الكواكب الدراري في شرح صحيح البخاري

المقدمة

          ♫
          ربِّ يسِّر وأَعِنْ يا كريم
          الحمدُ لله الذي أنعمَ علينا بجلائل النِّعم ودقائقِها، وأعظمُها هو نعمة الإسلام، وجعل ديننا أشرفَ الأديان، وملَّتنا خيرَ المِلَل، وأمَّتنا أوسطَ الأُمم، ونبيَّنا هو أفضلَ الأنام، بيَّن الحلالَ والحرامَ وشرَّع الشَّرائع، وسنَّنَ السُّنَن وعلَّم بالقلم، وقد أَحكمَ الأحكام، وأَتْبع الكتابَ بالسُّنة لتفصيل مجمَلاتِه وتجزئةِ كليَّاتِه، وتشريح مُشكلاتِه، رحمةً للعالمين، وشَفَع القرآنَ بالحديث لتوضيح نصوصِه وتبيين فُصوصِه، وتخصيصِ عمومِه وتعميم خصوصِه، رأفةً وعنايةً بالمؤمنين.
          وصلَّى الله على سيِّدنا محمَّد المصطفى الذي مِن مشكاة ميامن وجودِه تتوقَّد جميعُ أنوارِ الكمالات والسَّعادات، ومنها الاقتباس، ومِن شجرتِه المباركة الطيِّبة ظهرَ أصولُ خيرات الدنيا والآخرة، وتبيَّن فروعُها الكافيات الشَّافيات، وقد قال تعالى: {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ} [النحل:44] كلَّما ذكرَه الذَّاكرون والذَّاكرات، وكلَّما غفل عنه الغافلون والغافلات.
          ورضي الله عن الصَّحابة والتَّابعين وتَبَعِ التَّابعين الذين نشروا العلوم في الآفاق، وطهَّروها مِن دَنَس الشِّرك والنِّفاق، وقد قطعوا عن الدنيا العلائِقَ وزيَّنوا مشارقَ الأرض ومغاربَها بمحاسن الأفعال ومكارم الأخلاق، وأولئك هم أفاضلُ الخَلائق، ما اتَّصل أسانيد الرِّوايات مِن الأسلاف إلى الأخلاف، وارتفع الدَّرجات بشرائف العلوم لأصناف الأشراف.
          أمَّا بعد:
          فإنَّ علمَ الحديث بعد القرآن هو أفضلُ العلوم وأعلاها، وأجلُّ المعارف وأسناها، مِن حيث إنَّه به يُعلَم مرادُ اللهِ تعالى مِن كلامِه، ومنه تظهر المقاصدُ مِن أحكامِه، لأنَّ أحكامَ القرآن جلُّها بل كلُّها كلِّيَّاتٌ، والمعلوم منه ليس إلَّا أمورًا إجماليَّاتٌ، كقولِه تعالى: أَقِيمُوا {الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [الحج:78] فإنَّ السُّنَّة هي المُعرِّفة لجزئيَّاتِها كمقادير أوقاتِ الصَّلاة وأعداد ركعاتِها وكمِّيَّاتها وكيفيَّاتِها وفرائضِها ونوافلِها وهيئاتِها وآدابِها وأوضاعِها وصفاتِها، وهي الموضِّحةُ لمفصَّلَاتِها كأقدار نُصُبِ الزَّكاة وأنواع ما يجبُ فيها وأوقاتِ الأداءِ ومَن وجب عليه وما وجب منها وهلمَّ جرًّا.
          وكذلك أعلى العلماء قدرًا، وأنورُهم بدرًا، وأفخمُهم خطرًا، وأنبلُهم شأنًا، وأعظمُهم عند اللهِ منزلةً ومنزلًا، وأكرمهم مكانةً ومكانًا، حَمَلةُ السُّنة النبويَّة وناقلو أخبارِها، وحَفَظَةُ الأحاديث وعاقلو أسرارِها، ومحقِّقو ألفاظِها وأربابُ روايتِها، ومدقِّقو معانيها وأصحاب دِرايتِها، وهم الطائفةُ المنصورة المشيِّدةُ لمباني الحقِّ والمسالك، ولن يزالوا ظاهرين عليه حتَّى يأتي أمرُ اللهِ وهم على ذلك.
          وكان كتابُ «الجامع الصَّحيح» للإمام أبي عبد الله محمَّد بن إسماعيل البخاريِّ، جزاه اللهُ تعالى عن الإسلام والمسلمين خيرًا، أجلَّ الكتبِ الصَّحيحة نقلًا وروايةً وفَهْمًا ودِرايةً، وأكثرَها تعديلًا وتصحيحًا وضبطًا وتنقيحًا واستنباطًا واحتياطًا، وفي الجملة هو أصحُّ الكتب المؤلَّفة فيه على الإطلاق، والمُقبَلَ عليه بالقَبول مِن أئمَّة الآفاق، وقد فاق أمثالَه في جميع الفنون والأقسام، وخُصَّ بالمزايا مِن بين دواوين الإسلام؛ شَهد له بالبراعة والتقدُّم الصَّناديدُ العِظام، والأفاضلُ الكرام، وفوائدُ هذا الكتاب العظيم الشَّأنِ الرَّفيعِ المِقدار الذي يُستسقَى ببركاتِه ويُستشفَى بختماتِه أكثرُ مِن أن تُحصَى، وأغزرُ مِن أن تُستقصى، وكيف لا وهو شاملٌ لأكثر أقوالِ النَّبيِّ صلعم وأفعالِه وأحوالِه، متناولٌ لأكثر أخبارِه وآثارِه وأعمالِه، وفيه مشاهدُه وغزواتُه وأخلاقُه ومعجزاتُه، وكرائمُ آدابِه ومناقب أصحابِه، إلى غير ذلك ممَّا لا يَخفى؛ مِن غموض الاستنباطات التي تَرجم عليها في الأبواب، والإشارةِ إلى المذاهب المستخرجة مِن الأحاديث للأصحاب، وإنِّي لم أرَ له شرحًا مُشتمِلًا على كشف بعض ما يتعلَّق مِن الكتاب فضلًا عن كلِّها، أو مشتغلًا بما يتعلَّق بالبحث عن عويصاتِه فضلًا عن حلِّها، مع ارتحالي إلى بلادٍ كثيرةٍ هي مظانُّ وِجدانِه، ولم أظفر بعد التَّفتيش والتَّنقيب إلَّا على فقدانِه؛ والشُّروح التي شرحَها الشَّارحون لا تشفي عليلًا ولا تسقي غليلًا.
