الكواكب الدراري في شرح صحيح البخاري

باب قول الله تعالى: {فلا تجعلوا لله أندادًا}

          ░40▒ قوله: (وَهُمْ مُشْرِكُونَ) فإن قلت: الإيمان والكفر _يعني الشرك_ كيف يجتمعان؟ قلت: الإيمان بجميع ما يجب الإيمان به لا يجتمع به أما الإيمان بالله فيجتمع بأنواعٍ مِن الكفر، وَقَالَ عِكْرِمَةُ المفسِّر: قول ابن عبَّاس: إيمانهم أنَّهم يقولون: الله خالق كلِّ شيءٍ، وكفرهم عبادتهم غيره.
          قوله: (وَمَا ذُكِرَ) عطف على قول الله مضافًا إليه الباب والخلق لله والكسب للعباد.
          فإن قلت: الترجمة مشعرةٌ بأنَّ المقصود مِن الباب إثبات نفي الشريك عن الله فكان المناسب ذكره في أوَّل كتاب التوحيد. قلت: ليس المقصود ذلك بل هو بيان كون أَفْعَالِ العِبَادِ بخلق الله إذ لو كانت أفعالهم بخلقهم لكانوا شركاء لله وأندادًا له في الخلق ولهذا عطف (وَمَا ذُكِرَ) عليه.
          وفيه الردِّ على الجهميَّة حيث قالوا: لا قدرة للعبد أصلًا، وعلى المعتزلة حيث قالوا: لا دخل لقدرة الله فيها إذ المذهب الحقُّ أن لا جبر ولا قدر ولكن أمرٌ بين الأمرين أي بخلق الله وكسب العبد وهو قول الأشعريَّة.
          فإن قلت: لا يخلو أن تكون أفعال العبد بقدرته أم لا إذ لا واسطة بين النفي والإثبات، فإن كانت بقدرته فهو القدر الذي هو مذهب المعتزلة وإن لم تكن بها فهو الجبر المحض الذي هو مذهب الجهميَّة. قلت: للعبد قدرةٌ فلا جبر وبها يفرق بين النازل مِن المنارة والساقط منها ولكن لا تأثير لها بل الفعل واقعٌ بقدرة الله وتأثير قدرته فيه بعد تأثير قدرة العبد عليه، وهذا هو المسمَّى بالكسب.
          فإن قلت: القدرة صفةٌ تؤثِّر على وفق الإرادة فإذا نفيت التأثير عنها فقد نفيت القدرة لانتفاء الملزوم عند انتفاء لازمه. قلت: هذا التعريف غير جامعٍ لخروج القدرة الحادثة عنه بل التعريف الجامع لها صفةٌ يترتَّب عليها الفعل أو الترك عادةً. /
          قوله: (مَا نُنَزِّلُ الْمَلاَئِكَةَ) بالنون ونصب الملائكة فهو استشهادٌ لكون نزول الملائكة بخلق الله، وبالتاء المفتوحة والرفع فهو لكون نزولهم بكسبهم وتمام الآية {وَمَا كَانُوا إِذًا مُنْظَرِينَ. إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:8-9] وفيه أنَّ الله هو حافظ القرآن ومحمَّدٍ صلعم مِن شرِّ الناس لا هو صلعم وقال تعالى: {لِيَسْأَلَ الصَّادِقَينَ عَنْ صِدْقِهِمْ} [الأحزاب:8] أي: الأنبياء المبلِّغين المؤدِّين للرسالة عن تبليغهم، والتفسير بهم إنَّما هو بقرينة السابق عليه وهو قوله تعالى {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا} [الأحزاب:7] وهو لبيان الكسب حيث أسند الصدق إليهم والميثاق ونحوه. وقال تعالى: {وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ} [الزمر:33]. وهو أيضًا للكسب إذ أضيف التصديق إلى المؤمن لا سيَّما وأضاف العمل أيضًا إلى نفسه حيث يُقال (عَمِلْتُ).
          اعلم أنَّ الكسب له جهتان فأثبتهما بالآيات وقد اجتمعا في كثيرٍ مِن الآيات نحو {وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} [البقرة:15].