التلويح شرح الجامع الصحيح

باب هل يتتبع المؤذن فاه هاهنا وهاهنا؟وهل يلتفت في الأذان؟

          ░19▒ (بابٌ هَلْ يَتَتَبَّعُ المُؤَذِّنُ فَاهُ هَاهُنَا وَهَاهُنَا؟ وَهَلْ يَلْتَفِتُ فِي الأَذَانِ؟)
          في صحيح مسلم من حديث أبي جُحَيْفَةَ: «فَجَعَلْتُ أَتَتَبَّعُ فَاهُ هَهُنَا وَهَهُنَا يَقُوْلُ يَمِينًا وَشِمَالًا: حَيَّ عَلَى الصَّلاةِ حَيَّ عَلَى الفَلَاحِ».
          وعند أبي داود: «فَلمَّا بَلَغَ حَيَّ عَلَى الصَّلاةِ حَيَّ عَلَى الفَلَاحِ لَوَى عُنُقَهُ يَمِينًا وَشِمَالًا وَلمْ يَسْتَدِرْ»، وأما الالتفات ففيما قدمناه من حديث أبي جُحيفة ما يدلُّ على ذلك.
          وعند النسائي: «فَجَعَلَ يَقُوْلُ فِي أَذَانِهِ هَكَذَا يَنْحَرِفُ يَمِينًا وَشِمَالًا».
          وعند الطبراني: «فَجَعَلَ يَقُوْلُ بِرَأْسِهِ هَكَذَا وَهَكَذَا يَمِينًا وَشِمَالًا حَتَّى فَرَغَ مِنْ أَذَانِهِ».
          وفي «الأفراد» للدارقطني عن بلال: «أَمَرَنَا رَسُوْلُ اللهِ صلعم إِذَا أَذَّنَّا أو أَقَمْنَا أَلَّا نُزِيْلَ أَقْدَامَنَا منْ مَوْضِعِهَا».
          وعند الترمذي صحيحًا من حديث عبد الرزاق: حَدَّثَنا سفيان، عن عون، عن أبيه قال: «رَأَيْتُ بِلالًا يُؤَذِّنُ وَيَدُوْرُ وَيَتَتَبَّعُ فَاهُ هَاهُنَا وَهَاهُنَا» وزعم البيهقيُّ أنَّ الاستدارةَ في حديث أبي جحيفة ليست من الطرق الصحيحة، وسفيان الثوري إنما روى الاستدارة في هذا الحديث عن رجل، عن عون، ونحن نتوهَّمه الحجاج بن أرطأة، والحجاج غير محتج به، ورواه عبد الرزاق، عن الثوري، عن عون مدرجًا في الحديث، وعبد الرزاق وَهِمَ في إدراجه، ثم ذكر سندًا إلى عبد الله بن محمد بن الوليد، عن سفيان: حدَّثني عون، عن أبيه فذكر حديثًا ليس فيه الاستدارة، وقال عقيْبَه: وبالإسناد حَدَّثَنا سفيان: حدَّثني ممن سمعه عون أنه كان يدور ويضع يديه في أذنيه. قال العدني: يعني بلالًا.
          قَالَ البَيْهَقِيُّ: وهذه رواية الحجاج بن أرطأة، عن عون، ثم أسند إلى الحجاج، عن عون، عن أبيه: خرجنا حُجَّاجًا فَلَقِيَنَا رسولُ الله صلعم بالأَبْطحِ وحضرتْ صلاةُ الظُّهْرِ، فقامَ بلالٌ فأذَّنَ الظهرَ، ووضعَ يديه في أُذُنَيْهِ، واستدارَ في أذانِهِ كأني أنظرُ إليه يستديرُ في أذانه.
          قَالَ البَيْهَقِيُّ: ورويناه من حديث قيس بن الربيع، عن عون ولم يستدر، قال: ويحتمل أن يكون الحجاج أراد بالاستدارة الالتفات في الحيعلتين فيكون موافقًا لسائر الرواة. انتهى.