          ها هو ذا كتابُ الإمام أبي الحسن عليِّ بنِ خلف المالكيُّ المغربيُّ المشهور بابنِ بطَّال إنَّما هو غالبًا في فقه الإمام مالكٍ ☺ مِن غير تعرُّضٍ لما هو الكتاب مصنوعٌ له، وكتاب الشَّيخ العلَّامة أبي سليمان حَمْد بن محمَّد بن إبراهيم الخطَّابيُّ _شكَّر الله مساعيه_ فيه نُكَتٌ / متفرِّقات، ولطائفُ على سبيل الطَّفرات، ليس لما لفظُ الشَّرح موضوعٌ له، وأمَّا الذي ألَّفَه الإمام العالم المشهور بمُغُلْطاي التُّرْكيُّ المِصْرِيُّ فهو بكتب تتميم الأطراف أَشْبَهُ، وبصحف تصحيح التَّعليقات أمثل، وكأنَّه مِن إخلائِه عن مقاصد الكتاب على ضمان، ومِن شرح ألفاظِه وتوضيح معانيه على أمان، ولا أقول ذلك _والله عالمٌ به_ غضًّا مِن مراتبِهم الجليلة العليَّة، أو وَضْعًا مِن رفيعات أقدارِهم الشَّريفة السَّنيَّة، حاشا مِن ذلك، وكيف وإنِّي مقتبسٌ مِن لوامع أنوارِهم الشَّارقات، ملتمسٌ مِن جوامع آثارِهم البارقات، فَهُمُ القدوة وبهم الأُسوة، ♥ وعن جميع أسلافنا أئمَّةً جابوا في تحصيلِها الفَلَوات، ونَسُوا في خدمتِها اللذَّات والشَّهوات، ومارسوا الدَّفاتر وسامروا المحابر، فأجالوا في نظم قلائدِها أفكارَهم، وأنفقوا على اقتناص شواردِها أعمارَهم، ووقفوا لتقييد أوابِدِها ليلَهم ونهارَهم، فأخذوا وبلَّغوا، وأصَّلوا وفصَّلوا، ومهَّدوا وأسَّسوا، وجمعوا وفنَّنوا، ووضعوا وأتقنوا، وألَّفوا وصنَّفوا، ورتَّبوا ودوَّنوا، وفرَّعوا وبوَّبوا، وصحَّحوا ونقَّحوا، صانوها عن التَّحريف والفساد، وحفظوها عن التَّصحيف والنَّقص والازدياد، وكلَّما عرَض لها شيءٌ مِن الفَتْرة ردَّ اللهُ لها الكرَّة، وأكمل لهم المعونة والنُّصرة، حتَّى وصلتْ إلينا صافيةَ المشارِِع ضافية المَذَارِع، ورياضُ صحائفِها تصبح مُمْرِعَة، وحياضُ لطائفِها تُضحي مُترَعَة، فعظَّم الله تعالى أقدارَهم الفاخرة، ورفع أخطارَهم الشَّريفة في الآخرة، وأعلى درجاتِهم في أعلى عليِّين، مع الذين أنعم الله عليهم مِن النبيِّين والصدِّيقين والشَّهداء والصَّالحين.
          وإنَّما قصدتُ بذلك إظهارَ احتياج هذا الكتاب _الذي هو تالي كتاب الله تعالى_ إلى شرحٍ مُكمِّل للفوائد، شامل للعوائد، عامِّ المنافع، تامِّ المصالح، جامعٍ لشرح الألفاظ اللغويَّة الغريبة، ووجه الأعاريب النَّحْوية البعيدة، وبيانِ الخواصِّ التركيبيَّة، واصطلاحاتِ المحدِّثين، ومباحثِ الأُصوليِّين، والفوائدِ الحديثيَّة، والمسائلِ الفقهيَّة، وضبطِ الرِّوايات، وتصحيحِ أسماء الرِّجال، وألقابِ الرُّواة وأنسابِهم وصفاتِهم، ومواليدِهم ووفَياتِهم، وبلادِهم ومرويَّاتهم، والتَّلفيقِ بين الأحاديث المُتنافية الظَّواهر، والتُوفِّيقِ بينها وبين التراجم المستورِ على أكثر الضَّمائر، ولتوضيحِ ما صَعُبَ سلوكُ مناهجِها، وتبيينِ ما لم يظهر مِن مقدِّماتها نتائجُها، وتليين ما لم يُذلَّل مِن صِعابها، ولم يخضع للفهم رِقَابُها وبعضُ عويصاتِها ممَّا جلَّ جنابُها عن أن تكون شريعةً لكلِّ وارد، أو يطَّلع عليه إلَّا واحدٌ بعدَ واحد، فاستخرتُ الله تعالى واستعنتُ به في تأليف شرحٍ موصوفٍ بالصِّفات وزيادة، معروفٍ بإفادة ذلك ونِعْمَ الإفادة، مع اعترافي بالقُصورِ وقلَّة البضاعة، والفتورِ وقِصَر الباعِ في هذه الصِّناعة، فتصدَّيتُ لذلك، وشرحتُ مفردات اللُّغة الغيرِ الواضحة، وذكرتُ توجيهَ الإعرابات النَّحْوية الغيرِ اللَّائحة، وتعرَّضتُ لبيان خواصِّ التَّراكيب بحسب علم المعاني، وإظهارِ أنواع التَّصرُّفات البيانيَّة مِن المجاز والاستعارة، والكناية والإشارة، إلى ما يُستفاد منها مِن القواعد الكلاميَّة، ومِن أُصول الفقه؛ مِن العامِّ والخاصِّ، والمجمل والمبيَّن، وأنواع الأقيسة الجلائيَّة والخفائيَّة، والمسائل الفقهيَّة والمباحث الفروعيَّة، ومِن