نيل الأماني في توضيح مقدمة القسطلاني

العزيز

          قوله: (وَالعَزِيْزُ...) إلى آخره، سُمِّيَ بذلكَ لقلةِ وجوده، من عزَّ يعِزُّ بكسر عين المضارع، أو لكونه قوي بمجيئه من طريق آخر، من عَزَّ يَعَزُّ بفتحها، ومنه قوله تعالى: {فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ} [يس:14] .
          قوله: (اثْنَان أَوْ ثَلَاْثَة)؛ أي: من طبقةٍ واحدةٍ من طبقاته، وخرج بالتقييد بالاثنين الغريب، والثلاثة المشهور، وهذا على ما ذهب إليه ابن منده إذ قال: إذا انفرد عن الزهري وشبهه من الأئمة ممَّن يسمع حديثه رجل بحديثٍ يُسمى غريبًا، وإن انفردَ عنهم اثنان أو ثلاثة يُسمى عزيزًا وإن رواه عنهم جماعة يُسمى مشهورًا. انتهى.
          وهو مردودٌ، فالأولى بل الصواب إسقاط قوله: (أو ثلاثة) والمعوَّلُ عليهِ ما في «النخبة» من تخصيص الثلاثة فما فوقها بالمشهور، والاثنين بالعزيز، فالغريب ما رواه عن الإمام واحد فقط، والعزيز ما رواه عنه اثنان فقط، والمشهور ما رواه عنه ثلاثة فأكثر، ثُمَّ مَا رواهُ الواحدُ كذلك غريب ولو رواه بعد ذلك مئة عن هذا الواحد.
          وكذا يُقال في العزيز غايتهُ أن يُحْدَثَ للحديث اسمٌ آخر باعتبار الرواة قلة وكثرة بعد ذلك؛ فقد يكون الحديث الواحد غريبًا عزيزًا مشهورًا، بأن يرويه عن الإمام أولًا واحد، ثم يرويه عن هذا الواحد الواحد اثنان، ثم يرويه عنهما ثلاثة فأكثر فيُسمى بالأسماء الثلاثة بهذه الاعتبارات الثلاثة، والإمام يصدق به صلعم اصطلاحًا.
          تنبيه: ليس العزيز من حيثُ تعددُ رواته شرطًا للصحيحِ، بلْ يكون الغريب المروي من طريق واحد صحيحًا خلافًا للجبائي المعتزلي وللقاضي ابن عربي في شرح البخاري؛ فإنَّه صَرَّحَ أنَّه شرطٌ للبخاري.
          قال ابن رُشَيد _بالتصغير_ كان يكفي القاضي في بطلان دعواه أول حديث مذكور في صحيح البخاري؛ _يعني: «إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ»_ فإنَّه تفردَ به عن عمر بن الخطاب علقمة.
          تكلُّفُ القاضي الجواب عن هذا بأن عمر بن الخطاب قد خطبَ به على المنبر بحضرةِ الصحابة، ولولا أنهم يعرفونه بسماعهم له من غير عمر لأنكروه مردودٌ بأنَّه عندهم ثقةٌ، لو حدَّثهم بما لم يسمعوه قط لم ينكروه عليه، والحاصلُ أنَّ الحديث الصحيح لا يُشترط فيه تعدد الرواة بخلاف العزيز.