ، ومَنْصُورٌ عندهُمْ أَتْقَنُ من الأَعْمَشِ مع أنَّ الأَعْمَشَ أيضاً من الحفَّاظِ فالحَدِيْثُ كَيْفَمَا دارَ دارَ على ثِقَةٍ، والإسنادُ كَيْفَمَا دارَ كانَ مُتَّصِلَاً فمثلُ هذا لا يقدحُ في صحةِ الحَدِيْثِ إذا لم يكنْ رَاوِيْهِ مُدَلِّسَاً، وقد أكثرَ الشَّيْخَانِ من تخريجِ مثلِ هذا، ولم يستوعبِ الدَّارَقُطْنِيُّ انْتَقَادَهُ، واللهُ الموفقُ.
          الحَدِيْثُ الثَّالِثُ(م) [خ¦292] : قالَ الدَّارَقُطْنِيُّ فِيْمَا قرأتُ بِخَطَّهِ: وأخرجَ البُخَارِيُّ عن أَبِي مَعْمَرٍ عَنْ عَبْدِ الوَارِثِ عَنْ الحُسَيْنِ الْمُعَلِّمِ عن يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيْرٍ عن أَبِي سَلَمَةَ عَنْ عَطَاءَ بْنِ يَسَارٍ عن زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الجُهَنِيِّ أنَّهُ سَأَلَ عُثْمَانَ بن عَفَّانَ عنْ الرَّجُلِ يُجَامِعُ أَهْلَهُ ولا يُمْنِي، فَقالَ عُثْمَانُ: يَتَوَضَّأُ وَيَغْسِلُ ذَكَرَهُ سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُوْلِ اللهِ صلعم.
          قَالَ: وسَأَلْتُ عَنْ ذلك عَلِيَّاً، والزُّبَيْرَ، وطَلْحَةَ، وأُبَيَّ بن كَعْبٍ فَأَمَرُوْهُ بِذَلِكَ.
          قال يَحْيَى بنُ أبِي كَثِيْرٍ: وَأَخْبَرَنِي أبو سَلَمَةَ أيضاً أنَّ عُرْوَةَ أَخْبَرَهُ أَنَّ أَبَا أَيُّوْبَ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ سَمِعَ ذلك مِنْ رَسُوْلِ اللهِ صلعم.
          قالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: هذا وَهْمٌ وهو قَوْلُهُ: إِنَّ أَبَا أَيُّوْبَ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ سَمِعَ ذلِكَ مِنْ رسولِ الله صلعم؛ لأنَّ أَبَا أَيُّوْبَ لم يَسْمَعْهُ منْ رَسُوْلِ اللهِ صلعم، إِنَّمَا سَمِعَهُ مِنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، كذلِكَ رَوَاهُ هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيْهِ، وقدْ أخرجَهُ البُخَارِيُّ من حَدِيْثِ هِشَامٍ على الصَّوَابِ، انتهى.
          وقد وافَقَ البُخاريَّ مُسْلِمٌ على تخريْجِهِ على الوجهينِ، وقالَ الخطيبُ: قَوْلُهُ إنَّ أَبَا أَيُّوْبَ سَمِعَ ذلك مِنَ النَّبِيِّ صلعم خطأٌ، فإنَّ جَمَاعَةً من الحفَّاظِ رَوَوْهُ عن هِشَامٍ عن أبيهِ / عن أَبِي أَيُّوْبَ عن أُبَيِّ بن كَعْبٍ.
          قلتُ: وغايةُ ما في هذا أنَّ أَبَا سَلَمَةَ وهِشَامَاً اخْتَلَفَا فزادَ هِشَامٌ فيهِ ذِكْرَ أُبَيِّ بن كَعْبٍ، ولا يمنعُ ذلِكَ أن يكونَ أبو أَيُّوْبَ سَمِعَهُ من رسولِ الله صلعم، وسَمِعَهُ أيضاً من أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ عن النَّبِيِّ صلعم، مع أَنَّ أَبَا سَلَمَةَ أَجَلُّ وَأَسَنُّ وَأَتْقَنُ مِنْ هِشَامٍ، بلْ هو من أقرانِ عُرْوَةَ والدِ هِشَامٍ فكيفَ يُقْضَى لهِشَامٍ عليهِ؟ [215/ب] بل الصَّوَابُ أنَّ الطريقينِ صَحِيْحَانِ، ويحتملُ أن يكونَ اللفظُ الذي سَمِعَهُ أبو أَيُّوْبَ من أُبَيِّ بن كَعْبٍ غيرَ اللفظِ الذي سَمِعَهُ من النَّبِيِّ صلعم؛ لأنَّ سِيَاقَ حَدِيْثِ أُبَيِّ بن كَعْبٍ عِنْدَ البُخاريِّ يَقْتَضِي أنَّهُ هو الذي سَأَلَ النَّبِيَّ صلعم عَنْ هذهِ المسألةِ فَتَضَمَّنَ زِيَادَةَ فَائِدَةٍ، وحَدِيْثُ أبي أَيُّوْبَ عِنْدَهُ لم يسقْ لَفْظَهُ بل أحالَ بِهِ على حَدِيْثِ عُثْمَانَ كَمَا تَرَى، وعلى تقديرِ أنْ يكونَ أبو أَيُّوْبَ في نفسِ الأمْرِ لم يَسْمَعْهُ إِلَّا من أُبَيِّ بن كَعْبٍ فَهُوَ مرسلُ صَحَابِيٍّ، وقد اتَّفَقَ المحدِّثونَ على أنَّهُ في حكمِ الموصولِ.