الآداب والرَّقائق ونحوِها، ولما يتعلَّق بعلوم الحديث واصطلاحات المحدَّثين مِن المتابعة والاتِّصال، والرَّفع والإرسال، والوقف والتَّعليلات وغيرها، ولتصحيحِ الرِّوايات واختلافات النُّسخ وترجيحِها، والتعرُّض لأسماء الرِّجال وتعجيم ألفاظِها، وتوضيح مُلتبِسِها، وتكشيف مشتبِهها، وتبيين مختلفِها، وتحقيق مؤتلِفِها، وأنسابِهم وألقابِهم وبلادِهم، ووفَياتهم إلى آخر تراجمِهم، ولفَّقتُ بين الأحاديث التي بحسب ظواهرِها مُتنافية، والأخبار التي في بادئ الرَّأي مقتضياتُها متباينة، وبيَّنتُ مناسبةَ الأحاديث التي في كلِّ بابٍ لما تَرجم عليه، ومطابقتَها لما عَقد له وكسر إليه، وهو قسمٌ عجز عنه الفحول البوازل في الأَعصار، والعلماء الأفاضل مِن الأمصار، فتركوها واعتذروا عنها بأعذار، ومِن جملتها ما قال الإمام الحافظ أبو الوليد سليمان البَاجيُّ _بالموحَّدة والجيم_ المغربيُّ في كتاب «التَّعديل والتَّجريح لرجال البخاري»، قال: أخبرنا أبو ذرٍّ عبدُ بنُ محمَّد / بنِ أحمد الهرويُّ، حدَّثنا أبو إسحاق المُستَمليْ إبراهيم بن أحمد قال: انتسختُ «كتاب البخاريِّ» مِن أصلِهِ كان عند محمَّد بن يوسف الفَرَبْريِّ، فرأيتُه لم يَتمَّ بعدُ، وقد بقيتْ عليه مواضع مُبيَّضَة كثيرة، منها تراجم لم يُثبتْ بعدَها شيئًا، ومنها أحاديث لم يُترجم عليها، فأضفنا بعض ذلك إلى بعض. قال: وممَّا يدلُّ على صحِّة هذا القول أنَّ رواية أبي إسحاق، ورواية أبي محمَّد، ورواية أبي الهيثم، ورواية أبي زيد _وقد نسخوا مِن أصل واحد_ فيها التَّقديم والتَّأخير، وإنَّما ذلك بحسب ما قَدَر كلُّ واحد منهم فيما كان في طُرَّةٍ أو رُقعةٍ مضافةٍ أنَّه مِن موضعٍ ما فأضافَه إليه، ويُبَيِّنُ ذلك أنَّك تجد ترجمتين فأكثر مِن ذلك متِّصلة ليس بينها أحاديث، قال: وإنَّما أوردتُ هذا لما عُني به أهل بلدنا مِن طلب معنىً يجمع بين الترجمة والحديث الذي يليها، وتكلُّفِهِم في ذلك مِن تعسِّف التَّأويل ما لا َيسوغ، والبخاريُّ وإن كان مِن أعلم النَّاس بصحيح الحديث وسقيمِه، فليس ذلك مِن علم المعاني وتحقيق الألفاظ بسبيل، كيف وقد روى أبو إسحاق العلَّةَ في ذلك وبيَّنها: أنَّ الحديث الذي يلي الترجمة ليس بموضوعٍ لها، وإنَّما هو موضوع ليأتي قبل ذلك بترجمتِه، ويأتي للتَّرجمة التي قبلَه مِن الحديث بما يَليق بها.
          وسَعيتُ فيه في توضيح العبارات وكشف القناع عن المُشكلات، ولم أُبالِ عن الإعادة في الإفادة عند الحاجة إلى البيان، ولا في تعجيم بعض الأسماء التي هي واضحة عند أهل هذا الشَّأن، لأنِّي قصدتُ فيه النفعَ للمُبتدئين وللمنتَهيين، والفائدةَ للمتقدِّمين والمتأخِّرين، وقد جرى في هذه الأيَّام في بعض أُمَّهات الإسلام أمرٌ، وهو أنَّ سلطانَه مَرِضَ فأرادَ التَّبرُّك بقراءة «البخاريِّ» لاستشفاء علَّتِه واستسقاء غلَّتِه، فأشار إلى أهلِها بقراءتِه وأمرَهم بتلاوتِه، فاشتبَه عليهم أكثر الأسماء، مثل ابن بُكير هل هو مصغَّرٌ أو مكبَّرٌ؟ حتَّى كادوا يتركون قراءتَه لذلك، فصار هذا أيضًا مضافًا إلى ما كنتُ قصدتُه مِن الزِّيادة على التَّوضيح في قسم الأسماء، لا سيَّما وقد صارَ هذا الفنُّ مهجورًا في أكثر الأمصار، وليس للعقل فيه دخل ولا للقياس فيه اعتبار، فجاء بحمد الله كتابًا حافلًا لكلِّ ما يَحتاج إليه المُحتفل به، فهو شيخٌ للطالب أستاذٌ للمتعلِّم، مرشدٌ للمشتغل به، فيا لها مِن نعمةٍ عظيمةٍ أخلصتُ لك نقاوتَها، وطُعْمةٍ جَسيمةٍ صَفَّيتُ لك حلاوتَها، وغنيمةٍ باردةٍ اخترتُ لك صفيَّها، ولُقمةٍ هَنيئةٍ أعددتُ لك نقيَّها، هكذا تُنمى الجدود، وتُسفر عن مطالعِها السُّعود، عِشْ بجدٍّ صاعدٍ، فربَّ ساعٍ لقاعد، فإنَّك استغنيتَ به عن ألف كتابٍ أو زائد، ولو كان لكتابيْ هذا نَفْسٌ ناطقة، ولسانٌ مطلقة، لقال بمقالٍ صريحٍ، وكلام فصيح: للهِ دَرُّ مؤلِّف هذا التَّأليف الرَّائق الرَّئيس، ولا شُلَّتْ يد مصنِّفِ هذا التصنيف الفائق النَّفيس، وهذا الكتاب لا بدَّ أنْ يقع لأحد رجلين: إمَّا عالم مُنصِف فيشهد ليْ بالخير، ويَعذرنيْ فيما كان عسى مِن العِثار، الذي هو لازم الإكثار، وإمَّا جاهل متعسِّف، فلا اعتبار لوَعْوَعَتِه، ولا اعتداد بوسوستِه، ومثلُه لا يُعبأ به، لا بمخالفةٍ ولا بموافقةٍ، وإنَّما الاعتبار بذي النَّظر الذي يُعطي كلَّ ذي حقِّ حقَّه:
