هدى الساري لمقدمة فتح الباري

السبب الباعث للبخاري على تصنيف جامعه

          المقدمة
          الفصلُ الأوَّلُ:
          في بيانِ السببِ الباعِثِ لأبي عبدِ اللهِ البُخَارِيِّ على تصنيفِ جامعِهِ [الصَّحيحِ](1) وبيانِ حُسْنِ نِيَّتِهِ في ذلكَ
          اعلمْ _علَّمني اللهُ وَإِيَّاكَ_ أَنَّ آثارَ النَّبيِّ صلعم لم تكنْ في عَصْرِ أصحابِهِ وكِبَارِ تَبَعِهِمْ مُدوَّنَةً في الجَوَامِعِ، ولا مُرتَّبةً لأمريْنِ:
          أحدهما: أَنَّهُمْ كانوا في ابتداءِ الحالِ قد نُهوا عن ذلكَ، كما ثبتَ في ((صحيح مسلم))؛ خشيةَ أن يَخْتَلِطَ بعضُ ذلك بالقرآنِ العظيمِ.
          وثانيهما: لِسَعَةِ حِفْظِهِمْ، وسَيَلَانِ أَذْهانِهِمْ، ولأنَّ أكثرَهُمْ كانوا لا يَعرفونَ الكتابةَ، ثمَّ حَدَثَ في أواخرِ عصرِ التَّابعينَ تَدْوِيْنُ الآثارِ، وتبويبُ الأخبارِ لمَّا انتشرَ العلماءُ في الأمصارِ، وكثُر الابتداعُ من الخوارجِ، والرَّوافضِ، ومُنكرِي الأقدارِ.
          فأوَّلُ من جمعَ في ذلكَ الرَّبيعُ بن صَبيحٍ، وسعيدُ بنُ أبي عَرُوْبَةَ، وغيرُهُمَا، وكانوا يُصَنِّفُوْنَ كلَّ بابٍ على حِدَةٍ، إلى أنْ قامَ كبارُ أهلِ الطَّبَقَةِ الثَّالثةِ فدوَّنُوْا الأحكامَ، فصنفَ الإمامُ مالكٌ المُوطأَ، وتوخَّى فيهِ القويَّ من حديثِ أهلِ الحِجَازِ، ومزجَهُ بأقوالِ الصَّحابةِ وفتاوى التَّابعينَ ومن بَعْدَهُمْ، وصنَّفَ أَبُوْ محمَّدِ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ جُرَيْجٍ بِمَكَّة، وَأَبُوْ عُمَرَ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عُمَرٍو الاَوْزَاعِي بِالشَّامِ، وَأَبُوْ عَبْدِ اللهِ سُفْيَانُ بْنُ سَعِيْدٍ الثَّوْريُّ بِالْكُوفَةِ، وَأَبُوْ سَلمَة حَمَّادُ بن سَلمَةَ بن دِينَارٍ بِالْبَصْرَةِ.
          ثمَّ تَلَاهُمْ كثيرٌ من أهلِ عَصْرِهِمْ في النَّسجِ على مِنوالِهِمْ، إلى أنْ رأى بعضُ الأئمَّةِ منهم أن يُفْرِدَ حديثَ النَّبيِّ صلعم خَاصَّةً، وذلكَ على رأسِ المائتينِ، [فصَنَّفُوْا المسانيدَ](2) :
          فصَنَّفَ عُبَيْدُ اللهِ بْنُ مُوْسَى العَبْسِيُّ الكوفيِّ مُسْنَدَاً.
          وصَنَّفَ مُسَدَّدُ بْنُ مُسَرْهَدٍ البَصِرِيُّ مُسْنَداً.
          وصَنَّفَ أَسَدُ بْنُ مُوْسَى الأمويُّ مُسْنَدَاً.
          وصَنَّفَ نُعَيْمُ بْنُ حَمَّادٍ الخُزَاعِيُّ نزيلُ مِصْرَ مُسْنَدَاً.
