مصابيح الجامع الصحيح

باب قول النبي: يعذب الميت ببعض بكاء أهله عليه

          ░32▒ (مِنْ سُنَّتِهِ) أي: طريقته وعادته، وجه الاستدلال بالآية أنَّ الشَّخص إذا كان نائحًا؛ فأهله يقتدون به، فَهُوَ صار سببًا لنَوْح الأهل، فما وقَّى أهله من النَّار فخالف الأمر؛ فيُعذَّب بذلك.
          وبالحديث: أنَّه ما رعى نفسه حين ناح، ولا رعيَّته _أي: أهله_ لأنَّهم يَتعلَّمون منه ويَقْتدون به، ويحتملُ أنَّه أراد بالسُّنَّة الوصيَّة.
          و(مَا يُرَخَّصُ) إمَّا عطف على أوَّل التَّرجمة، وإمَّا على (كَمَا قَالَتْ) أي: فهو كما يُرَخَّص في عدم العذاب.
          و(الْكِفْلُ) النَّصيب، وهو أيضًا دليل على أنَّ الميِّت يُعذَّب بنياحة أهله إذا كان هو ينوح في حياته؛ لأنَّه سنَّ النِّياحة في أهله.
          والحاصل: أنَّ المراد بالبكاءِ المعذَّب به الَّذي مَعه النَّوح، ثمَّ إنَّه أراد الجمعَ بينَ مَا يدل على أنَّ الشَّخص لا يعذَّب بفعل غيره.
          وبيَّن ما يدلُّ على نقيضه، فقال: يُعذَّب إذا كان هُوَ الفاعل لذلك في حياته؛ لأنَّ فعله صار سنَّة لأهله، وكأنَّه هو السَّبب لذلك، حيث سنَّه وعلَّمهم ذلك، ولا يُعذَّب إذا لم يفعله ولم يكن من طريقته.
          ابن بطَّال: اختلفوا في معنى: «يُعذَّب الميِّت ببكاء أهله عليه»، فقيل: معناه: أن يوصي الميِّت بذلك؛ فيعذَّب حينئذٍ بفعل نفسه لا بفعل غيره، وإليه ذهب البخاريُّ حيث قال: إذا كان النَّوح من سنَّته.
          وقيل: هُوَ أن يُمدَح الميِّت في البكاء بما كان يُمدَح به أهل الجاهليَّة من القتل والغارات وغيرها من الأفعال الَّتي عند الله ذنوب، وهم يَمْدحونه بها في البكاء وهو يُعذَّب بذلك.
          وقيل: مَعْناه: أنَّه يخوَّف ببكاء أهله؛ أي: يسوءه مَا يكره قريبه.
          وقد رُوِيَ: «إنَّ أعمالكم تُعْرَض على أقربائكم من موتاكم، فإن رأوا خيرًا؛ فرحوا به، وإن رأوا شيئًا كرهوه...» فعلى هذا التَّوجيه التَّعذيب من الحيِّ له لا من الله.
          وقال: كلُّ حديث أُتِيَ فيه النَّهي عن البكاء؛ فمعناه النِّياحة.