مصابيح الجامع الصحيح

باب العلم قبل القول والعمل

          ░10▒ (باب: العلم قبل القول والعمل)
          قيل: ترجم البخاريُّ على مكانة العلم؛ لئلَّا يَسْبِقَ إلى الذِّهن من قولهم: (العلم لا ينفع إلَّا بالعمل) تهوين أمره، فأراد البخاريُّ أن يُبيِّن أنَّ العلم شَرْطٌ في القبول والعمل، فلا يُعتبَران إلَّا به، وهو متقدِّمٌ عليهما؛ قاله الزَّركشيُّ.
          وقال ابن بطَّال: العمل لا يكون إلَّا مقصودًا به معنى متقدِّمًا، وذلك المعنى هو علم ما وعد الله تعالى عليه من الثَّواب.
          قوله: (فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهَ) يُعلَم من الآية أنَّ التَّوحيد ممَّا يجب العلم به، ولا يجوز فيه التَّقليد.
          ومذهب أكثر المتكلِّمين: أنَّ إيمان المقلِّد في أصول الدِّين غير صحيح.
          قال البغويُّ: يجب على كلِّ مكلَّفٍ معرفة علم الأصول، ولا يسع فيه التَّقليد؛ لظهور الأدلَّة، وتقدَّم كلام ابن الصَّلاح.
          (وَأَنَّ العُلَمَاءَ) بفتح (أنَّ) ورُوِيَ بكسرها على تقدير (باب) هذه الجملة، أو على سبيل الحكاية.
          قوله: (وَرَّثُوا العِلْمَ) بفتح الواو وتشديد الرَّاء المفتوحة، وبفتح الواو وكسر الرَّاء المخفَّفة.
          (أَخَذَ) أي: من ميراث النُّبوَّة.
          وهذا حديثٌ مطوَّلٌ أخرجه التِّرمذيُّ من حديث أبي الدَّرداء.
          قوله: (بِحَظٍّ وَافِرٍ) أي: كثيرٍ كاملٍ.
          قوله: (وَمَنْ سَلَكَ طَرِيْقًا) هذا حديثٌ رواه مسلمٌ.
          قوله: (عِلْمًا) نكَّره ليتناول أنواع العلوم الدِّينيَّة، وليندرج فيه القليل والكثير، و(سهَّل الله له) أي: في الآخرة، أو المراد: وفَّقه الله للأعمال الصَّالحة فيُوصله بها إلى الجنَّة، أو سهَّل عليه ما يزيد به علمه؛ لأنَّه أيضًا من طرق الجنَّة، بل أقربها.
          قوله تعالى: (نَعْقِلُ) حذف مفعول يَعْقل؛ لأنَّه جعله كالفعل اللَّازم، فمعناه: لو كنَّا من أهل العلم؛ ما كنَّا من أهل النَّار.
          قوله: (يُفَقِّهْهُ) يفهِّمه، إذ الفقه الفَهْم، ويُحتمَل أن يُراد به المَعْنى الاصطلاحيَّ؛ أي: الفهم للأحكام الشَّرعيَّة العمليَّة المكتسبة عن أدلَّتها التَّفصيليَّة.
          قوله: (وَإِنَّمَا العِلْمُ بِالتَّعَلُّمِ) رواه الخطيب من حديث مكحولٍ عن مُعاويةَ، ولم يُسمَع منه، ورواه الطَّبرانيُّ والدَّارَ قطنيُّ في «العلل» من حديث أبي الدَّرداء بسندٍ ضعيفٍ.
          قال الكرمانيُّ: ومعناه: ليس العلم المُعْتبَر إلَّا المأخوذ من الأنبياء، ومنهم على سبيل العلم والتَّعليم، فيُفهَم منه أنَّ العلم لا يُطلَق إلَّا على علم الشَّرع، وهذا يحتمل أن يكون من كلام البخاريِّ.
          قوله: (لَوْ وَضَعْتُمْ) (لو) لامتناع الثَّاني لا امتناع(1) الأوَّل على المشهور، فمعناه: انتفى الإنفاذ لانتفاء الوضع، وليس المعنى عليه، لكن هو مثل لو لم يخف الله؛ لم يعصه، يعني يكون الحكم ثابتًا على تقدير النقيض بالطَّريق الأولى، فالمراد أنَّ الإنفاذ على تقدير الوضع، فعلى تقدير عدم الوضع حصوله أولى أو أنَّ (لو) ههنا لمجرَّد الشَّرطيَّة، يعني حكمه حكم صلة (أن) من غير أن يلاحظ الامتناع.
          قوله: (الصَّمْصَامَةَ) هو السَّيف بحدٍّ واحدٍ، أو الَّذي لا ينثني.
          قوله: (حُكَمَاءَ عُلَمَاءَ(2)) وَرَدَ (حلماء) باللَّام، والظَّاهر أنَّهما تفسير (الرَّبَّانيِّين)، ولفظ: (ويُقال) هو من كلام البخاريِّ، لا من كلام ابن عبَّاس ╠، وهذا كلُّه ترجمة، ومَا ترجم له إمَّا أنَّه أراد أن يلحق الأحاديث المناسبة فلم يتَّفق له، وإمَّا إشعارٌ بأنَّه لم يثبت عنده بشرطه ما يناسبها، وإمَّا أنَّه اكتفى بما ذكره تعليقًا.
          خاتمة:
          روى النَّوويُّ عن ابن يحيى السَّاجيِّ قال: كنَّا نمشي في أزقَّة البصرة إلى باب بعض المحدِّثين، فأسرعنا المشي وكان معنا رجل ماجنٌ متَّهمٌ في دينه، فقال: ارفعوا أرجلكم عن أجنحة الملائكة لا تكسرونها كالمُسْتهزئ، فما زال من موضعه حتَّى جفَّت رجلاه وسقط، ورُوِيَ عن أبي داود السَّجستانيُّ قال: كان في أصحاب الحديث رجلٌ خليعٌ، فسمع حديث النَّبيِّ صلعم: «إنَّ الملائكة تضع أجنحتها لطالب العلم رضى بما يصنع» فجعل في نعليه مسامير من حديد وقال: أريد أطأ أجنحة الملائكة، فأصابته الأكلة في رجليه.
          وحُكِيَ أنَّ بعض المبتدعين سمع قول النَّبيِّ ◙: «إذا استيقظ أحدكم من منامه؛ فلا يغمس يده في الإناء حتَّى يغسلها، فإنَّه لا يدري أين باتت يده» قال ذلك المبتدع كالمستهزئ: أنا أدري أين باتت يدي في الفراش، فأصبح وقد أدخل يده في دبره إلى ذراعه.
          ومن هذا المعنى قال النَّوويُّ: ما وُجِدَ في زماننا وتواترته الأخبار وثبت عند الثقات أنَّ رجلًا عند القضاة من بلاد بصرى في أوائل سنة خمس وستِّين وستِّ مئة كان سيِّء الاعتقاد في أهل الخير، وله ابن يُحْسن الاعتقاد فيهم، فجاء ابنه من عند شيخٍ صالحٍ معه سواكٌ، فقال: ما أعطاك شيخك؟ مستهزئً فقال: هذا السِّواك، فأخذه وأدخله في دبره؛ احتقارًا له، فبقي مدَّة ثم ولد ذلك الرجل الذي أدخل السواك جروًا قريب الشبه بالسمكة، ومات الرجل في الحال أو بعد يومين.


[1] في الأصل: (لامتناع).
[2] كذا في الأصل، وهي رواية (عط) كما في هامش «اليونينيَّة».