          وقد أخرجَ مُسْلِمٌ في ((صحيحهِ)) شَبِيْهَاً بهِ ولم يَتَعَقَّبْهُ الدَّارَقُطْنِيُّ، وهو حَدِيْثُ ابنِ عَبَّاسٍ في قِصَّةِ إِرْسَالِ مُعَاذِ بنِ جَبَلٍ إلى اليَمَنِ، فإنَّ في بعضِ الرِّوَايَاتِ عن ابنِ عَبَّاسٍ عن مُعَاذٍ، وفي بَعْضِهَا عن ابنِ عَبَّاسٍ قالَ: أَرْسَلَ النَّبِيُّ صلعم مُعَاذَاً، وَتَعَقَّبَ القاضي أَبو بَكْرٍ بنُ العَرَبِيِّ حَدِيْثَ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ، وزَعَمَ أنَّ فيهِ ثَلاثَ عِلَلٍ فَقَالَ:
          الأولى: أَنَّ مَدَارَهُ عَلَى حُسَيْنِ بْنِ ذَكْوَانَ المُعَلِّمِ، ولم يُصَرِّحْ بِسَمَاعِهِ لَهُ من يَحْيَى بن أبِي كَثِيْرٍ، وِإِنَّمَا جَاءَ عن حُسَيْنٍ قالَ: قال يَحْيَى بن أبِي كَثِيْرٍ.
          الثَّانيةُ: أنَّهُ خُوْلِفَ فيهِ فَرَوَاهُ غيرُهُ عن يَحْيَى بن أبِي كَثِيْرٍ مَوْقُوْفَاً غيرَ مَرْفُوْعٍ.
          الثَّالِثَةُ: أَنَّ أبا سَلَمَةَ أيضاً قد خُوْلِفَ فيهِ فَرَوَاهُ زَيْدُ بن أَسْلَمَ عن عَطَاءِ بن يَسَارٍ عَنْ زَيْدِ بن خَالِدٍ مَوْقُوْفَاً عَنْ جَمَاعَةٍ من الصَّحَابَةِ.
          قلتُ: والجوابُ عن الأُوْلَى أَنَّ ابنَ خُزَيْمَةَ، والسَّرَّاجَ، والإِسْمَاعِيْلِيَّ، وَغَيْرَهُمْ رَوَوا الحَدِيْثَ من طريقِ حُسَيْنٍ الْمُعَلِّمِ صَرَّحُوْا فيهِ بالإخْبَارِ، ولفظُ السَّرَّاجِ بِسَنَدِهِ إلى حُسَيْنٍ: أخبرنَا يَحْيَى بن أبِي كَثِيْرٍ أن أبا سَلَمَةَ حَدَّثَهُ، إلى آخره.
          وأما الجوابُ عن الثَّانيةِ والثَّالثَةِ فَالتَّعْلِيْلُ المذكورُ بِهِمَا غيرُ قَادِحٍ لأنَّ رِوَايَةَ حُسَيْنٍ مُشْتَمِلَةٌ على الرفعِ والوقفِ مَعَاً فإذا اشتملَ غَيْرَهُمَا على الموقوفِ فقطْ كانَتْ هِيَ مشتملةً على زِيَادَةٍ لا تُنَافي الرِوَايَةَ الأُخْرَى فَتُقْبَلُ من الحافظِ وهو كذلكَ فَتَبَيَّنَ أن التعليلَ بذلِكَ ليسَ بِقَادِحٍ، والله أعلم.


[1] في ط: الاضطراب.
[2] في ط: أن.