نيل الأماني في توضيح مقدمة القسطلاني

في آداب كتب الحديث وروايته

          قوله: (بِضَبْطِ الحَدِيْثِ)؛ أي: في الكتابةِ.
          قوله: (مِنْ غَيْرِ مَشْقٍ وَلَاْ تَعْلِيْقٍ) هُما نوعان من أنواع الخط غير مبينين بيان غيرهما، بل فيهما نوع خفاء، وقد ذكرتهما في «سعود الطالع» مع باقي أنواع الخط فاغنم بمراجعته الحظ(1) .
          قوله: (بِحَيْثُ يُؤْمَنُ مَعَهُ اللَّبْسُ)؛ أي: ليؤديه كما سمعه، وفي نقْطه وشكْله أمنٌ من اللَّبس.
          قال الأوزاعي: نورُ الكتاب إعجامه. قال الرامهرمزي: أي نَقْطه؛ بأن يبين التاء من الياء، والحاء من الخاء، قال: والشَّكْل تقييد الإعراب.
          وقال ابن الصلاح: إعجامُ المكتوب يمنع من استعجامه، وشكله يمنع من إشكاله، قال: وكثيرًا ما يعتمدُ الواثق على ذهنه، وذلك وخيمُ العاقبة فإنَّ الإنسان معرَّض للنسيان. انتهى.
          وقيل: إنَّ النصارى كفروا بلفظةٍ أخطؤوا في إعجامها وشكلها؛ فإن الله قال في الإنجيل لعيسى: (أنت نبيي وَلَّدتُك من البتول) بتقديم النون على الموحدة في نبي، وتشديد لام (ولدتك) فصحفوها، وقالوا: (أنت بنيي وَلَدْتُكَ) مخففة.
          وقيل: أولُ فتنة وقعت في الإسلام سببها ذلك أيضًا؛ وهي فتنة عثمان ☺فإنَّه كتبَ للذي أرسله أميرًا إلى مصر إذا جاءكم «فاقبلوه» بالموحدة، فصحفوها «فاقتلوه» بالفوقية فجرى ما جرى، وكتبَ بعض الخلفاء إلى عاملٍ له ببلدٍ: أن احْصِ المخنثين بالحاء المهملة أي بالعدد، فصحَّفها بالمعجمة فخصاهم.
          قوله: (وَإِنَّمَا يَشْكُلُ)؛ أي: قيلَ لا يَشكُلُ الكلَّ، بلْ يَشْكُلُ المُلتبسَ فقط؛ إذ لا حاجة إلى الشكل في غيره، وقالوا: يُكره النَّقْط والشَّكْلُ في الواضح، ويَشْكِل بفتح الياء وكسر الكاف من شكل الكتاب.
          ويستحبُ ضبطُ المُشكل في نفس الكتاب، وكَتْبِهِ أيضًا مضبوطًا واضحًا في الحاشية قُبالته، فإن ذلك أبلغُ؛ لأنَّ المضبوطَ في نفسِ الأسطر رُبَّمَا داخله نقطُ غيره وشكله مما فوقه أو تحته لاسيما عند ضيقها ودقة الخط، قال ابن دقيق العيد: من عادةِ المتقدمين أن يُبالغوا في إيضاحِ المُشكل، فيفرقوا حروف الكلمة في الحاشية ويضبطوها حرفًا حرفًا.
          قوله: (لِلْمُبْتَدِئِ...) إلى آخره، عبارته: لا سيما للمبتدي وغير المُتَبَحِّر في العلم، فإنَّهُ لا يميزُ ما يُشْكِل ممَّا لا يُشْكِلُ، ولا صوابَ وجه إعراب الكلمة من خطئه، قال العراقي: وربما ظنَّ أنَّ الشيء غير مُشكل لوضوحه، وهو في الحقيقةِ محلُّ نظرٍ محتاجٍ إلى الضبط، وقد وقعَ بين العلماء خلافٌ في مسائل مرتبة على إعراب الحديث، كحديث: «ذَكَاةُ الجَنِيْنِ / ذَكَاةُ أُمِّهِ» فاستدلَّ بهِ الجمهور على أنَّه لا تجب ذكاة الجنين بناء على رفع ذكاة أمه، ورجح الحنفية الفتح على التشبيه، أي: يُذكَّى مثل ذكاة أمه.
          تنبيهٌ: يُكرهُ تدقيقُ الخطِّ؛ لأنَّه لا ينتفع به مَن في نظرهِ ضعفٌ، إلَّا من عُذْرٍ، كضيقِ وَرَقٍ أو تخفيفٍ لحِمْلٍ في سفرٍ.
          ولا ينبغي أن يصطلح مع نفسه في كتابه برمزٍ لا يعرفه الناس فيوقعُ غيره في حيرة في فهم مراده؛ فإنْ فعل ذلك فليبين أوَّل الكتاب أو آخره مراده، قال النووي كابن الصلاح: وينبغي أن يجعلَ بين كلِّ حديثين دائرةً للفصل بينهما، كما نُقل ذلك عن جماعات كأحمد ابن حنبل وابن جرير. ويُكره في مثل عبد الله وعبد الرحمن بن فلان وكل اسم مضاف إلى الله كتابة عبد آخر السطر واسم الله مع أن فلان أول الآخر، بل أوجب اجتناب مثل ذلك الخطيب وابن بطة، وكذا يُكره في رسول الله أن يكتب رسول آخره والله أوَّله. انتهى.
