مصابيح الجامع الصحيح

باب قول الله تعالى: {الحج أشهر معلومات فمن فرض فيهن الحج}

          ░33▒ (باب قول الله تعالى): {الحجُّ أشهر معلومات}
          {الْحَجُّ} مبتدأ، و{أَشْهُرٌ} خبره، والمبتدأ والخبر لا بدَّ وأن يصدقا على ذات واحدة، و{الحجُّ} [البقرة:197] فعل من الأفعال، و{أشهر} [البقرة:197] زمان، فهما غيران، فلا بدَّ من تأويل.
          وفيه: احتمالات؛ أحدها: حذف مضاف من الأوَّل، وتقديره: أشهر / الحجِّ أشهر مَعْلومات، أو الحذف من الثَّاني تقديره: الحجُّ حجُّ أشهر مَعْلومات، فيكون حذف من كلِّ واحد ما أثبت نظيره، أو يجعل الحدث نفس الزَّمان مبالغة، ووجه المجاز كونه حالًا فيه، فلمَّا أقع في الظَّرف؛ جُعِلَ نفس الحدث ونظيرها قوله تعالى: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا} [الأحقاف:15].
          وإذا كان ظرف الزَّمان نكرة؛ فيُخبَر به عن حدث جاز فيه الرَّفع والنَّصب مطلقًا؛ أي: سواء كان الحدث مُسْتوعبًا للظَّرف أم لا، هذا مذهب البصريِّين.
          وأمَّا الكوفيُّون؛ فقالوا: إن كان الحدث مستوعبًا؛ فالرَّفع نحو: الصَّوم يوم، وإن لم يكن مستوعبًا؛ فهشام يُلزم رفعه أيضًا، نحو: ميعادك يوم.
          والفرَّاء يجيز نصبه مثل البصريِّين، وقد نقل عنه أنَّه منع نصب (أشهر) في الآية؛ لأنَّها نكرة، فيكون في المسألة قولان، والمسألة مطوَّلة.
          و(مَنْ) شرطيَّة، أو موصولة.
          و(فِيهِنَّ) متعلِّق بـ(فَرَضَ)، والضَّمير في (فيهنَّ) يعود على (أشهر)، وجيء به كضمير للإناث؛ لأنَّ جمع العاقل في القلَّة يعامل معاملة جمع الإناث على الأفصح.
          (فَلَا رَفَثَ) الفاء إمَّا جواب الشَّرط، وإمَّا زائدة.
          قوله: (عَشْرٌ) هذا هو مَذْهب أبي حنيفة، وإمَّا عند الشَّافعيِّ؛ فهو مع ذي الحجَّة، وليلة يوم النَّحر.
          وعند مالك: ذو الحجَّة كلِّها.
          إن قلتَ: كيف كان الشَّهران وبعض الثَّالث أشهرًا؟
          قلتُ: اسم الجَمْع يشترك فيه ما وراء الواحد، أو نزل بعض الشَّهر منزلة كلِّه مجازًا.
          (مِنَ السُّنَّةِ) أي: من الشَّريعة(1)، إذ هو واجب، ولا يَنْعقد الإحرام بالحجِّ إلَّا في أشهره عند الشَّافعيِّ، وأمَّا عند غيره؛ فلا يصحُّ شيء من أفعال الحجِّ إلَّا فيها.
          و(كرمَانَ) بكسر الكاف، وقيل: بفتحها، وجه الكراهة أنَّ الغالب أنَّ الإحرام من خراسان ونحوه مُوْجب للحَرَجِ والتَّضرُّر، ولا حرج في الدِّين، ولا ضرر في الإسلام، وهذا على سبيل التَّمثيل؛ لا أنَّه مخصوص بهاتين المملكتين، إذ حكم سائر البلاد البعيدة عن مكَّة كالصِّين والهند كذلك.
          ويحتمل أن يعلَّل أنَّ الإحرام منهما لا يقع غالبًا إلَّا قبل الأشهر، وهو مَكْروه إمَّا تحريمًا، وإمَّا تنزيهًا، هذا مع أنَّه محتمل أن تكون الكراهة من جهة الميقات المكانيِّ، إذ الأفضل أن لا يحرم من دويرة أهله عند كثير من العلماء اقتداءً برسول الله صلعم، لكنَّه غير مناسب للتَّرجمة.


[1] في الأصل: (الشريعة).