إِذَا رَضِيَتْ عَنِّيْ كِرَامُ عَشِيْرَتِيْ                     فَلَا زَالَ غَضْبَانًا عَلَيَّ لِئَامُهَا
          هذا ولا أدَّعي العصمةَ والبشرُ محلُّ النُّقصان، والخطأ والنسيان مِن لوازم الإنسان، لكنَّ المقصود طلب الإنصاف والتَّجنب عن الحسد والعناد والاعتساف، وفَّقنا الله تعالى للسَّداد وثبَّتنا على الصَّواب والرَّشاد، وما توسَّلتُ به إلى غرضٍ دنيويٍّ، مِن مالٍ أو جاهٍ، أو تقرُّبٍ إلى سلطان أو خليفة، كما هو عادة أبناء زماننا مِن أصحاب الهِمم القاصرة والعقول الضَّعيفة، بل جعلتُه للهِ تعالى ولوجهِه خالصًا، سائلًا أن ينفعني به حين يكون الظِّل في الآخرة قالصًا، وأن يَهبَ عليه قبول القبول، فإنَّه أكرم مسؤولٍ وأعزُّ مأمولٍ، وشرَّفتُ ديباجتَه باسم حبيبِه سيِّد الأوَّلين والآخرين محمَّد عليه أفضلُ الصَّلوات وأكملُها، وأشرفُ التسليمات وأجلُّها، وجعلتُه وسيلةً إلى حضرتِه الشَّريفة المطهَّرة المعظَّمة، ووسيطةً إلى عتبتِه الجليلة المقدَّسة المكرَّمة، صلَّى الله عليه وعلى آله أزكى صلاةٍ وأعلاها، وكنتُ في زمان مجاورتي بمكة المشرَّفة مكمِّلًا لهذا الشَّرح فيها إذا عانقتُ الملتزم المبارك كنتُ أجعل الكعبة المعظَّمة _زادها الله تعالى عظمة وجلالًا_ شفيعًا في أن يتقبَّلَه الله تعالى منِّي أحسن التقبُّلات، ويصير عندَه صلعم مِن أشرف الوسائط / وأحسن الوسيلات، ولكلِّ مُثْنٍ عليَّ مَن أثنى عليه وكلِّ متوسلٍ عليَّ مَن يتوسل إليه مثوبةً مِن جزاء، أو عارفةً مِن عطاء، فأنا أرجو شفاعتَه في أن يعفو عني الزَّلات، ودعوتُه في أن يرحمني ويرفع لي الدرجات، جائزةً وادِّخارًا، وعطيةً واستظهارًا، اللَّهمَّ لا تُخيِّب رجانا، واستجبْ دعانا، ولا زلتُ متفكِّرًا في تسميتِه، إذ كنت في بعض اللَّيالي في المطاف بعد فراغي مِن الطَّواف، فألهمني ملهمٌ بأنَّه هو «الكواكبُ الدَّرَارِي في شرح صحيح البخاريِّ» فسمَّيتُه به، وأسأل الله تعالى أن لا يُؤاخذنا بما نسينا أو أخطأنا فيه، وأن يعفو عنَّا ويغفر لنا ويرحمنا إنَّه هو الجواد الكريم، الرَّؤوف الرَّحيم.
          اعلم أنَّ «صحيح البخاريِّ» لا حاجةَ له في بيان حالِه إلى تعديل رجالِه، لأنَّهم ينقسمون إلى قسمين: رجالٌ بينَه وبين رسول الله صلعم ، واتَّفق الأُمَّة المكرَّمة المعظَّمة الأقدار على أنَّهم عدولٌ ثقاتٌ أخيارٌ أبرارٌ، فما ذكرنا إلَّا أنسابَهم ووفَياتهم، ونحو ذلك ممَّا تميل الخواطر إليها، وذلك لتكثير الفوائد وتغزير العوائد، وللاستئناس بها، لا للتَّعديل والتَّجريح، أو التَّضعيف والتَّصحيح، وصحَّحنا أسماءَهم احترازًا عن الاختلاط والتَّحريف، واتِّقاءً عن الاختباط والتَّصحيف، وذلك إنَّما هو مِن كتب متعدِّدة مشهورة عند أبناء الزَّمان، وصُحفٍ متكثِّرة مذكورةٍ بين أصحاب هذا الشَّأن، وأكثرُها مِن كتاب الشيخ أبي نصر أحمدَ بن محمَّد بن الحسن الكلاباذيِّ، ومن «تقييد المُهمل» للحافظ أبي عليٍّ حسين الغسَّاني _بالمعجمة وشدَّة المهملة وبالنُّون_ الجَيَّانيِّ _بالجيم وتشديد التَّحتانيَّة وبالنُّون_ المغْرِبيِّ، ومِن كتاب «الإكمال» للأمير أبي نصر ابن ماكولا، ومِن «جامع الأصول» للإمام أبي السَّعادات ابن الأثير، جزاهم الله تعالى خيرًا.
