نيل الأماني في توضيح مقدمة القسطلاني

المدرج

          قوله: (وَالْمُدْرَجُ) من الإدراج وهو الإدخال، سُمِّيَ بذلك لما فيه من إدخال كلام آخر فيه، والإدراج قسمان؛ لأنَّه إمَّا أن يكون في السند أو في المتن، والمُدرج في المتن ثلاثة أنواع، والمُدرج في السند أربعة، فالجملة سبعة كما ستعرفه.
          قوله: (كَلَاْمٌ يُذْكَرُ)؛ أي: يذكرُهُ الرَّاوي للحديث سواء كان صحابيًا أو غيره وسواء كان ذلك الكلام لنفسه أو غيره لأجل تفسيرِ غريبٍ في الحديث كخبر الزهري عن عائشة: «كَانَ صلعم يَتَحَنَّثُ فِيْ غَارِ حِرَاءٍ _وهو التعبد_ الليالي ذوات العدد»، فقوله: وهو التعبد... إلى آخره، مدرجٌ؛ تفسيرٌ للتحنث، أو لاستنباط ما فهمه بعض رواته كما في حديث بُسرة الآتي فإنَّ عروة فهم منه أنَّ سببَ النقض مظنَّة الشهوة فجعل حكم ما قَرُب من الذَكَر كذلك؛ لأنَّ ما قرب من الشيء يُعْطَى حكمه فقال: (أو أنثييه أو رُفْغَيْه).
          قوله: (عَقِبَ الْحَدِيْثِ) كان الأولى أن يقول: يُذكر مع الحديث؛ ليعمَّ ما يُذكر في أوله أو وسطه أو آخره، كما سيذكر ذلك بقوله: (وَيَكُوْنُ فِيْ المَتْنِ تَارَةً فِيْ أَوَّلِهِ...) إلى آخره، ولعله أراد الأغلب.
          وقوله: (مُتَّصِلًا)؛ أي: بالحديث من غير فصلٍ بين الحديث وذلك الكلام بذكر قائله مثلًا.
          وقوله: (يُوْهِمُ أَنَّهُ مِنْهُ)؛ أي: يُوهم مَن لم يعرفْ حقيقةَ الحال أنَّه من الحديث وأنَّ الجميع مرفوعٌ.
          وهذا تعريف للإدراج في المتن وهو ثلاثةُ أنواع كما أشرنا إليه، وأشار إلى الإدراج في السند بقوله: (أَوْ يَكُوْنُ عِنْدَهُ مَتْنَانِ...) إلى آخره، وتقدم أنَّه أربعة أنواع:
          الأول: أن يكون متنان مُختلفي الإسناد عند راوٍ فيرويهما عنه راوٍ فيجعلهما جميعًا متنًا واحدًا، مقتصرًا على أحد السندين.
          الثاني: أن يروي جماعةٌ الحديثَ بأسانيد مختلفة فيرويه عنهم راو ويجعل الكلَّ إسنادًا واحدًا.
          الثالث: أن يسوقَ المحدِّث الإسناد إلى منتهاه فيقطعه قاطعٌ عن ذكر متنه ويذكر كلامًا أجنبيًّا، فيظنُّ بعضُ من سمعه أن ذلك الكلامَ متنُ ذلك الإسناد، فيرويه عنه كذلك.
          الرابع: أن يكون متن عند راوٍ بإسنادٍ إلَّا طرفًا منه فإنَّه عنده بإسناد آخر فيرويه عنه راوٍ تامًّا بالإسناد الأول ولا يذكر إسناد طرفه الثاني الذي فيه الزيادة.
          وقد ذكر الشارح الأول بقوله: (أو يكون عنده متنان...) إلى آخره، والثاني بقوله: (أو يسمع حديثًا من جماعة...) إلى آخره، والثالث بقوله: (أو يسوق الإسناد...) إلى آخره، وترك الرابع وكأنَّه لدخوله في الأول لما سنذكره من أنَّه يصدقُ على ذلك الطرف أنَّه متن آخر كما يصدق على جميع الأول أنَّه متن كذلك.
          قوله: (أَوْ يَكُوْنُ عِنْدَهُ مَتْنَانِ)؛ أي: مختلفين بإسنادين مختلفين كما هو ظاهرٌ.
          وقوله: (فَيَرْوِيْهِمَا)؛ أي: جميعهما أو جميع أحدهما وبعض الآخر، فيدخل الرابع حينئذ في كلامه أيضًا.
          قوله: (بِأَحَدِهِمَا)؛ أي: أحد السندين.