          لقائل أن يقول: أما تعليل بأنها ليست في الطرق الصحيحة فليس جيدًا لأنا / قد أسلفنا أن الترمذي صححها، وسيأتي تصحيح الحاكم أيضًا لها، ورواها أبو نعيم في «مستخرجه» عن أبي أحمد: حَدَّثَنا المطرز: حَدَّثَنا بُنْدار ويعقوب: حدَّثنا ابن مَهْدِيٍّ: حَدَّثَنا سفيان، عن عون فذكر الاستدارة.
          وفي لفظٍ: «قالَ عبدُ الرحمنِ: فَجَعَلْتُ أَتَتَبَّعُ فَاهُ» ورويناه في «صحيح» أبي عوانة عن يوسف القاضي: حَدَّثَنا محمد بن أبي بكر: حَدَّثَنا مؤمل، عن سفيان، عن عون فذكر الاستدارة، وفيه أيضًا ردٌّ لقوله: وهمَ عبد الرزاق في إدراجه لما ذكرنا من متابعة ابن مهدي له.
          فإن اعترض معترضٌ بأن أبا عوانة رواه عن أبي أمية: حَدَّثَنا القواريريُّ، عن ابن مهدي فلم يذكر هذه الزيادة؟. قلنا له: بُندار ويعقوب ومؤمل تواردوا على هذه الزيادة فلا يُرَدُّ قولهم لرواية واحدٍ، ثم إنا وجدنا لسفيان متابعًا على روايته من عند الطبراني من طريق حسنة رواها عن الحسن بن العباس، عن محمد بن نوح الرازيين، عن زياد بن عبد الله عن إدريس الأودي، عن عون، عن أبيه، ورواها أبو الشيخ عن الصوفي حَدَّثَنا علي بن الجعد: حَدَّثَنا حماد بن سلمة قال: وأخبرنا أبو يعلى: حَدَّثَنا إبراهيم بن الحجاج: حَدَّثَنا كامل: حَدَّثَنا حمادٌ، وحدَّثَنَا ابن ناجية: حَدَّثَنا الربيع بن ثعلب: حَدَّثَنا هشيم جميعًا عن عون فذكره.
          وفي «سنن الدَّارَقُطْني» من حديث كامل أبي العلاء، عن أبي صالح، عن أبي هريرة: أُمِرَ أَبْو مَحْذُوْرَةَ أَنْ يَسْتَدِيْرَ فِي أَذَانِهِ.
          قال البخاري: ويذكر عن بلال أَنَّهُ جَعَلَ أُصْبُعَيْهِ فِي أُذُنَيْهِ.
          قال ابن خزيمة في «صحيحه»: حَدَّثَنا يعقوب بن إبراهيم: حَدَّثَنا هُشيم عن حجاج، عن عون، عن أبيه قال: «رَأَيْتُ بِلَالًا يُؤَذِّنُ وَقَد جَعَلَ أُصْبُعَيْهِ فِي أُذُنَيْهِ». ثُمَّ قَالَ: بَابُ إِدْخَال الأُصْبُعَيْنِ فِي الأُذُنَيْنِ عِنْدَ الأَذَانِ، إنْ صحَّ الخبر فإن هذه اللفظة لستُ أحفظُها إلا عن حجاج بن أرطأة، ولستُ أفهمُ أَسِمَعَ الحجاج هذا الخبر من عون أم لا؟ فأنا أشك في صحة هذا الخبر لهذه العلة.
          ورواه أبو عوانة الإسفراييني في «صحيحه»: عن عمر بن شَبَّةَ: حَدَّثَنا عمر بن علي بن مقدم، عن الحجاج، عن عون به، وأبو بكر البزَّار في «مسنده»: من حديث أبي معاوية، عن حجاج، وأبو علي الطُّوسي عن الدَّورقي حَدَّثَنا هشيم، عن حجاج، عنه ثم قال: يقال حديث أبي جُحَيْفَةَ حسن صحيح.