          ورجالٌ بيننا وبين البخاريِّ ولا حاجة لنا إلى معرفتِهم بذواتِهم، فضلًا عن جرحِهم وعدالتِهم؛ لأنَّ «صحيحَه» بالنِّسبة إلينا متواترٌ، ولا إلى الإسناد إليهم، لكن لمَّا كان الإسناد خصيصةَ هذه الأمَّة المباركة ومِن جملة شرفِها، فلا بدَّ مِن اعتبارِه اقتداءً بالسَّلف وحفظًا للشَّرف، فأقول:
          وأمَّا إسنادي إليه فهو مِن شيوخٍ متوافرة، وعلماءَ متكاثرة، مِن أهل الحرمين الشَّريفين مكَّة والمدينة _ضاعف الله شرفَهما_ والقدسِ والخَليلِ ومِصرَ والشَّامِ والعراق وغيرِها، ورحلتُ لأجلِه خاصَّة إلى هذه البلاد برِّها وبحرِها، لكنَّ السَّماع التَّامَّ الشَّافيْ والاستماع الكامل الكافيْ إنَّما هو مِن شيوخٍ ثلاثة:
          الأوَّل: الشَّيخ الإمام العلَّامة محدِّث الجامع الأزهر مِن القاهرة المُعزِيَّة بالدِّيار المصريَّة، ناصر الدين محمَّد بن أبي القاسم بن إسماعيل بن محمَّد بن المظفَّر أبو عبد الله الفارِقيُّ؛ كان شيخًا فقيرًا صوفيًّا عالمًا بما يَقرأ، ضابطًا مُنصفًا، كان يأكل مِن أجرة الكتابة، وكان قد داوم سِنِيْنَ ومِنِينَ على قراءة شيءٍ مِن «صحيح البخاريِّ» صبيحةَ كلِّ يوم بالجامع الأزهر، مات في حدود سِتِّينَ وسبعمائة. وإنَّه حدَّثني بأكثرِه قراءةً منه، وأخبرني بالباقي قراءةً عليه. قال: أخبرني مشايخُ جَمَّة منهم أبو عبد الله محمَّد بن أبي الحَرَم _بالمهملة والرَّاء المفتوحتين_ مكِّيٌّ _منسوبٌ إلى مكَّة المشرَّفة_ ابن أبي الذِّكر _بكسر المعجمة_ عبد الغني القُرشيُّ المغربيُّ الدِّمشقيُّ، كان شيخًا مباركًا صحيحَ السماع مُكثِرًا، وكان رقَّامًا بدارِ الطِّرَاز مِن القاهرة، مات سنةَ تسعٍ وتسعين وستمائة سماعًا، قال: أخبرنا الشيخ أبو عبد الله الحسين بن المبارك بن محمَّد الرَّبَعيُّ _بفتح الرَّاء والموحَّدة وبالمهملة_ الزَّبِيديُّ _بفتح الزَّاي وكسر الموحَّدة_ البغداديُّ الفقيه، كان ديِّنًا خيِّرًا حَنبليًّا، حدَّث بالعراق وبالشَّام، وألحقَ الأحفادَ بالأجداد، وُلد سنةَ ستٍّ وأربعين وخمسمائة، وماتَ سنةَ إحدى وثلاثين وستمائة سماعًا، قال: أخبرنا أبو الوقت عبد الأوَّل بن عيسى بن شُعيب السِّجْزِيُّ _بكسر المهملة_ الهَرَويُّ الصوفيُّ قراءةً عليه، وكان أبوه قد حملَه على رقبتِه مِن هَرَاةَ إلى فُوشَنج لسماع الحديث، وصار شيخًا صالحًا، أَلحقَ الصغار بالكبار، وكان حاضرَ الذهن مستقيمَ الرَّأي، وصحبَ شيخ الإسلام أبا عبد الله الأنصاريَّ، وُلد سنة ثمانٍ وخمسين وأربعمائة، ومات سنة ثلاثٍ وخمسين وخمسمائة ببغداد، ودُفن بالشُّونيزيَّة، قال: أخبرنا أبو الحسن عبدُ الرحمن بن محمَّد بن المظفَّر بن محمَّد بن داود الدَّاوديُّ الفُوْشَنْجيُّ _بضمِّ الفاء وسكون الواو وفتح المعجمة وتسكين النُّون وبالجيم_ منسوبٌ إلى بلدةٍ بقرب هَرَاة خُراسان، قراءةً عليه ونحن نسمع، كان أحدَ أعيان / الشَّافعيَّة، والأئمةُ أثنوا عليه في علمِه وورعِه ورسوخ قَدمِه في التَّقوى، يُحكى أنَّه ترك أكلَ اللَّحم وقتَ نَهْبِ التُّركمان مكتفيًا بالسَّمك، فحُكي له أنَّ بعض الأمراء أكلَ على حافَّة الموضع الذي يُصاد منه السَّمك له ونفضَ ما فضلَ مِن سفرتِه فيه فما أكلَ السَّمك منه بعد ذلك، مات سنةَ سبعٍ وستِّين وأربعمائة، قال: أخبرنا الشَّيخ أبو محمَّد عبد الله بن أحمد بن حَمُّوْيه _بفتح المهملة وشدَّة الميم المضمومة وإسكان الواو وبالتحتانيَّة_ السَّرَخْسيُّ _بفتح المهملة والرَّاء وسكون المعجمة وقد يُقال بسكون الرَّاء وفتح المعجمة_ سماعًا عليه، كان ثقةً صاحب أصولٍ حِسان، وُلِدَ سنةَ ثلاثٍ وتسعين ومائتين، ومات سنة إحدى وثمانين وثلاثمائة، قال: أخبرنا الشَّيخ أبو عبد الله محمَّدُ بن يوسف بن مطر بن صالح الفَرَبْريُّ _بفتح الفاء وكسرها وفتح الرَّاء الأولى وإسكان الموحدة_ منسوبًا إلى قرية مِن قُرى بُخارى، قراءةً عليه، كان ثقةً ورعًا، سمع «الصحيحَ» مِن البخاريِّ مرَّتين؛ مرَّة بفَرَبْر ومرَّة ببُخارى، وقيل ثلاثَ مرَّات، وهو حاملُ لواء البخاريِّ روايةً _ونعم الحامل ونعم المحمول_ وُلِدَ سنةَ إحدى وثلاثين ومائتين، ومات سنةَ عشرين وثلاثمائة.