          وقوله: (كَرِوَايَةِ سَعِيْد بن أَبِي مَرْيَم)؛ أي: عن مالك، عن الزهري، عن أنس أنَّ رسول الله صلعم قال: «لَاْ تَبَاغَضُوْا...» إلى آخره، فأدرجَ ابن أبي مريم، قوله: «وَلَاْ تَنَافَسُوْا» من متنٍ آخر، وهو ما رواه مالك أيضًا، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة، عن النَّبيِّ صلعم ولفظه: «إِيَّاكُمْ وَالظَّنَّ؛ فإن الظَّنَّ أَكْذَبُ الحديث، ولاَ تَجَسَّسُوا وَلاَ تَنَافَسُوا وَلَاْ تَحَاسَدُوْا» وكلا الحديثين متفقٌ عليه من طريق مالك، وليس في الأول «ولا تنافسوا» فهي مدرجةٌ من ابن أبي مريم.
          وهذا المثالُ صالح للنوع الذي ذكره الشارح والرابع الذي زدناه؛ إذ كل من الحديثين متنٌ له إسناد خاص روى أحدهما كاملًا مع بعض الآخر ابنُ أبي مريم وصَيَّرَهُمَا بإسنادٍ واحدٍ وَهَمًا كما جزم به الخطيب، ويَصدق على تلك الزيادة أنَّها متن كما يصدق على جميع الحديث الأول أنَّه متن كذلك كما أفاده في «شرح التقريب».
          قلت: يؤخذُ منه أنهم اعتبروا في الإدراج أن يكون ذلك الكلام المُدرج ليسَ من كلام النبوة وإلَّا فالمُتبادر أن يكون هذا من الإدراج في المتن مع أنهم عَدُّوْهُ من إدراجِ السند؛ نظرًا إلى ما فعله الراوي من عنده في الإسناد لا لما / زادَ من كلام النبوَّة بذكره الحديث الثاني كلًّا أو بعضًا عقب الأول الذي هذا السند سندٌ له خاصة، كان كأنَّه أدرج سند الثاني في سند الأول فيكون إدراجًا ضمنيًا كذا ظهر، فتأمل.
          قوله: (فِيْ إِسْنَادِهِ)؛ أي: كحديث عبد الله بن مسعود: «قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَيُّ الذَّنْبِ أَعْظَمُ؟ قال: أَنْ تَجْعَلَ لِلَّهِ نِدًّا...» الحديثَ. فإنَّ الأعمش ومنصور بن المعتمر روياه عن شقيق، عن عمرو بن شُرحبيل، عن ابن مسعود، ورواه واصل الأسدي، عن شقيق، عن ابن مسعود وأسقط عَمْرًا فجاء الثوري، ورواه عن واصل ومنصور والأعمش، عن شقيق، عن عمرو، عن ابن مسعود، فأدرج رواية واصل في رواية منصور والأعمش؛ لأنَّ واصلًا لم يذكر فيه عَمْرًا بل يجعله عن شقيق، عن ابن مسعود.
          قوله: (أَوْ مَتْنِهِ) لفظُ المتن مُستدرك هنا وكأنَّه أشار به إلى القسم الرابع الذي ذكرنا أنَّه تركه إن لم يكن اعتمد على دخوله في الأول كما أومأنا إليه؛ وهو أن يكون المتن عنده بإسنادٍ إلَّا طرفًا منه فبآخر إلى آخر ما سبق، وقد تقدَّم ما يصلح مثالًا له.
          وقوله: (بِاتِّفَاقٍ)؛ أي: في المتن أو السند ولا يبينُ ما اختلف فيه.
          قوله: (مِنْ مَتْنِ الْحَدِيْثِ) الظاهرُ أن (من) زائدة وإلَّا كان من الإدراج في المتن الآتي.
          قوله: (وَيَكُوْنُ فِيْ الْمَتْنِ) الضمير راجعٌ للأصل الذي هو الإدراج، وتقدم أنَّ أنواع إدراج المتن ثلاثةٌ وقد ذكرها الشارح بقوله (تَارَةً فِيْ أَوَّلِهِ...) إلى آخره.