          ثمَّ اقتفى الأئمَّةُ بعدَ ذلكَ أَثَرَهُم، فقلَّ إمامٌ من الحفَّاظِ إلَّا وصنَّفَ حديثَهُ [3/أ] على المسانيدِ؛ كالإِمَامِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، وَإِسْحَاقَ بْنِ رَاهَوَيْهٍ، وعُثْمَانَ بنِ أَبي شَيْبَةَ، وغيرِهِمْ مِنَ النُّبلاءِ.
          ومنهم من صنَّفَ على الأبوابِ وعلى المَسانيدِ معاً، كأَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ، فلمَّا رأَى البُخاريُّ __ هذهِ / التصانيفَ، وَرَوَاهَا، وانتشقَ رَيَّاهَا، واسْتَجْلَى مُحَيَّاهَا، وَجَدَهَا بِحَسبِ الْوَضعِ جَامِعَةً بَينَ مَا يدْخُلُ تَحتَ التَّصْحِيْحِ والتَّحْسِيْنِ، وَالْكثيرُ مِنْهَا يَشْمَلهُ التَّضْعِيْفُ، فلا يُقالُ لِغَثِّهِ سمينٌ، فحرَّكَ همَّتَهُ لجمعِ الحديثِ الصَّحيحِ الذي لا يَرتابُ فيهِ أمينٌ، وقَوَّى عَزْمَهُ على ذلكَ ما سمعَهُ من أستاذِهِ، أَمِيرُ الْمُؤمنِينَ فِي الحَدِيثِ وَالْفِقْهِ؛ إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيْمَ الْحَنْظَلِيِّ الْمَعْرُوفُ بِابْن رَاهَوَيْهٍ:
          وَذلك فِيما أَخْبَرَنَا أَبُوْ الْعَبَّاسِ أَحْمدُ بْنُ عُمَرَ اللؤْلُؤِي عَنْ الْحَافِظ أَبِي الْحَجَّاجِ الْمِزِيِّ أَخْبَرَنَا: أَخْبَرَنَا يُوسُفُ بْنُ يَعْقُوبَ: أَخْبَرَنَا أَبُوْ الْيَمْنِ الْكِنْدِيُّ: أَخْبَرَنَا أَبُوْ مَنْصُورٍ الْقَزَّازُ: أَخْبَرَنَا الْحَافِظُ أَبُوْ بَكْرٍ الْخَطِيْبُ: أَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ يَعْقُوْبَ: أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ نُعَيْمٍ سَمِعْتُ خَلْفَ بْنِ مُحَمَّدٍ البُخَارِيَّ بهَا يَقُولُ: سَمِعْتُ إِبْرَاهِيْمَ بْنِ مَعْقِلٍ النَّسَفِيَّ يَقُولُ: قَالَ أَبُوْ عَبْدِ اللهِ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيْلَ البُخَارِيُّ: كُنَّا عِنْدَ إِسْحَاقَ بْنِ رَاهَوَيْهٍ، فَقَالَ: لَو جَمَعْتُمْ كِتَابَاً مُخْتَصَرَاً لصحيحِ سُنَّةِ النبيِّ صلعم. قَالَ: فَوَقع ذَلِك فِي قلبِي فَأخذتُ فِي جمعِ الْجَامِعِ الصَّحِيحِ.
          وروينا بِالْإِسْنَادِ الثَّابِت عَن محمَّدَ بْنِ سُلَيْمَانَ بْنِ فَارِسٍ، قَالَ: سَمِعْتُ البُخَارِيَّ يَقُول رَأَيْت النَّبِيَّ صلعم وكأنني وَاقِفٌ بَين يَدَيْهِ وَبِيَدِي مِروحة أَذُبُّ [بِهَا](3) عَنه، فَسَأَلْتُ بعضَ المُعَبِّرِيْنَ، فَقَالَ لِي: أَنْتَ تَذُبُّ عَنهُ الْكَذِبَ. فَهُوَ الَّذِي حَملَنِي على إِخْرَاج ((الْجَامِعِ الصَّحِيْحِ)).