          الثَّاني: الشَّيخُ الإمام الحافظ محدِّث الحرم الشَّريف النَّبويِّ صلَّى الله على ساكنِه، أبو الحسن عليُّ بن يوسف بن الحسن الزَّرَنْديُّ _بفتح الزَّاي والرَّاء وإسكان النُّون وبالمهملة_ الأنصاريُّ، كان عالم المدينة في أوانِه، المضروب إليه أكبادُ المطيِّ في زمانِه، وكفاه فضلًا أنَّه كان مِن أصحاب الإسماع عند الرَّوضة الشَّريفة، وأرباب الإفادة عند العَتَبة الكريمة المُنيفة، صلوات الله تعالى وسلامُه على صاحبِها، مات سنةَ ثِنتين وسبعين وسبعمائة، قال: أخبرنا الشَّيخ المعظَّم جمال الدِّين أبو محمَّد عبد الرَّحيم بن عبد الله بن يوسف الأنصاريُّ، عُرِفَ بابن شاهد الجيش _بالجيم والتحتانيَّة والمعجمة_ كان مِن بيت العلم، وكان رئيسًا لديوان الإنشاء بحلب الشَّام، مات بعد ستِّين وسبعمائة سماعًا، قال: أخبرنا الشَّيخ أبو الطَّاهر إسماعيل بن عبد القويِّ بن أبي العزِّ بن عَزُّون _وهو بفتح المهملة وضمِّ الزَّاي الشَّديدة وبالواو وبالنُّون_ الأنصاريُّ الشافعيُّ المِصريُّ، والشيخ نظام الدِّين أبو عمرو عثمان بن عبد الرَّحمن بن رَشِيق _بفتح الرَّاء وكسر المعجمة_ الرَّبَعيُّ _بالرَّاء والموحَّدة المفتوحتين وبالمهملة_ المالكيُّ قراءةً عليهما وأنا أسمعُ خَلا شيئًا يسيرًا وهو مِن باب المسافر إذا جدَّ به السَّير إلى كتاب الصيام، ومِن باب مَا يجوزُ مِن الشُّروط في المكاتب إلى باب الشروط في الجهاد، ومِن باب غزوة المرأةِ في البحر إلى باب دعاء النَّبيِّ صلعم الناسَ فإنَّه بالإجازة، قالا: أخبرنا أبو القاسم هِبة اللهِ بن عليِّ بن مسعودٍ الأنصاريُّ البُوْصِيْريُّ _بضمِّ الموحَّدة وسكون الواو وكسر المهملة وإسكان التَّحتانيَّة وبالرَّاء_ قراءةً عليه، قال: أخبرنا أبو عبد الله محمَّد بن بركات _ويُقال: ابن هِلالٍ_ السَّعديُ النَّحْويُّ اللُّغويُّ سماعًا، قال: أخبرتنا أمُّ الكِرام كريمةُ بنت أحمد بن محمَّد بن حاتم المَرْوَزِيَّة سماعًا، قالت: أخبرنا الإمام أبو الهَيْثم _بفتح الهاء وإسكان التَّحتانيَّة وبالمثلَّثة_ محمَّد بن مَكِّي _بفتح الميم وشدَّة الكاف والتَّحتانيَّة_ ابن محمَّد بن زُرَاع _بضمِّ الزَّاي وخفَّة الرَّاء وبالمهملة_ الأديب الكُشْماهَِني _بضمِّ الكاف وتسكين المعجمة وبفتح الهاء وكسرِها_ وقد تُمال الألف، وقيل: الياء هو على الأصل، وهي قريةٌ بمَروٍ، سماعًا عليه، قال: أخبرنا الفَرَبْريُّ سَماعًا عليه.
          الثَّالثُ: الشَّيخ الكبير بقيَّة السَّلف، قدوة الخلف، جمال الدِّين محمَّد بن الشيخ شهاب الدِّين أحمد بن عبد الله بن عبد المعطي الأنصاريُّ المكِّيُّ، محدِّث الحرم الشَّريف الإلهيِّ، كثير الطَّاعات والعبادات، غزير المناسك والطَّوافات، أخبرنا أنَّه حجَّ خمسةً وسبعين حِجَّة، سمعنا عليه «صحيح البخاريِّ» بمكَّة المشرَّفة بالمسجد الحرام بباب الرَّحمة، تجاه الكعبة المعظَّمة _زادها الله عظمةً_ حِذاء الرُّكن اليماني، إلَّا مِن كتاب الشهادات إلى سورة الفتح، فإنَّه كان بدارِه المباركة التي بقرب الباب المشهور بباب إبراهيمَ مِن الحرم الشَّريف، في ثلاثة أشهر آخرُها رمضانُ سنةَ خمسٍ وسبعين وسبعمائة، قال: أخبرنا الشَّيخ الرَّاوية شيخ علماء الشَّرق والغرب إمام مقام إبراهيم الخليل صلوات الله تعالى وسلامُه عليه رضيُّ الدِّين أبو إسحاق إبراهيم بن محمَّد بن إبراهيم الطَّبريُّ، مات سنة اثنين وعشرين وسبعمائة، سماعًا بسماعِه على الشَّيخ الجليل المسند ركن الدين عبد الرَّحمن بن / أبي حَرَمي _بالمهملة والرَّاء المفتوحتين_ ابن بَنِين _بلفظ جمع الابن_ الكاتب المكِّيُّ، ما خلا مِن باب قول الله تعالى: {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا} [العنكبوت:36] إلى بابِ مَبعث النَّبيِّ صلعم فإنَّه بالإجازة، قال: أخبرنا الشَّيخ أبو الحسن عليُّ بن حُمَيد _بضمِّ الحاء_ ابن عمَّار _بتشديد الميم_ الأَطْرابُلسي _بفتح الهمزة وإسكان المهملة وبالرَّاء وضمِّ الموحدة وباللَّام وبالمهملة_ المكيُّ سماعًا، قال: أخبرني أبو مكتوم _بالفوقانيَّة_ عيسى بسماعِه عن والدِه الحافظ أبي ذَرٍّ _بفتح المعجمة وشدَّة الرَّاء_ عبدُ بن محمَّد بن أحمد الهرويُّ، وُلد سنةَ خمسٍ أو ستٍّ وخمسين وثلاثمائة، ومات سنةَ أربعٍ وثلاثين وأربعمائة، بسماعِه عن الأئمَّة الثَّلاثة أبي الهيثم الكُشْماهَنيُّ وأبي محمَّد السَّرَخْسيُّ المتقدِّم ذكرُهما، وأبي إسحاق إبراهيم بن أحمد المُستملِيْ ببَلخٍ، وكان مِن الثِّقات، مات سنة ستٍ وسبعين وثلاثمائة، هذا وللشَّيخ رضيِّ الدِّين إمام المقام طريقةٌ غير طريقةِ الفَرَبْريِّ، وهي مِن النفائس، وبها يكمُل لنا مِن البخاريِّ إلينا في كلِّ مرتبةٍ راويان، وهو مهتَمٌّ به معتنًى عليه عندَ أهل هذا الشأن، قال: أخبرنا الشَّيخ ركن الدِّين عبد الرَّحمن الكاتب، عن الحافظ أبي طاهر أحمد بن محمَّد بن سِلَفَه _بكسر المهملة وفتح اللام وبالفاء_ وهو أعجميٌّ ومعناه بالعربيِّ ثلاثُ شِفاه لأنَّ شفتَه كانت مشقوقة، وأصلُه كان بالموحدة فأُبدلت بالفاء، الأصفهانيُّ، وُلد سنة ثنتين وسبعين وأربعمائة، ومات سنة ستٍّ وسبعين وخمسمائة فجأةً بالإسكندرية، قال: أخبرني أبو الخطَّاب _بالمعجمة وشدَّة المهملة_ نَصْرُ _بسكون المهملة_ ابنُ أحمد بن البَطِر _بفتح الموحَّدة وكسر المهملة_ القارئ مِن القراءة سماعًا، وُلِدَ في سنةِ ثمانٍ وتسعين وثلاثمائة، وماتَ سنةَ أربعٍ وتسعين وأربعمائة، قال: أخبرنا أبو محمَّد عبد الله بن عُبيد الله بن يحيى بن زكريا المؤدِّب، ويُعرف بابن البَيِّع _بفتح الموحدة وكسر التَّحتانيَّة الشَّديدة_ وُلد سنة إحدى وعشرين وثلاثمائة، ومات سنةَ ثمانٍ وأربعمائة، قال: أخبرنا القاضي الفقيه أبو عبد الله الحسين بن إسماعيل الضَّبيُّ _بالمعجمة_ المَحَامِليُّ، كان أحدُ أجدادِه يبيع المحمل الذي يُركب عليه، وهو آخر مَن روى عن البخاريِّ ببغداد، وقال بعضُهم: سماعُه منه إنَّما هو لبعض «صحيحِه» لا لكلِّه، وُلد سنة خمسٍ وثلاثين ومائتين ومات سنةَ ثلاثينَ وثلاثِ مئةٍ.
          وأمَّا البخاريُّ فهو أبو عبد الله محمَّد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة بن بَرْدِزْبه _بفتح الموحَّدة وإسكان الرَّاء وكسر المهملة وتسكين الزَّاي وبالموحَّدة_ الجُعْفيُّ _بضمِّ الجيم وسكون المهملة وبالفاء_ البخاريُّ، أسلم المغيرةُ وكان مجوسيًّا على يد اليَمان الجُعفيِّ والي بُخارى، وأبوه إسماعيلُ كان مِن خِيار النَّاس، وأمُّه كانت مُجابةَ الدَّعوة، وكان البخاريُّ قد ذهب بصرُه وهو صغير، فرأتْ أُمُّه في المنام إبراهيمَ الخليل عليه الصَّلاة والسَّلام، وقال: يا هذه قد ردَّ اللهُ على ابنِك بصرَه لكثرة دعائِك أو بكائِك، فأصبح بصيرًا، وُلِدَ ببُخارى سنةَ أربعٍ وتسعينَ ومئةٍ، وأُلهِمَ حفظَ الحديث في صغرِه وهو ابن عشْر سنين أو أقلَّ، ثمَّ حجَّ به أبوه، فرجع أبوه وهو أقامَ بمكَّة المكرَّمة في طلب العلم، وذلك سنةَ ثمان عشرة مِن عمرِه، ورحل رحلاتٍ واسعات في طلب الحديث إلى أمصار الإسلام، وكتب عن شيوخٍ متوافرات وأئمة متكاثرات، قال: كتبتُ عن ألفٍ وثمانين رجلًا ليس فيهم إلَّا صاحبُ حديثٍ كلُّهم كانوا يقولون: الإيمانُ قولٌ وعملٌ يزيد وينقص. حتَّى صار إمام أئمَّة الحديث والمقتدى به في هذا الشَّأن، وأجمع المحقِّقون على أنَّ كتابَه أصحُّ كتاب بعد القرآن، وروى عنه خلائق كثيرون، نحو مِن مئةِ ألفٍ أو يزيدون أو ينقصون، وعظَّمَه العلماء غايةَ التعظيم، وكرَّمَه الفضلاء نهاية الإجلال والتكريم، حتَّى إنَّ مُسلمًا صاحب «الصحيح» كلَّما دخل عليه يُسلِّم ويقول: دعني أقبِّل رِجليك يا طبيبَ الحديث في عللِه، ويا أستاذ الأُستاذين ويا سيِّد المحدِّثين. وقال أبو عيسى الترمذيُّ: لم أرَ مثلَه وجعلَه اللهُ تعالى زينَ هذه الأمَّة. وقال أبو نُعَيم: إنَّه فقيه هذه الأُمَّة، وقال محمَّد بن بشَّار _بإعجام الشِّين_: وكان علماء مكَّة يقولون: هو إمامنا وفقيهُنا وفقيه خراسان. وقال ابن المدينيِّ: هو ما رأى مثلَ نفسِه، وقال ابن خُزيمةَ مصغَّرُ الخَزَمة بالمعجمة والزَّاي: ما تحت أديم السَّماء أعلمُ بالحديث منه وأحفظ. وقال بعضُهم: هو آية مِن آيات الله تعالى تمشي على وجه الأرض، ونحو ذلك، وكان في سعةٍ مِن الدنيا، قد وَرِثَ مِن أبيه مالًا وكان يتصدَّق به، وربَّما