          قوله: (كَحَدِيْثِ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَسْبِغُوْا...) إلى آخره، الأولى بل الصواب التمثيل بما رواه شَبَابةُ وغيره، عن شُعبة، عن محمد بن زياد، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلعم: «أَسْبِغُوا الْوُضُوءَ، وَيْلٌ لِلْأَعْقَابِ من النَّارِ»، فإنَّ هذه الرواية فيها رفعُ الجملتين مع أنَّ الأولى من كلام أبي هريرة كما بيَّنه جمهور الرواة عن شعبة، كما في رواية البخاري، عن آدم، عن شعبة، عن محمد بن زياد، عن أبي هريرة قال: (أَسْبِغُوا الْوُضُوءَ؛ فإن أَبَا الْقَاسِمِ صلعم قال...) إلى آخره، ما ذكره الشارح، فرواية الشارح مبيِّنَةٌ للرواية التي ذكرناها، وهي التي فيها الإدراج، وهذه لا إدراج فيها؛ لتصريح محمد بأنَّ الجملة الأولى من كلام أبي هريرة، بل أفادَ أبو هريرة نفسه أنَّها من كلامه إذ علَّلَها بقوله: (فإنَّ أبا القاسم...) إلى آخره، وشرط المدرج الإيهام، ولا إيهام مع التصريح، على أنَّ قول أبي هريرة: (أَسْبِغُوا...) إلى آخره، قد ثبت في الصحيحين مرفوعًا من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص، وعليه فلا يكون من الإدراج في شيء، ولذا مثَّلَ في «شرح التقريب» لذلك بما رواه الدَّارقطني في «السنن» من رواية هشام، عن عروة، عن بُسرة بنت صفوان قالت: سمعتُ رسول الله صلعم يقول: «مَنْ مَسَّ رفْــغَيْهِ أو أُنْثَيَيْهِ أو ذَكَرَهُ فَلْيَتَوَضَّأْ»، والرّفغان بفتح الراء وضمها: تثنية رفغ بالغين المعجمة أصل الفخذة، قال: قال الدارقطني: كذا رواه عبد الحميد، عن هشام، وَوَهَمَ في ذِكر الأنثيين والرفغ، وإدراجه لذلك في حديث بُسرة، والمحفوظ أنَّ ذلك قول عروة، وكذا رواه الثقات عن هشام كحماد ابن زيد بلفظ «من مَسَّ ذَكَرَهُ فَلْيَتَوَضَّأْ»، قال: وكان عروة يقول: «إذا مسَّ رفْــغيه أو أنثييه أو ذكره فليتوضأ»، فعُروة فَهِم من لفظ الخبر أن سبب نقض الوضوء مظنَّةُ الشهوةِ فجعل حُكم ما قرب من الذَكَر كذلك فقال ذلك، فظنَّ بعضُ الرواة أنَّه مِن وَصْلِ الخبر فنقله مُدرجًا فيه، وفَهِم الآخرون حقيقة الحال ففَصَلوه. انتهى.
          قوله: (وَيَكُوْنُ أَيْضًا فِيْ أَثْنَائِهِ) تركَ التمثيل له، ومن أمثلته حديث عائشة في بدء الوحي وهو قول الزهري فيه: (وهو التعبد الليالي...) إلى آخره، وقد قدمناه لك آنفًا.
          قوله: (وَهُوَ الْأَكْثَرُ)؛ أي: من وقوعه أوله أو أثناءه، وفي الأثناء قليلٌ بالنسبة للمدرج في الآخر، كثيرٌ بالنسبة للمدرج في الأول، فإنَّه في الأول نادر جدًا حتى قال الحافظ ابن حجر: لم يوجد منه غير خبر «أَسْبِغُوا الْوُضُوءَ، وَيْلٌ...» إلى آخره إلَّا ما وقع في بعضِ طُرقِ خبر بُسرة المارِّ عندَ الطبراني بلفظ «مَنْ مَسَّ رُفْغَيْهِ...» إلى آخره.
          تنبيهان:
          الأول: يُعرف الإدراجُ بورودهِ مُفَصَّلًا في رواية أخرى، أو بالتنصيص على ذلك من الراوي وبعض الأئمة المطَّلعين كما يُعلم مما سبق، أو باستحالة كونه صلعم يقول ذلك كما في الصحيحين عن أبي هريرة مرفوعًا: «لِلْعَبْدِ الْمَمْلُوكِ أَجْرَانِ، وَالَّذِي نَفْسيْ بِيَدِهِ لَوْلَا الْجِهَادُ في سَبِيلِ اللَّهِ وَالْحَجُّ وَبِرُّ أُمِّي لَأَحْبَبْتُ أَنْ أَمُوتَ وأنا مَمْلُوكٌ»، فقوله: (والذي نفسي بيده...) إلى آخره، مُدْرَجٌ من كلام أبي هريرة؛ لأنَّه يمتنع منه صلعم أن يتمنى الرِّقَّ، ولأنَّ أمه لم تكن إذ ذاك موجودةً حتى يَبَرَّهَا.
          الثاني: لا يجوزُ تعمد الإدراج في متن أو سند لتضمنه عزو القول لغير قائله إلَّا ما كان لتفسير غريبٍ كما فعله الزهري وغيره من الأئمة، كذا ذكره أئمة الحديث، قلت: استثناء تفسير الغريب يقتضي أنَّه إذا كان الإدراج لفائدةٍ لا يضرُّ وحينئذ فيظهرُ قياس / ما يُدرجه الراوي المجتهد قياسًا على المذكور؛ كما تقدَّم في حديث: «مَنْ مَسَّ أُنْثَيَيْهِ...» إلى آخره، فإنَّه وإن لم يصادف الحق ففضلًا عن كونه لا يُعاقب به، له فيه أجرٌ، فلينظر.
          قوله: (أَبُوْ خَيْثَمَةَ) بفتح الخاء المعجمة وسكون المثناة التحتية وفتح المثلثة، وقوله: (زُهَيْر) بدلٌ منه.
          قوله: (ابْنُ الحُرِّ) بضم الحاء المهملة آخره راء مشددة.