          وفي قول ابن خزيمة: (لست أحفظها _يعني إدخال الأصبعين في الأذنين_ إلا من حديث حجاج) نظرٌ من حيث إنَّا رويناها أيضًا في كتاب أبي الشيخ من حديث عبد الرحمن بن سعد بن عمار: حدَّثني أبي، عن أبيه، عن جده أنَّ رسول الله صلعم: أَمَرَ بِلَالًا أَنْ يَجْعَلَ أُصْبُعَيْهِ فِي أُذُنَيْهِ.
          ومن حديث ابن كاسِبٍ: حَدَّثَنا عبد الرحمن بن سعد، عن عبد الله بن محمد وعمير وعمار ابني حفص، عن آبائهم، عن أجدادهم، عن بلال أنَّ النبيَّ صلعم / قال له: «إِذَا أَذَّنْتَ فَاجْعَلْ إِصْبَعَيكَ فِي أُذُنَيْكَ، فَإِنَّهُ أَرْفَعُ لِصَوْتِكَ».
          ومن حديث محمد بن عمرو بن شهاب: حَدَّثَنا أبي: حَدَّثَنا إسماعيل بن عمرو: حَدَّثَنا المُفَضَّلُ بن صَدَقَةَ، عن يزيد بن أبي زياد، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن عبد الله بن زيد فذكر حديث الأذان، وفيه: «وَجَعَلَ أُصْبُعَيْهِ فِي أُذُنَيْهِ وَنَادَى يعني الذي رآه عبد الله في نومه».
          وذكر ابن المنذر في كتاب «الإشراف»: أنَّ أبَا مَحذُوْرَة جَعَلَ أُصْبُعَيْهِ فِي أُذُنَيْهِ. زاد في «شرح الهداية»: ضَمَّ أَصَابِعَهُ الأَرْبَع وَوَضَعَهَا عَلَى أُذُنَيْهِ. وفي «المصنف» لابن أبي شيبة عن ابن سيرين: أَنَّهُ كَانَ إِذَا أَذَّنَ اسْتَقْبَلَ القِبْلَةَ وَأَرْسَلَ يَدَيْهِ، فَإِذَا بَلَغَ [حي على] الصَّلاة وَ[حي على] الفَلَاح أَدْخَلَ أُصْبُعَيْهِ فِي أُذُنَيْهِ.
          وقَالَ البَيْهَقِيُّ: وروينا عن ابن سيرين أن بلالًا كان إذا أذَّنَ اسْتَقْبَلَ القِبْلَةَ أَدْخَلَ أُصْبُعَيْهِ فِي أُذُنَيْهِ فِي بَعْضِ أذَانِهِ، وَفِي الإِقَامَةِ.
          وفي «الصلاة» لِأَبِي نُعَيْمٍ، عن سهل ابن سعد قال: مِنَ السُّنَّةِ أَنْ تُدْخِلَ أُصْبَعَيْكَ فِي أُذُنَيْكَ.
          وكان سويد بن غفلة يفعله، وكذا ابن جبير، وأمر به الشعبي وشريك، قال ابن المنذر: وبه قال الحسن وأحمد وإسحاق وأبو حنيفة ومحمد بن الحسن، وقال مالك: ذلك واسع.
          قال البخاري: وَكَانَ ابنُ عُمَرَ لَا يَجْعَلُ إِصْبَعَيْهِ فِي أُذُنَيْهِ.
          هذا التعليق رواه ابن أبي شيبة عن وكيع: حَدَّثَنا سفيان، عن بُسْر قال: رأيت ابن عمر يؤذن على بعير، قال سفيان: فقلت له: رأيته يجعل أصبعيه في أذنيه؟ قال: لا.
          قال البخاري: وقال إبراهيم: لا بَأْسَ أَنْ يُؤَذِّنَ عَلَى غَيْرِ وُضُوءٍ.
          روى هذا التعليق أيضًا أبو بكر عن جرير، عن منصور، عن إبراهيم أنه قال: لا بَأْسَ أَنْ يُؤَذِّنَ عَلَى غَيْرِ وُضُوءٍ، ثمَّ ينزلُ فيتوضأ.