كان يأتي عليه نهارٌ ولا يأكل فيه وإنَّما يأكل أحيانًا لوزتين أو ثلاثًا، وكان يختمُ في كلِّ ثلاث ليالٍ، وكان حفظُه في غاية الكمال، قال: خرَّجْتُ هذا «الصَّحيح» مِن زُهاء ستِّ مئةِ ألفِ حديثٍ، وقال: ما وضعتُ في كتابي / هذا حديثًا إلَّا اغتسلتُ قبل ذلك وصلَّيت ركعتين. وقيل: كان ذلك بمكَّة شرَّفها الله تعالى، والغسلُ بماء زمزمَ والصَّلاةُ خلف المقام، وقيل : كان بالمدينة صلَّى الله وسلم على صاحبها وترجم أبوابَه في الرَّوضة المباركة، وصلَّى لكلِّ ترجمةٍ ركعتين، وقيل: صنَّف «الجامعَ» في ستَّ عشْرة سنة، والله أعلم بذلك، ودخل بغداد مرَّات، وانقادَ أهلُها له فيه بلا منازعة، وله معَهم حكايةٌ مشهورة في امتحانهم له بقلب الأسانيد والمتون، فصحَّحَ كلَّها في السَّاعة، وحين وقع الفتنةُ واشتدَّ المحنةُ في مسألة خلقِ القرآن رَجع مِن بغداد إلى بُخارى فتلقَّاه أهلهُا في تجمُّلٍ عظيم ومَقدَمٍ كريم، وبقي مدَّةً يُحدِّثهم في مسجدِه فأرسل إليه أمير البلد خالد بن محمَّد الذهليُّ يتلطَّف معَه ويسألُه أن يأتيَه «بالصَّحيح» ويُحدِّثهم به في قصرِه، فامتنعَ البخاريُّ مِن ذلك، وقال: لا أُذِلُّ العلمَ ولا أحملُه إلى أبواب الناس، فحصلتْ وحشةٌ بينهما فأمرَه الأمير بالخروج عن البلد، ويُقال: إنَّ البخاريَّ دعا عليه فلم يأتِ شهرٌ حتَّى وردَ أمرُ دار الخلافة بأن يُنادَى على خالد في البلد، فنُودي عليه على أَتانٍ، وحُبس إلى أنْ مات، ولما خرج مِن بُخارى كتب إليه أهل سَمَرْقند يخطبونَه إلى بلدهم فسارَ إليهم فلمَّا كان بقرية خَرْتَنْك _بفتح المعجمة وإسكان الرَّاء وفتح الفوقانيَّة وسكون النُّون_ وهي على فرسخين مِن سَمَرْقند بلغَه أنَّه وقع بينهم بسببِه فتنة، فقومٌ يريدون دخولَه وقومٌ يكرهونَه، فأقام بها حتَّى ينجليَ الأمر فضَجر ليلةً فدعا وقد فرغَ مِن صلاة اللَّيل : اللَّهمَّ قد ضاقت عليَّ الأرضُ بما رحُبتْ فاقبضْني إليك، فمات في ذلك الشَّهر سنة ستٍّ وخمسين ومائتين وعمرُه اثنان وستُّون سنة، فإن قُلتَ: كيف استجاز الدُّعاء بالموت وقد خرَّج هو في «صحيحِه»: ((لاَ يَتَمَنَّيَنَّ أَحَدُكُمُ المَوْتَ لِضُرٍّ نَزَلَ بِهِ))؟ قلتُ: نصُّوا بأنَّ المرادَ بالضُّرِّ هو الدُّنيويُّ، وأمَّا إذا نزل ضرٌّ دينيُّ فإنَّه يجوز تمنِّيه خوفًا مِن تطرُّق الخَلل في الدِّين، ولمَّا دُفِن فاحَ مِن تراب قبرِه رائحةُ الغالية أطيبُ مِن المسك، وظهر سوار بيضٍ في السَّماء مستطيلة حِذاءَ القبر، وكانوا يرفعون التُّراب منه حتَّى ظهر الحفرةُ للنَّاس، ولم يكن يُقدَر على حفظ القبر بالحرَّاس، فنُصِب على القبر خُشبٌ مشبَّكات، فكانوا يأخذون ما حواليه مِن التُّراب والحَصَيَات، ودامَ ريح الطِّيب أيَّامًا كثيرة حتَّى تواتر عند جميع أهل تلك البلاد، وأمثال هذه الكرامات الإلهية لا يستعظم بالنِّسبة إلى أمثال هؤلاء العبَّاد، رفع الله ذكرَه الشَّريف وقد فعل، وجعلَ له لسان صِدقٍ في الآخرين وقد جعل.
          واعلم أنَّ علم الحديثَ موضوعُه: هو ذاتُ رسول الله صلعم مِن حيث إنَّه رسول الله صلعم .
          وحدُّه هو: عِلمٌ يُعرف به أقوال رسول الله صلعم وأفعالُه وأحوالُه.
          وغايتُه: هو الفوز بسعادة الدَّارين. وأنَّ عدد كتب «الجامع» مئةٌ وشيءٌ، وعدد الأبواب ثلاثة آلاف وأربعُ مئةٍ وخمسونَ بابًا مع اختلافٍ قليلٍ في نسخ الأُصول، وعدد الأحاديث المُسنَدة فيه سبعةُ آلافٍ ومئتانِ وخمسةٍ وسبعونَ حديثًا، والمكرَّرات منه قريبُ النِّصف، فأحاديثُه بدون التَّكرار تقاربُ أربعةُ آلافٍ، وعدد مشايخِه الذين خرَّج عنهم فيه مائتان وتسعةٌ وثمانون، وعدد مَن تفرَّد بالرِّواية عنهم دون مسلم مئةٌ وأربعةٌ وثلاثون، وتفرَّد أيضًا بمشايخ لم يقع الرِّواية عنهم كبقيَّة أصحاب الكتب الخمسة إلَّا بالواسطة، ووقع له اثنان وعشرون حديثًا عاليًا رفيعًا ثلاثيَّ الإسناد، أعلى اللهُ درجتَه ودرجتنا يومَ التَّناد، على رؤوسِ الأشهاد، ورزقنا شفاعةَ مَن توسَّلنا إليه بكلامِه، خير خلائقِه وأفضل أنامِه، وجمعنا عند حضرتِه الشريفة صلعم في دار إكرامِه، وسلامٌ على المرسلين والحمد لله ربِّ العالمين.