الكواكب الدراري في شرح صحيح البخاري

كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله صلعم

          قال أبو عبد الله البخاريُّ ☺:
          (♫)
          ░░1▒▒ (بابٌ كيفَ كانَ بَدْءُ الوَحْيِ).
          قولُه : (بَابٌ) يجوز فيه وفي نظائرِه أوجهٌ ثلاث أحدُها: رفعُه مع التَّنوين، والثَّاني: رفعُه بلا تنوينٍ على الإضافة، وعلى التقديرين هو خبرُ مبتدأٍ محذوف، أي هذا بابٌ، والثالثُ : (بابْ) على سبيل التَّعداد للأبواب بصورة الوقفِ فلا إعرابَ له.
          قولُه: (وَقَوْلِ اللهِ) هو مجرور عطفًا على محلِّ الجملة التي هي : (كَيْفَ كَانَ بِدْءُ الوَحيِ) أو مرفوعٌ عطفًا على لفظِ البَدء، وذَكَرَ البخاريُّ الآيةَ الكريمةَ لأنَّ عادتَه أنَّه يستدلُّ للتَّرجمة بما وقع له مِن قرآنٍ وسنَّةٍ مسندةٍ وغيرِها، وأرادَ أنَّ الوحيَ سنَّةُ الله تعالى في أنبيائِه. وقال الإمام أبو الحسن عليُّ بنُ بطَّالٍ المالكيُّ المغربيُّ: معنى هذه الآية أنَّ اللهَ تعالى أوحى إلى محمَّد صلعم / كما أوحى إلى سائر الأنبياء عليهم السلام وحيَ رسالةٍ لا وحيَ إلهامٍ لأنَّ الوحيَ ينقسم على وجوهٍ. وأقول: وإنَّما ذكر نوحًا عليه السلام ولم يَذكر آدم لأنَّه أوَّل مُشرِّعٍ عند بعض العلماء، أو لأنَّه أوَّل نبيٍّ عُوقب قومُه فخصَّصَه به تهديدًا لقومِ رسول الله صلعم .
          قولُه: (بَدْءُ) البَدء على وزن فَعْلُ يُحتمل أن يكونَ مهموزًا فهو بمعنى الابتداء، وأن يكون ناقصًا فهو بمعنى الظهورِ، والوحي أصلُه الإعلامُ في خَفاء، وقيل الإعلامُ بسرعةٍ، وكلُّ ما دلَّلتَ به مِن كلام أو كتابة أو رسالة أو إشارة فهو وحيٌ، ومِن الوحي الرُّؤيا والإلهام، وأوحى ووَحَى لغتان، والأُولى أفصح وبها ورَد القرآن، وقد يُطلق ويُراد به اسم المفعول منه، أي المُوحَى، وأمَّا بحسب اصطلاح المُتشرِّعة فهو كلامُ اللهِ المنزل على نبيٍّ مِن أنبيائِه.
          قال الإمام أبو عبد الله التَّيميُّ الأصبهانيُّ: الوحيُ أصلُه التَّفهيم، وكلُّ ما فُهم به شيءٌ مِن الإشارة والإلهام والكتب فهو وحيٌ، قيل في قولِه تعالى: {فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَن سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا} [مريم:11] أي كَتبَ، وفي قولِه: {وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ} [النحل:68] أي أَلهمَ، وأمَّا الوحي بمعنى الإشارة، فكما قال الشَّاعر:
يَرْمُوْنَ بِالْخُطَبِ الطِّوَالِ وَتَارَةً                     وَحْيَ الملَاحِظِ خِيفةَ الرُّقَبَاءِ
          وقال : واعلمْ أنَّه لمَّا كان كتابُه معقودًا على أخبارِ النَّبيِّ صلعم طلبَ تصديرَه بأوَّل شأن الرِّسالة والوحي، ولم يُرد أن يُقدِّم عليه شيئًا، ولهذا لم يُقدِّم عليه الخطبة.
          فإنْ قيل: والتَّرجمةُ لبيان بَدءِ شأن الوحي، والحديثُ لبيان كون الأعمال محتاجةً إلى النيَّة؟ قُلنا: قال العلماء: البخاريُّ أوردَ هذا الخبر بدلًا مِن الخُطبة وأنزلَه منزلتَها، فكأنَّه قال: بدأتُ بهذا الكتابِ وصدَّرتُه بكيفية بَدء الوحي وقصدتُ به التقرُّب إلى الله فإنَّ الأعمال بالنيَّات.
          قال: واعلم أنَّه لو قال: كيف كان الوحي وبدؤُه؟ لكان أحسنَ لأنَّه تعرّض لبيان كيفيَّة الوحي لا لبيان كيفية بَدء الوحي، وكان ينبغي أن لا يُقدِّم عليه بعقب الترجمة غيرَه ليكون أقربَ إلى الحسِّ، وكذا حديث ابن عباس ☻: ((كَانَ رَسُولُ اللهِ صلعم أَجْوَدَ النَّاسِ)) لا يدلُّ على بدءِ الوحي ولا تعرَّض له، غير أنَّه لم يقصد بهذه الترجمة تحسينَ العبارة وإنَّما مقصودُه فهم السامع والقارئ إذا قرأ الحديثَ علم مقصودَه مِن التَّرجمة فلمْ يشتغل بها تعويلًا منه على فَهْم القارئ.
          أقول: ليس قولُه: لكان أحسنَ، مُسلَّمًا لأنَّا لا نُسلِّم أنَّه ليس بيانًا لكيفية بدء الوحي إذ يُعلم ممَّا في الباب أنَّ الوحيَ كان ابتداؤُه على حال المَنام ثمَّ في حالِ الخلوة بغار حِراء على الكيفيَّة المذكورة مِن الغَطِّ ونحوِه، ثمَّ ما فرَّ هو عنه لازمٌ عليه على هذا التَّقرير أيضًا إذ البدء عطفٌ على الوحي كما قرَّرَه فيصحُّ أن يُقال ذلك إيرادًا عليه أيضًا، وليس قولُه: كان ينبغي، أيضًا مسلَّمًا إذ هو بمنزلة الخُطبة وقصد التقرُّبَ كما قال هو بنفسِه، والسَّلفُ كانوا يستحبُّونَ افتتاحَ كلامِهم بحديث النيَّة بيانًا لإخلاصِهم فيه، وليس قولُه : وكذا حديثُ ابن عباس، مسلَّمًا إذ فيه بيانُ حال الرسول صلعم عند ابتداء نزول الوحي أو عند ظهور الوحي، والمرادُ مِن حال ابتداء الوحي حالُه مع كلِّ ما يتعلَّق بشأنِه أيَّ تعلُّقٍ كان كما في التعلُّق الذي للحديث الهِرَقْليِّ، وهو أنَّ هذه القصة وقعتْ في أحوال البعثة ومبادئِها، أو المراد مِن الباب بجملتِه بيانُ كيفية بَدءِ الوحي لا مِن كلِّ حديث مِنه، فلو عُلِمَ مِن مجموع ما في الباب كيفيةُ بَدءِ الوحي مِن كلِّ حديث شيءٌ ممَّا يتعلَّق به لصحَّ التَّرجمة.