          وحَدَّثَنَا وكيع، عن سفيان، عن منصور، عن إبراهيم: لا بأس أن يؤذن على غير وضوء. وعن قتادة وعبد الرحمن بن الأسود وحماد وقال الحسن: لا بأس أن يؤذن غير طاهر ويقيم وهو طاهر.
          وقَالَ البَيْهَقِيُّ: قال إبراهيمُ النَّخَعيُّ: كانوا لا يرون بأسًا أن يؤذن الرجل على غير وضوء.
          قال البخاريُّ: وَقَالَ عَطَاءٌ: الوُضُوءُ حَقٌّ وَسُنَّةٌ.
          روى أبو بكر في «مصنفه» عن محمد بن عبد الله الأسدي، عن معقل بن عبيد الله، عن عطاء: أنه كره أن يؤذن الرجل وهو على غير وضوء. وقد جاءت هذه اللفظة مرفوعة ذكرها أبو الشيخ عن [ابن] أبي عاصم حَدَّثَنا هشام بن عمار: حَدَّثَنا الوليد بن مسلم، عن معاوية، عن يحيى، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة أن النبيَّ صلعم قال: «لَا يُؤَذِّنُ إِلَّا مُتَوَضِّئ».
          قَالَ البَيْهَقِيُّ: كذا رواه معاوية بن يحيى الصَّدَفي هو ضعيفٌ، والصحيح رواية يونس وغيره عن الزهري مرسلًا، ولَمَّا ذكر الترمذي حديث يونس قال: هذا / أصح يعني من الحديث المرفوع الذي عنده من حديث الزهري، عن أبي هريرة.
          وعند أبي الشيخ من حديث عبد الجبار بن وائل، عن أبيه قال: حقٌّ وسُنَّةٌ مسنونةٌ ألا يؤذن [الرجل] إلا وهو طاهر. وقاله علي بن عبد الله بن عباس، ورواه أيضًا عن أبيه مرفوعًا. وعند [ابن] أبي شيبة: أَمَرَ مُجَاهِدٌ مُؤَذِّنَهُ ألَّا يُؤَذِّنَ حَتَّى يَتَوَضَّأَ.
          وقوله: (الأذانُ حَقٌّ وَسُنَّةٌ) أراد إجماعهم أن من ترك الأذان لم تفسد صلاته، ولو قال قائل: إن الأذان فريضة لقوله تعالى: {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا}[الجمعة:9] لم يبعد، ودخول الأصبع في الآذان إن أراد أن يكون أرفع لصوته فحسن، وليس من واجبات الأذان.
          اختلف أهل العلم في الأذان على غير وضوء:
          فالذي ذهب إليه أبو حنيفة إن أذن المؤذن على غير وضوء جاز، ويكره أن يقيم على غير وضوء، أو يؤذن وهو جنب، وبكراهة الأذان على غير وضوء يقول الشافعي وإسحاق.
          ورخص فيه بعضهم، وبه يقول سفيان وابن المبارك وأحمد.
          قال البخاري: وقالت عائشة ♦: كَان رَسُوْلُ اللهِ صلعم يَذْكُرُ اللهَ عَلَى كُلِّ أَحْيَانِهِ.
          هذا التعليق رواه مسلم في «صحيحه» من حديث عبد الله البَهِيِّ [عن عروة] عنها، وقال فيه الترمذي: حسن غريب.
          قال ابن المنير: وجه مناسبة هذا الحديث بالترجمة أنه أراد أن يحتج على جواز الاستدارة، وعدم اشتراط استقبال القبلة في الأذان فإن المشترط لذلك ألحقه بالصلاة فأبطل عليه هذا الإلحاق بمخالفته لحكم الصلاة في الطهارة، فإذا خالفها في الطهارة، وهي إحدى شرائطها آذن ذلك بمخالفته في الاستقبال، وبطريق الأَولى، فإن الطهارة أدخل في الاشتراط من الاستقبال، ويؤيد هذا النظر أن بعضهم قال: يستدير عند حي على الفلاح، فإن هذه ليست ذكرًا إنما هي خطاب للناس، فبعدت عن شبه الصلاة فسقط اعتبار الصلاة فيها، والله تعالى أعلم.