نيل الأماني في توضيح مقدمة القسطلاني

المدبج

          قوله: (وَالمُدَبَّجُ بالمُوَحَّدَةِ)؛ أي: المفتوحة المُشَدَّدة بعد الميم المضمومة والمُهملة المفتوحة، وأوَّلُ من سماهُ بذلك الدَّارقُطني كما قاله العراقي، قيل: سُمي بذلك لحُسنه؛ لأنَّ المدبج لغةً المُزَيَّن، والرواية كذلك لنكتة يعدل فيها عن العلو إلى المساواة أو النزول، فيحصل للإسناد بذلك تزيين، وقيل لنزول الإسناد فيكون ذَمًّا من قولهم: رجل مُدبَّج قبيح الوجه، والذي جزم به في «شرح النخبة» أنَّه مأخوذٌ من ديباجتي الوجه، وهما الخَدَّان لتساويهما وتقابلهما.
          قلت: وهذا هو الظاهر على ما ذهب إليه الجمهور، وجرى عليه الشارح من أنَّه رواية القرينين... إلى آخره، أما على ما جرى عليه الدَّارقطني من أنَّهُ لا يتقيدُ بالقرينين بل كلُّ اثنين روى كل منهما عن الآخر، فيُحتمل أنَّه من قبيل الأول وهو الظاهر، أو الثاني؛ لأنَّ العدول عن العُلو قبحٌ ما.
          قوله: (رِوَايَةُ القَرِيْنَيْنِ)؛ أي: مرويُّ المتقارنين من الصحابة أو التابعين أو أتباعهم أو أتباع أتباعهم وهكذا.
          قوله: (وَالإِسْنَادِ)؛ أي: الأخذُ عن الشيوخ، والجمعُ في المساواة بين السنِّ والسند أغلبي، وقد يُكتفى بالتساوي في السند وإن تفاوتوا في السنِّ، ولا فرقَ بينَ أن تكون الرواية عن القرين بواسطة أو بدونها.
          مثالها بدون واسطة في الصحابة: رواية عائشة عن أبي هريرة وبالعكس، وفي التابعين: رواية الزهري عن ابن الزبير وبالعكس، وفي أتباع التابعين رواية مالك عن الأوْزَاعِي وبالعكس، وفي أتباع أتباعهم رواية أحمد ابن حنبل، عن علي بن المَديني وبالعكس، ومثالها بها: أن يروي الليث عن يزيد بن الهاد، عن مالك، ويروي مالك عن يزيد عن الليث.
          تنبيه: قد تكون رواية الأقران من غير تدبيجٍ وهي انفرادُ أحدِ القرينين بالرواية عن الآخر، كرواية الأعمش عن التيمي، فالمُدَبَّج أخصُّ من الأقران، فكلُّ مُدبج / أقران ولا عكس، وخرج بالقرين ما إذا روى عَمَّنْ دونَهُ سنًا أو رُتبةً فذلك روايةُ أكابر عن أصاغر، كرواية الآباء عن الأبناء، كرواية الزهري عن مالك، والدليل عليها رواية النبي صلعم عن تميم الدَّاري خبر الجسَّاسة _وهي دابة كثيرة الشعر لا يُعلم قُبُلها من دُبُرها_ وذلك: «أَنَّ تَمِيْمًا كَانَ سَافَرَ إِلَى الغَرْبِ مَعَ جَمَاعَةٍ مِنْ قَوْمِهِ، فَطَلَعُوْا عَلَى جَزِيْرَةٍ هُنَاكَ، فَرَأَوْا هَذِهِ الدَّابَةَ فَفَزِعُوْا مِنْهَا، فَقَالَتْ: لَاْ تَفْزَعُوْا أَنَا الجَّسَّاسَةُ أَتَجَسَّسُ الأَخْبَارَ لِلمَسِيحِ الدَّجَّالِ، وقيل: هِيَ الَّتِي تَخْرُجُ وَتَسِمُ النَّاسَ فِيْ وُجُوْهِهِم، وَكَانَ تَمِيْمٌ إِذْ ذَاكَ نَصْرَانِيًّا فَلَمَّا رَجَعَ أَسَلَمَ ☺، وأخبر النَّبيَّ صلعم بِذَلِكَ، فَجَمَعَ الصَّحَابَةَ وَخَطَبَ لَهُمْ خَبَرَ تَمِيْمٍ عَنْ الْجَسَّاسَةِ».
          قلت: هذا مُشعرٌ بأنَّ الدجال موجودٌ حيٌّ من وقتها، ولعله يعرف بقرينة من أحوال العالم وقت خروجِه، وقيضَ له الله هذه الدابة تُخبرهُ عما تجده، حتى إذا رأت هذه الأحوال وأخبرته بها عَلِمَ أنَّه آن أوانه فيظهرُ، وإلَّا فأيُّ فائدة لتسخيرِ هذه الدابة وتَعَرُّفِه منها الأخبارَ، ويؤيدهُ ظنُّ الصحابة في ابنِ صَيَّادٍ أنَّه الدجال حتى همَّ بعضهم بقتله، فقال له النَّبيُّ صلعم: «إِنْ يَكُنْهُ فَلَنْ تُسَلَّطَ عَلَيْهِ...» الحديث، وإن كانَ يحتمل أنَّ هذه الدابة أوجدها الله تعالى قبله بمدةٍ لحكمةٍ يعلمها.
          ومن ذلك رواية الصحابة عن التابعين كرواية العباس عن ابنه الفضل، ووائل عن ابنه بكر، وكرواية العبادلة وأبي هريرة وأنس عن كعب الأحبار، والعبادلة أربعة: عبد الله بن عباس، وعبد الله ابن عمر، وعبد الله بن عمرو بن العاص، وعبد الله بن الزبير، نظمها بعضهم في قوله:
أبناءُ عباسٍ وعمرٍ وعُمَرْ                     ثمَّ الزبيرِ هُمُ العبادلةُ الغررْ
          فمتى أُطْلِقَ عبد الله انصرف إلى أحدهم.
          قال في «شرح التقريب»: وليس ابن مسعود منهم؛ لأنَّه تقدَّم موته وهؤلاء عاشوا حتى احتيج إلى علمهم، فإذا اجتمعوا على شيءٍ قيل هذا قول العبادلة، وقيل: هم ثلاثةٌ بإسقاط ابن الزبير وعليه اقتصر الجوهري في «الصحاح»، وقول الرافعي في الديات، والزمخشري في «المفصل» أنَّ العبادلة ابن مسعود وابن عمر وابن عباس قد غلطا فيه من حيث الاصطلاح.
          أما رواية الأبناء عن الآباء فكثيرٌ، وأخصُّ منه مَنْ روى عن أبيه، عن جده، فإنْ تقدَّم موت أحد قرينين اشتركا في الأخذ عن شيخٍ فلذلك هو السابق واللاحق، وسيأتي، وفائدة معرفة هذه الأنواع التمييزُ بين الراويين وتنزيل الناس منازلهم، فربما ظن برواية رجل عن آخر أن الراوي أنزل من المروي عنه كما هو الغالب، ويكون في الحقيقة أعلى أو قرينًا، وكذا عدم توهم واسطة محذوف.