          قال الجلال: وكذا كلُّ ما أشبه ذلك من المُوْهمات المستبشعات؛ كأنْ يكتب (قاتلُ) من قوله: «قاتل ابن صفية في النار» في آخر السطر، وابن صفية في أوله، أو يكتب: (فقال) من قوله في حديث شَارِبِ الْخَمْرِ: (فَقَالَ عُمَرُ: أَخْزَاهُ الله) آخره، وعمر وما بعده أوَّله، ولا يُكره فصلُ المتضايفين إذا لم يكن مثل ذلك: كسبحان الله العظيم مع أن جمعهما في سطر أولى. انتهى.
          وينبغي أن يحافظ على كتابة الصلاة والسلام على رسول الله صلعم كلما ذُكر ولا يَسْأَمَ تكراره، ولا يتقيد فيه بما في الأصل إن كان ناقصًا بل يكتبهُ ويتلفظُ به عند القراءة مطلقًا؛ لأنَّه دعاء لا كلامٌ يرويه، وإنْ قال بعضهم ينبغي أن تُتبع الأصول والروايات، وعليه جرى الإمام أحمد فكان يُصلي نطقًا لا خطًّا، وكذا ينبغي المحافظة على الثناء على الله تعالى كــ (╡)، والترضي والترحم على الصحابة والعلماء وسائر الأخيار، ويكره الاقتصار على الصلاة أو التسليم في كل موضعٍ شُرعت فيه الصلاة، كما في «شرح مسلم» وغيره، قال حمزة الكناني: كنت أكتبُ عند ذكر النَّبيِّ صلعم الصلاة دون السلام، فرأيت النبي صلعم في المنام يقول لي: ما لك لا تتم الصلاة عليَّ؟! ويُكره الرمز إليهما في الكتابة بحرف أو حرفين كمَنْ يكتب (صـلعم)، ويقال: إنَّ أولَّ من رمزها بـــ (صـلعم) قُطعت يده.
          قوله: (عَلَى رِوَايَةٍ وَاحِدَةٍ)؛ أي: بأن يضبطَ ألفاظه على ما رواه اليونيني فقط، أو الإسماعيلي فقط، أو الكشميهني فقط، أو غيرهم ممن أخذ عن البخاري، وما ذكرهُ الشارح من أنَّ بعضَ مشايخه رأى ذلك مأخوذ من كلام ابن الصلاح والنووي إذ قال: ينبغي أن يعتني بضبط مختلف الروايات وتمييزها، فيجعل كتابه على رواية واحدة، ثم ما كان في غيرها من زياداتٍ ألحقها في الحاشية، أو نقصٍ علَّمَ عليه، أو خلاف كَتَبَهُ مُعيِّنًا في كل ذلك مَن راويه بتمامِ اسمه لا رامزًا له بحرفٍ أو حرفين من اسمه.
          قوله: (وَيَتَأَكَّدُ ضَبْطُ المُلْتَبِسِ...) إلى آخره، ذكر أبو علي الغساني أن عبد الله بن إدريس قال: لما حدَّثني شُعبة بحديث أبي الحَوراء عن الحسن بن علي كتبت تحته {وَحُورٌ عِينٌ } [الواقعة:22] لئلا أغلطَ فأقرأهُ أبو الجوزاء بالجيم والزاي. انتهى.
          قوله: (وَلْيُقَابِلْ مَا يَكْتُبُهُ...) إلى آخره؛ أي: وجوبًا كما قاله القاضي عياض، وإن أجازهُ الشيخ، روى ابن عبد البر وغيره عن يحيى بن أبي كثير والأوزاعي قالا: ومن كتبَ ولم يعرضْ كان كمن دخل الخلاء ولم يستنجِ.
          وقال عُروة بن الزبير لابنه هشام: كتبتَ؟ قال: نعم، قال: عرضت كتابك؟ قال: لا، قال: لم تكتب.
          وفي المسألة حديث ذكره السّمْعاني في «الإملاء» من حديث عطاء بن يسار قال: كَتَبَ رَجُلٌ عِنْدَ النَّبِي صلعم فَقَالَ لَهُ: «كَتَبْتَ؟» قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: «عَرَضْتَ؟» قَالَ: لَاْ، قَالَ: «لَمْ تَكْتُبْ، حَتَّى تَعْرِضَهُ فيَصِحُّ».
          قال أبو الفضل الجارودي: أصدقُ المعارضة مع نفسك. انتهى.
          قال ابن الصلاح: وهو مذهبٌ متروك، وأفضلها أن يمسك هو وشيخه كتابيهما حال التسميع، وما لم يكن كذلك فهو أنقص رتبة، ولا يُشترط في روايته ذلك نظره ولا مقابلته بنفسه بل يكفي مقابلة ثقةٍ لهُ؛ أي: وقت كان حالَ القراءة وبعدها.
          قوله: (أَوْ فَرْعٍ مُقَابَلٍ...) إلى آخره؛ أي: لأنَّ الغرض مطابقة كتابه لأصل شيخه فسواء حصل ذلك بواسطة أو غيرها فإن لم يقابل كتابه بالأصل ونحوه فجزم عياض بمنع الرواية منه مطلقًا، وأجازها أبو إسحاق الإسفرايني وآباء بكر: الإسماعيلي والبُرقاني والخطيب، بشروطٍ ثلاثة: أن يكون الناقلُ للنسخة صحيح النقل قليل السقطْ، وأن ينقل من الأصل، وأن يبين حال الرواية أنَّه لم يُقابل، ولا يكفي السماع على الشيخ من أي نسخة اتفقت.


[1] المشق: سرعة الكتابة، والتعليق: خلط الحروف التي ينبغي التفريق بينها.