تحفة الباري بشرح صحيح البخاري

كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم

          ░░1▒▒ قال المصنف ☼ (1):
          (♫)
          أي: أبتدئ أو أؤلِّفُ؛ إذ كلُّ فاعلٍ يبدأُ في فعلِه ببسم الله يُضمِرُ(2) ما بعد(3) التسمية مبدأ له، كما أنَّ المسافرَ إذا حلَّ أو ارتحلَ، فقالَ باسمِ الله كان المعنى: باسم الله أحلُّ، وبسم(4) الله أرتحل. والباءُ للمصاحبةِ؛ ليكونَ ابتداءُ التأليفِ مصاحِبًا لاسم الله تعالى المتبرَّك(5) بذكره. وقِيلَ: للاستعانةِ، نحو: كتبتُ بالقلمِ. والاسمُ مشتقٌّ مِنَ السُّموِّ، وهو: العُلُوُّ، وقيلَ: مِنَ الوَسمِ، وهو(6): العلامة؛ لأنَّ كل ما سمِّي فقد نُوِّهَ باسمه ووُسِمَ و(7) (الله): علَمٌ للذات الواجب الوجود، وأصلُه: الإله حُذِفَت همزته وعوِّض منها(8) حرف التعريف، ثم جعل علمًا، وهو عربي عند الأكثرِين(9)، وزعمَ البلخيُّ من المعتزلة أنه معرَّب، فقيل: عبري(10). وقيل: سِرياني.
          و(الرَّحْمَنِ وَالرَّحِيْم): اسمانِ بُنيا للمبالغةِ من: رَحِمَ، والرحمة لغةً: رِقة للقلب(11) تقتضي التفضل، فالتفضل غايتها، وأسماء الله تعالى المأخوذة من نحو ذلك إنما تُؤخذ باعتبارِ الغاية دون المبدأ، والرحمن أبلغُ منَ الرحيم؛ لأنَّ زيادةَ البناء تدلُّ على زيادةِ المعنى، كما في قطع وقطَّع، وفيه: كلام ذكرته مع جوابه في «شرح البهجة»(12).
          وبدأ كتابَه بالبسملةِ اقتداءَ بالكتابِ العزيز، وعملًا بخبر: ((كُلُّ أَمْرِ ذي بالٍ لا يبدأ فيه ببِسمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ فهو أقطعُ)) أي: للبركة(13). رواه أبو داود وغيرُه(14)، وحسَّنه ابن الصلاح وغيره.
          (بَابُ) ساقطٌ من نسخة، وهو لغةً: ما يُتوصلُ منه(15) إلى غيره، وعرفًا: اسمٌ لجملة مختصة من العلم مشتملة غالبًا على فصول، ويُقرأُ بالتنوين وتركه، وبالوقف عليه على سبيلِ(16) التعداد للأبواب، فعليه: لا إعراب(17)، وعلى الأولين(18): خبرٌ مبتدأ محذوف، لكنه(19) على الثاني: مضاف إلى ما بعده بتقدير مضاف أي: هذا باب جواب (كَيفَ كانَ بَدءُ الوَحيِ إِلى رَسولِ اللهِ صلعم) ابتدأ كتابه بذلك؛ لأنَّ الوحي مادة الشريعة إذ قَصدُه: جمع حديث النبي صلعم وهو وحيٌ. و(كيفَ): في محلِّ نصب خبر (كَانَ) إن جُعلت ناقصةً، وحالًا إن جُعلت تامة، وتقديمها واجب؛ لأنها في الأصل للشرط، نحو: كيف تصنع أصنع، وللاستفهام حقيقة / كما هنا، أو تجوُّزًا نحو: {كَيفَ تَكْفُرُونَ بِاللهِ} [البقرة:28] لأنها فيه بمعنى الإنكار والتعجب وكل مِنَ الشرط والاستفهام له صدرُ الكلامِ والضابطُ في إعرابها: أنَّها إن وقعَتْ قبل ما لا يستغني عنها فمحلها بحسب الافتقار(20) إليها، ففي نحو: كيف أنت؟ رُفِعَ لأنَّها خبرُ المبتدأ(21)، وفي نحو: كيف تصنع أصنع، نُصِبَ مفعولًا لتصنع، وفي نحو: كيف كنتَ؟ نصب إن قدرت كان ناقصةً خبرًا لها، وفي نحو: كيف ظننت زيدًا؟ نصب مفعولًا ثانيًا لظنَّ، وإن وقعت قبل ما يستغني عنها، نحو: كيف جاء زيد؟ فمحلها: نصب على الحال، وقد تأتي مفعولًا مطلقًا نحو: {كَيفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصحَابِ الْفِيلِ} [الفيل:1]لاقتضاء الكلام ذلك.
          و(بَدْءُ):_بفتح الباء وسكون الدال وبالهمز_ مصدر بدأ بمعنى: الابتداء، و_بضم الباء والدال وتشديد الواو_ مصدر بدا بمعنى: ظهر، قيل: والأحسن الأولُ؛ لجَمعِهِ المعنيين، وقيل بالعكس؛ لأنه الأظهرُ في المقصود. قال(22) العلامةُ الشمسُ البرماويُّ: والظاهرُ: أنَّ أحدَهما لا يستلزمُ الآخر، والمرادُ ببدءِ الوحي: حالُه مع كلِّ ما يتعلقُ بهِ أيَّ تعلقٍ كانَ. فلا يردُّ الاعتراض بأنه لم يتعرض في الحديث لبيان كيفية بدء الوحي فقط. بل لبيان كيفية الوحي على أنه قد تعرض له(23) بعدُ في حديث عائشة [خ¦2]، حيث ذكر فيه أن ابتداءه كان رؤيا منام، ولا يضر نقص الترجمة عن المترجم له، إنما يُعاب العكس.
          و(الوَحْي) لغةً: يقال للإعلام بخفاء، وللكتابة(24)، وللمكتوب وللبعث، وللإلهام، وللأمر، وللإيماء، وللإشارة، وللتصويت شيئًا بعد شيء. وشرعًا: الإعلام بالشرع بكتاب، أو رسالة ملك، أو منام، أو إلهام، أو نحوها. وقد يطلق الوحي ويراد به اسم المفعول منه أي: الموحى وهو كلام الله المنزَّلُ على النبي صلعم. و(الرسول): إنسانٌ أُوحي إليه بشرعٍ وأُمِرَ بتبليغه، فهو أَخصُّ من النبيِّ؛ لأن النبيَّ إنسان أُوحي إليه بشرعٍ وإن لم يُؤمَر بتبليغه.
          و(قَولِ اللهِ) بالرفع مبتدأ خبره ما بعده، وبالجر عطف على (كَيفَ) إن أضيف إليها (بَاب) أي: باب بيان كيف كان بدءُ الوحي، وباب معنى قول الله أو على كان بتقدير مضاف أي: كيف كان نزول قول الله، وإنما قلت: بتقدير مضاف؛ لأن العطف بدونه على(كانَ)(25) يقتضي أن لكلام الله كيفيةً، ولا كيفيةَ له. وكثيرًا ما يذكر البخاريُّ في الترجمة آيةً فأكثر من القرآن؛ للاستشهاد بها على ما قبلها أو ما بعدها. (جَلَّ ذِكرَهُ) في نسخة: <╡>.
          ({إِنَّا أَوحَينَا إِلَيكَ كَمَا أَوحَينَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِن بَعدِهِ} الآية [النساء:163])، عادةُ البخاري ☼ أن يضمَّ إلى بعض التراجم والحديث ما يناسبه من قرآن، أو تفسير له، أو حديثٍ على غير شرطه، أو أثر عن(26) بعض الصحابة أو عن بعض التابعين، بحسب ما يليق عنده(27) ذلك بالمقام، وأراد بذكر هذه الآية في أوَّلِ هذا الباب؛ الإشارة إلى أن الوَحي سنة الله تعالى في أنبيائه ‰، وإلى(28) أن الوَحي إلى نبيِّنا محمَّد شبيه(29) بالوحي إلى بقية الأنبياء في أنه وحيُ رسالةٍ لا وَحيَ إلهام، ولما كان كتابه(30) لجمع وحي السنة، وكان الوَحيُ لبيان الأحكام الشرعية صدَّره بباب الوحي؛ لأنه مادة الشريعة كما مرَّ ثم بحديث: ((إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ)) [خ¦1] الآتي لمناسبته للآية السابقة؛ لأنه أوحي إلى الجميع الأمر بالنية، بقوله تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إلا لِيَعبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [البينة:5] والإخلاص: النية، قيل: قدم ذكر نوح لأنه أوَّلُ نبيٍّ أُرسل، أو أوَّلُ نبيٍّ عوقب قومه.


