مصابيح الجامع الصحيح

حديث: كذب إنما قنت رسول الله بعد الركوع شهرًا

          1002- (كَذَبَ) إن قلتَ: ما قول الشَّافعيَّة حيث يَقْنتون بعد الرُّكوع متمسِّكين بحديث أنس المذكور، وقد قال الأصوليُّون: إذا كذَّب الأصلُ الفرعَ؛ لا يُعمَل بذلك الحديث ولا يُحتجُّ به؛ قلتُ: لم يكذِّب أنس محمَّد بن سيرين، بَلْ كذَّب الفلان الَّذي ذكره عاصم، ولعلَّه غير محمَّد، انتهى.
          وقال شيخنا: إنَّه محمَّد بن سيرين.
          إن قلتَ: فما تقول في الحَصْر المستفاد من (إنَّما) على (الشَّهر) إذ مفهومه انَّه لم يقنت إلَّا شهرًا بعدَ الرُّكوع؛ قلتُ: مَعْناه: لم يقنت إلَّا شهرًا في جميع الصَّلوات بعد الرُّكوع بَلْ في الصُبح فقط، حتَّى لا يلزمه التَّناقض بين كلاميه، ويكون جمعًا بينهما، ويدلُّ على إطلاق لفظ القنوت.
          وما جاء في الرِّوايات: (قال عاصم: سألتُ أنسًا عن القنوت في الصَّلاة) أي: مطلق الصَّلاة، وما رُوِيَ عن ابن عبَّاس قال: (قنت ◙ شهرًا متتابعًا في الظُّهر والعَصْر والمغرب والعشاء والصُّبح إذا قال: (سمع الله لمن حمده) من الرَّكعة الآخرة يدعو على رعل وذكوان وعصيَّة).
          فقوله: (كذب)؛ على هذا التَّقدير معناه: كذب فيما قال أنَّه بعد ركوع جميع الصَّلوات.
          إن قلتَ: لفظ: (قَبْلَهُ) نصٌّ في أنَّه قبل الرُّكوع، فما جوابك عنه؛ قلتُ: كان في بعض الأوقات قبله وفي بَعْضها بعدَه، ففعل الأمران، إلَّا أنَّ الشَّافعيَّ رجَّح بعدَه؛ ليطابق حديث أبي هريرة الَّذي سيأتي آنفًا أنَّه بعد رفع الرَّأس من الرَّكعة الأخيرة.
          أو لمَّا تعارض حديث محمَّد وعاصم عن أنسٍ وتساقطا؛ عُمِلَ بحديث أبي هريرة.
          إن قلتَ: ذلك في الدُّعاء للمسلمين أو للدُّعاء على الكافرين لا في الألفاظ المَشْهورة؛ قلتُ: لا قائل بالفَصْل، أو تقاس تلك الدَّعوات على هذه الدَّعوات.
          ابن بطَّال: اختلفوا في القنوت، فقال مالك: هو قبل الرُّكوع.
          الشَّافعيُّ: بعدَه، وذلك في الصُّبْح، وإذا حَدَثت نازلة؛ ففي غير الصُّبْح أيضًا.
          أحمد: قَبْلَه وبَعْدَه.
          رُوِيَ عن أنسٍ أنَّ كلَّ ذلك / كان يُفعل قبلُ وبعدُ.
          الكوفيُّون: لا قنوت في شيء من الصَّلوات المكتوبة، إنَّما القنوت في الوتر.
          الطَّبريُّ: والصَّواب فيه أن يقال: صحَّ عنه ◙ أنَّه قنت على قَتَلَةِ القرَّاء إمَّا شهرًا أو أكثر في كلِّ صلاةٍ مكتوبة، وصحَّ أيضًا أنَّه لم يزل يقنت في صلاة الصُّبْح حتَّى فارق الدُّنيا.
          فنقول: إذا أناب المسلمين نائبةً؛ كان القنوت حَسَنًا في الصَّلواتِ، وإلَّا؛ ففي الصُّبح.
          قال: ووجه اختيار مالك قبل الرُّكوع؛ ليدرك المستيقظ من النَّوم الرَّكعة الَّتي بها يدرك الصَّلاة، ولذلك كان الوقوف في الصُّبح أطول من غيرها.
          ووجه قول أنس: (كذب) أنَّه كذب إن كان قال عنه أنَّ القنوت أبدًا بعد الرُّكوع.
          (أَرَاهُ) أي: قال أنس: أظنُّ رسول الله صلعم.
          إشارة: لم يَنْجُ من القرَّاء إلَّا كَعْب بن زيدٍ الأنصاريَّ، وكان ذلك في السَّنة الرَّابعة.
          (دُوْنَ أُوْلَئِكَ) مَعْناه: يَعْني غير الَّذين دعا عليهم، وكان بين المدعوِّ عليهم وبينه عَهْد فَغَدروا وقتلوا القرَّاء؛ فَدَعَا عليهم.