          وَقَالَ الْحَافِظُ أَبُوْ ذَرٍّ الْهَرَوِيُّ سَمِعْتُ أَبَا الْهَيْثَمِ مُحَمَّدَ بْنَ مَكِيِّ الْكُشْمَيْهَنِيَّ يَقُوْلُ سَمِعْتُ: مُحَمَّدَ بْنَ يُوْسُفَ الفِرَبْرِيَّ يقولُ: قالَ البخاريُّ: ما كتبتُ في كتابِ الصَّحيح حديثاً إلَّا اغتسلتُ قبلَ ذلك، وصليتُ رَكعتينِ.
          وقالَ أَبُوْ عَلِيٍّ الغَسَّانِيُّ: رُوِيَ عنهُ أنَّهُ قَالَ: خرَّجتُ الصَّحيحَ من ستمائةِ ألفِ حَدِيْثٍ.
          وروى الإسماعيليُّ عنهُ قال: لَمْ أُخَرِّجْ في هذا الكتابِ إلَّا صَحِيْحَاً، وما تركتُ من الصَّحيحِ أكثرَ.
          قالَ الإْسْمَاعِيْلِيُّ: لأنَّه لو أخرجَ كلَّ صحيحٍ عندَهُ لجمعَ في البابِ الواحدِ حديثَ جماعةٍ من الصَّحابةِ، ولَذَكَرَ طريقَ كلَّ واحدٍ منهم إذا صَحَّتْ فيصيرُ كتاباً كبيراً جِدَّاً.
          وقالَ أَبُوْ أَحْمَدَ بْنُ عَدِيٍّ: سَمِعْتُ الحَسَنَ بْنَ الحُسَيْنِ [البَزَّازَ](4) يقولُ: سَمِعْتُ إِبْرَاهِيْمَ بْنَ مَعْقِلٍ النَّسفيِّ يقولُ: سَمِعْتُ البخاريَّ يقولُ: ما أدخلتُ في كتابي الجامعِ إلَّا مَا صحَّ، وتركتُ مِنَ الصَّحيحِ حتَّى لا يطولُ.
          وقال الفِرَبْرِيُّ أيضاً: سَمِعْتُ مُحَمَّدَ بْنَ أَبِي حَاتِمٍ البخاريَّ الوَرَّاقَ يقولُ: رَأَيْتُ مُحَمَّدَ بْنَ إِسْمَاعِيْلَ البُخاريَّ في المنامِ يَمْشي خلفَ النَّبيِّ صلعم، والنَّبيُّ صلعم يَمْشِي، فكلَّمَا رفعَ النَّبيُّ صلعم قَدَمَهُ وضعَ البُخاريُّ قَدَمَهُ في ذلكَ الموضعِ.
          وقالَ الحافظُ أَبُوْ أَحْمَدَ بْنُ عَدِيٍّ: سَمِعْتُ الفِرَبْرِيَّ يقولُ: سَمِعْتُ نَجْمَ بْنَ فُضَيْلٍ، وكانَ من أهلِ الفَهْمِ يقولُ، فذكرَ نحو هذا المنامِ؛ أنه رآهُ أيضاً.
          وقالَ أَبُوْ جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ(5) بْنُ عَمْرٍو العُقَيْلِيُّ: لمَّا ألَّفَ البخاريُّ كتابَ الصَّحيحِ عَرَضَهُ على أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ ويَحْيَى بْنِ مَعِيْنٍ وَعَلِيِّ بْنِ الْمَدِيْنِيِّ وغيرِهم، فاسْتَحْسَنُوْهُ، وشَهِدُوا لهُ بالصِّحَةِ إلَّا في أربعةِ أحاديثَ، قالَ العُقَيْلِيُّ: والقولُ فيها قولُ البُخاريِّ، وهي صحيحةٌ. /


[1] زيادة من (م) و (س) و ط.
[2] زيادة من ط.
[3] سقط من ت.
[4] في (م) و (س) و ط وهماً: البزار.
[5] في (م) و(س): محمود.