[1] قوله ((وسميتُه: بـ «تحفة البارِي...»... قال المصنف ☼)) ليس في (المطبوع).
[2] في (ط): ((يضمن))، في (د): ((مضمر)).
[3] في (المطبوع) و(ط): ((جعلَ))، وفي (ع)و (د): ((جعلت)).
[4] في (ط): ((أو بسم)).
[5] في (ع): ((للتبرك)).
[6] في (المطبوع): ((وهي)).
[7] قوله: ((و)) ليس في (د).
[8] في (ط): ((عنها)).
[9] في (ط) و(د): ((الأكثر)).
[10] في (ع): ((عبراني)).
[11] في (ط): ((القلب)).
[12] الغرر البهية في شرح البهجة الوردية ░1/ 3▒.
[13] في (المطبوع): ((قليل البركة)).
[14] بلفظ (الحمد لله)، «النسائي في الكبرى» ░1328▒ ابن حبان.
[15] في (المطبوع) و(د): ((به)).
[16] في (د): ((على ما يشمل)).
[17] زاد في (ط) (د): ((له)).
[18] في (د): ((وعلى الأول إنه)).
[19] في (د): ((إلا أنه)).
[20] في (المطبوع): ((الافتقار الواقع)).
[21] في (د): ((خبر لمبتدأ)).
[22] في (ط): ((وقال)).
[23] قوله: ((له)) ليس في (د).
[24] في (ط): ((وللكتاب)).
[25] قوله: ((على كان)) ليس في (ط).
[26] في (المطبوع): ((من)).
[27] في (المطبوع): ((عند)).
[28] في (ط): ((أو إلى)).
[29] في (ط): ((شبه)).
[30] في (ط): ((كتابة)).